الاعتصام من الفتن
إبراهيم بن سلطان العريفان
1444/04/10 - 2022/11/04 09:53AM
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوة الإيمان والعقيدة ... عن عبدالله بن عمرو t أن رسول الله ﷺ قال (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَر).
عباد الله .. لقد كثرت الفتن في هذا الزمان، وأصبح المسلم يرى الفتن بكرة وعشياً، وحلَّ من البلايا والمحن والنوازل والخطوب الجسام الشيءُ الكثير، وما ذاك إلاَّ بسبب ما آل إليه حالُ المسلمين من ضياعٍ وتشتت، وبُعدهم عن منهج الإسلام، وتفشي المنكراتِ بينهم؛ فتسلطت عليهم الأمم الكافرة، واستباحت بيضَتَهم.
وقد أنذر النبيُّ ﷺ من الفتن وحذَّر من الوقوع فيها، فقال ﷺ (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) وقال رسول الله ﷺ (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ (الْقَتْلُ).
إنَّ من الكياسة والفطنة أن يعرف المسلم منهج السلف الصالح في مواجهة الفتن، وكيف كانوا يتعاملون معها عند وقوعها، لأن الفتن إذا لم تُراعَ أحوالها، وتُنظر نتائجها؛ فإنها تُشكِّلُ خطراً على المجتمع، إلا أن يشاء الله.
فتعرفوا على مواقف السلف الصالح ومنهجهم في التعامل مع الفتن والمحن عند وقوعها؛ ليكون المسلم على بصيرة من أمر دينه، ولنقتفي أثرهم، فمن سار خلف مهتدٍ وِفْقَ الأدلة الشرعية فلن يندم أبداً. ونسأل الله التوفيق والسداد.
أيها المسلمون ... إنَّ أوَّلَ ما يُعتصمُ به من الفتن: كتابُ الله عزَّ وجل، وسُنةُ النبي ﷺ، فإنه لا نجاة للأمة من الفتن والشدائد إلا بالاعتصام بهما، ومن تمسك بهما أنجاه الله، ومن دعا إليهما هُدِيَ إلى صراط مستقيم، قال الله تعالى ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[ ويقول النبي ﷺ (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ).
ومما يعصِمُ من الفتن: الالتفاف حول العلماء الربانيِّن؛ أئمةِ أهل السنة والجماعة؛ فهم أنصارُ شرعِ الله، والذين يبينون للناس الحقَّ من الباطلِ، والهُدَى من الضلال، قال ﷺ (إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ) فحضورَ حِلَقِهِم، وزيارتَهم، وتوثيقَ العلاقةِ بهم؛ يقطع على أعداءِ الإِسلام السبيل للنخر في الإِسلام وتمزيق وحدة المسلمين.
ومما يُعتصم به من الفتن: لزوم الجماعة، قال الله ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[ وقال نبينا ﷺ (أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ) وفي رواية (مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ) وقد أوصى ابنُ مسعود t من سألوه عن الفتن بقوله: اتقوا الله، واصبروا حتى يستريحَ بَرٌ، أو يُستَرَاحَ من فَاجِر، وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أُمَّةَ محمدٍ على ضلالة. ولما سأل حذيفةُ t رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الشر وبيَّنه له، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال له (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ).
ومما يعْصِمُ من الفتن: التَّسَلُّحُ بالعلم الشرعي، قال النبي ﷺ (إِنَّهُ سَيُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَلاءٌ شَدِيدٌ، لا يَنْجُو مِنْهُ إلاَّ رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللهِ، فَجَاهَدَ علَيْهِ بِلِسَانِهِ وقَلْبِه) فالعلم الشرعي مطلبٌ مهمٌ في مواجهة الفتن؛ ليكون المسلمُ على بصيرةٍ من دينه، ومن فَقَد العلم الشرعي تخبَّطَ في الفتن، فإذا انقطع عن الناس نور النبوة؛ وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم.
أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله على إفضاله وإنعامه، فله الحمد كُلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمر كُلُّه، وإليه المصير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..
معاشر المؤمنين ... اتقوا الله حق التقوى، واستعيذوا به من الفتن، فلا معصومَ إلاَّ من عصمه الله ]إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ[.
عباد الله .. في أوقات الفتن تكثر الإشاعات، وتنشط الدعايات، ويُشمِّرُ المُغرِضُون عن سواعدهم بالكَذِبِ والإثَارَة، ولخطورةِ الشائعاتِ على بُنيَةِ المجتمعِ كانَ السلفُ الصالحُ رضوانُ الله عليهم يحرِصُونَ على التَّثَبُّتِ من كُلِّ قول ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[ وقال رسول الله ﷺ (كفى بالمرء إثماً أن يُحدِّثَ بكل ما سمع) يقول عمر t: إياكم والفتن، فإن وَقْعَ اللِّسانِ فيها مثلُ وَقْعِ السيف. ومن تتبع أحداثَ التاريخِ تبيَّنَ له ذلك.
وإن مما يعصم من الفتن: البعدُ عن مواطنها، وعدمُ التعرضِ لها أو الخوضِ فيها، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ) وهذا بيانُ عظيمِ خطرِهَا، والحثُّ على تجنُّبِهَا والهرَبُ منها، وعدم التشبث في شيء منها. قال أبو الدرداء t: لا تقربوا الفتنة إذا حَمِيَتْ، ولا تعرَّضُوا لها إذا عَرَضَتْ، واضْرِبُوا أهْلَهَا إذَا أقْبَلَتْ.
ومن الأخطاء العظيمة في زمن الفتن: مراجعةُ أحاديثِ الفتنِ في وقت الفتنة، وتطبيقُها على أوقاتٍ وأشخاصٍ معيَّنين، وهذا منهجٌ خاطئ، فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم يذكرون أحاديث الفتن للتحذير منها، وإبعادِ المسلمين من القرب عنها، وليعتقدوا صحةَ ما أخبر به النبيُّ ﷺ ويَدَعُونَ الواقعَ هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمرُ قالوا كما قال صحابة رسول الله ﷺ ]هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[.
لقد تَسَلّل الأعداءُ بين الصفوف، وازدهرت في هذا الزمن تجارةُ المنافقين وراجت بضاعتُهُم، وكثُرَ أتباعُهُم، وما نجح المنافقون في تحقيق أهدافهم وخططهم وفتكهم بالإسلام والمسلمين، إلا بسبب قِلَّةِ الوعيِ عند معظم المسلمين.
إن على المسلم أن يُكثِرَ من التَّعَوُّذِ بالله من الفتن، أُسْوَةً بالنبي ﷺ فقد كان من دعائه في صلاته (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُون) وقال ﷺ (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) فالفتن إذا أتت لا تصيبُ الظالمَ وحده، وإنما تُصيبُ الجميع:
نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا برعايته، ويعصمنا من شرور المحن، ويميتنا على السنن.
المرفقات
1667544766_الاعتصام من الفتن.docx
1667544784_الاعتصام من الفتن.pdf