التغافل

سامي بن محمد العمر
1446/04/28 - 2024/10/31 21:46PM

التغافل

 

هل صحيح هذا الذي يُقال فيه؟

أحقًا له كل هذه المزايا؟ وكل هذه المآثر؟

أفعلاً أنه يحفظ الكرامة، ويكسو الهيبة والوقار والعز والمكانة؟

لقد قالوا: إنه علاج المشاحنات، ووائد القطيعات،

وبه يخبو العتب، ويعلو الأدب، وتُنال الرتب،

وفيه راحة البال، واستقامة الأحوال، واطمئنان النفس، وحلول السعادة والأُنس.

وقالوا: إنه يعين المخطئ على الحياء من زلته، والمسارعة إلى توبته، وعدم تكرار فعلته.

وقالوا: إنه فن لا يُحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءةِ والأخلاقِ العظيمة.

وقبل أن نتعرف عليه أسوق لكم هذا المشهد الصغير من حياة أشرف الخلق بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم:

عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورةَ في بيت التي كَسَرتْ([1]).

هل عرفتم الأمر الذي استحق كل ما سمعتم من ذاك الثناء؟

إليكم محاولة أخرى؛ ومشهدًا آخرَ من حياته صلى الله عليه وسلم:

فقد قال كثير من المفسرين: إن "حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسرَّ لها النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر ألا تخبر به أحدًا، فحدثت به عائشةَ رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرَّفها صلى الله عليه وسلم ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحلمًا"([2]).

  عباد الله:

إن غضَّ الطرف عن الهفوات، واحتمالَ الزلات والسقطات، وعدمَ إحصاء الأخطاء والسيئات، وتركَ التصيد للعثرات والسلبيات، والترفعَ عن صغائرِ الأمور وسفاسفِ الأخلاق، وتعمدَ الغفلة عن سوء التصرف الذي يصدر ممن تتعامل معهم من الناس أقرباء َكانوا أم بُعداءَ = هو أدبٌ رفيع، وفنٌ راقٍ لا يحسنه إلا قويُّ العزم، مروَّضُ النفس، شديدُ المراس، سمحٌ كريمٌ، لا يفرحُ بزلة، ولا يحفَلُ بخطأ، ولا يعددُ المثالب، ولا يُحصي النقائص، ولا يقفُ عند كل كلمة وحركة وخطأ، ولا يجعلُ من الحبة قبة ولا قنبلة يدمرُ بها العلاقات ويزيدُ بها المآسي.

إن المتمرسَ على هذا الخلق ليرى في عيني المخطئ بريقَ العرفانِ والتقديرِ والاحترام، ويلاحظ ُفي وجهه أماراتِ الخجلِ والحياءِ من نكارة ما فعل.

كما قال إخوة يوسف {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] لما رأوه يغض الطرف عن أخطائهم حين قالوا {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77]

إنه التغافل أيها الأزواج والزوجات

إنه التغافل أيها الآباء والأمهات

إنه التغافل أيها المعلمون والمعلمات

إنه التغافل أيها المديرون والمسؤولون والكبراء.

التغافل الذي به تملكُ قلوب الناس، وتأسِرُ مشاعرهم، وتديمُ ألفتَهم ومحبتَهم وصحبتَهم.

التغافل: كلمةٌ طيبة، وبسمةٌ حانية، ونبرةٌ هادئة، وإغماضُ عين، وصرفُ نظر، وانحناءٌ يسير حتى تمر العاصفة، وتعودُ الأمور إلى مجاريها، وتستمرُ المياه في سواقيها.

التغافل: أخذُ وقتٍ لتفَهُّمِ الحقيقة، وإضرابٌ عن الطيش، واستعمالٌ للحِلم، وتسكينٌ للغضب المكروه.

 {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]

قال الإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل. [شعب الإيمان (10/ 575)]

وقيل: التعايش مع الناس مكيالٌ مملوء: ثلثاه فطنة وثلثه تغافل.

وقال أيوب السختياني: لا يسود العبد حتى تكون فيه خصلتان: اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم.

وصدق من قال:

ليس الغبي بسيد في قومه **** لكن سيد قومه المتغابي

 

بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

عباد الله:

من عجائب الأمور أن الغفلة أمر مذموم لكن استعمالها من العقلاء محمود، لأنهم يستعملونها في مواضعها، ويستفيدون منها لصالح أنفسهم ومن يعاشرون، فالتغافل منهم صادر عن فطنة وذكاء، والتغاضي صادر عن محبة ووفاء.

فليست كل زلة تحتاج لتدخل، ولا كل هفوة يمكن التغاضي عنها، ولكن الفطنة في التركيز على ما يفيد، وترك ما يضر، بلا سذاجة ولا غباء ولا ضعف ولا تأكيد للخطأ، وإنما هو إصلاح الغير دون خدشٍ لكرامته ولا كسرٍ لكبريائه ولا حطٍ من قدره ولا نيلٍ من حيائه، والمنصفُ من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.

قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصمّ فسرّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقّب بحاتم الأصم([3]).

ألم أقل لكم إنها أخلاق العظماء؟!

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]

 



([1]) البخاري (5225).
([2]) تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 873)
([3]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 328)

المرفقات

1730400369_التغافل.docx

المشاهدات 699 | التعليقات 0