الإيمان باليوم الآخر - جزء 6/8 (بعضٌ مِن مشاهد القيامة)

ماجد بن سليمان الرسي
1445/06/01 - 2023/12/14 08:25AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله حكيم في تشريعه، حكيم في تقديره، حكيم في جزائه، وإن من حكمة الله تعالى أن جعل لهذه الخليقة معادًا يجازيهم فيه على ما كلَّفهم به على ألسنة رسله، قال تعالى ﴿‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فتعالى الله الملك الحق﴾.

·     أيها المؤمنون، تقدم الكلام في خطبٍ ماضية عن بعض مقتضيات الإيمان باليوم الآخر، وهي الإيمان بالنفخ في الصور، وأهوال القيامة، وبعث الخلائق، وحشر الناس إلى أرض المحشر، والجزاء والحساب، ونعيم الجنة، وصفة النار، واليوم نتكلم بإذن الله عن بعض مشاهد القيامة.

1.        عباد الله، ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان ببعض مشاهد القيامة، ومنها تطاير الصُّحُف، أي صحائف الأعمال، فيأخذها الناس، فمنهم من يأخذها باليمين وهم أهل الاستقامة، المستحقون لدخول الجنة، ومنهم من يأخذها بالشمال وهم الكفار، فالمؤمن يأخذ كتابه وهو فرحٌ مستبشر، قال تعالى ﴿فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية﴾.

وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، فكما أنه جعل كتاب الله وراء ظهره في الدنيا؛ فإنه يعطى كتابه من وراء ظهره في الآخرة، جزاء وفاقا، فيأخذه وهو حزين مُتحسِّر، قال تعالى ﴿وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوتَ كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه﴾‏‏، وقال تعالى ﴿وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا﴾‏‏.

2.        معاشر المؤمنين، ومن مشاهد القيامة ضرب الصِّراطِ على متـنِ جهنم، أي ظهرِها، وهو مَدحَضةٌ مَـزِلَّـــــة، أي تزلِق عليه الأقدام ولا تثبت[1]، عليه خطاطيف[2] وكلاليب[3]، وحَسَكةٌ مُفلطحةٌ - أي شوكة صلبة فيها عَرضٌ واتِّساع[4] - ، على رأسها شوكةٌ عَـــِقَيــفَةٌ - أي ملتوية كالصنارة[5] - تكون بنَـــــــــجدٍ، يُقال لها السَّعدان.

ثم يَـمُرُّ عليه الناس، وتكون أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هي أوَّل من يجيز من الأمم، فإذا مرَّ الناس على الصراط صاروا ثلاثة أصناف: إما ناجٍ مُسَلَّمٌ، أو ناجٍ مخدوشٌ، أو مكدوسٍ – أي مدفوعٍ - في نار جهنم، فالخطاطيف والكلاليب والأشواك ينجو منها أناس ويسلمون من خدشِها وإمساكِها، وهم المؤمنون الكُـمَّل الذين قاموا بطاعة الله واجتنبوا معصيته، وهم الصنف الأول.

والصنف الثاني من الناس هم من تخدِشُهم الكلاليب ولكن يَسلَمون من إمساكها بهم ويعبرون الصراط، وهم المؤمنون الذين عندهم معاصٍ لم تستوجب دخول النار، بل الخدش هو عقوبتهم في الآخرة فحسب ثم ينجون.

والصنف الثالث هم الذين تخطِفُهم الكلاليب وتهوي بهم إلى النار بدفع وقوة، وهؤلاء هم المؤمنون الذين استحقوا دخول النار بسبب ما عندهم من المعاصي والكبائر، فيُعذبون فيها بقدر معاصيهم ثم يُخرجون منها.

وكذلك المنافقون يمرون على الصراط، فتخطِفُهم الكلاليب وتهوي بهم في نار جهنم عياذا بالله، ويخلدون فيها أبد الآباد، في الدرك الأسفل من النار.

وأما الكفار فلا يمرون على الصراط أصلا، بل يُساقون إلى النار سوقا قبل أن يُضرب الصراط على متن جهنم، قال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا)، وقال تعالى عن فرعون (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود).

فتتبع كل فرقة من الكفار ما كانت تعبد، كالأصنام والشمس والقمر، فتـرِدُ النار مع معبوداتها، تَعرِض لهم كأنها سراب، يَـحْطِمُ بعضها بعضا، فيتساقطون فيها، حمانا الله من ذلك، ثم يُضرب الصراط على متن جهنم، فيمر المؤمنون والمنافقون، حسب التفصيل السابق.[6]

عباد الله، وسُرعةُ الناس على الصِّراط ليست باختيارهم، ولا بقوة أجسادهم، بل بحسب أعمالهم، كما جاء في الحديث (تجري بهم أعمالهم)[7]، فمن كان عمله صالحا حسناً مرَّ سريعا، فمنهم من يَـمُرُّ على الصِّراط كطرف العين، ومنهم من يَـمُرُّ كالبرق، ومنهم من يَـمُرُّ كالريح، ومنهم من يَـمُرُّ كالطير، ومنهم من يَـمُرُّ كأجاويدِ[8] الخيل والرِّكاب، ومنهم من يمر كعَدْوِ الرجال، حتى يَـمُـرَّ آخرهم يُسحبُ سحباً، وأما من ساء عمله مرَّ بطيئا، وربما خَــطَفته الكلاليب إن كان ممن استحق النار.[9]

3.        أيها المؤمنون، ومن مشاهد القيامة وقوف أناس من المؤمنين على قنطرة بين الجنة والنار، ففي ذلك اليوم يقف المؤمنون الذين عُذِّبوا في النار بعد خروجهم منها على قنطرةٍ – أي جسرٍ – بين الجنة والنار ليتخلصوا مما علِق بقلوبهم من الغِلِّ والحسد والبغضاء، فلا يدخلون الجنة إلا وقد طَـهُرت قلوبهم، فقد أخرج البخاري رحمه الله في تفسير قوله تعالى )ونـزعنا ما في صدورهم من غل(‏‏ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يَـخلُصُ المؤمنون من النار[10]، فيُحبَسون على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فيُقتصُّ لبعضهم من بعضِ مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُـــقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده؛ لأحدُهم أهدى بمنـزِلِه في الجنة مِنهُ بمنـزلِـــهِ كان في الدنيا.[11] قال ابن تيمية رحـــــــــمه الله: فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الـخَـبَث شيء، بل إذا كان في النفس خبث طُـهِّرت وهُذِّبت، حتى تصلح لسكنى الجنة.[12] انتهى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

4.        الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من مشاهد القيامة شفاعات النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة، وهي أربع شفاعات غير الشفاعة العظمى التي تقدم ذكرها في خطبة ماضية، فأولها شفاعتُه (صلى الله عليه وسلم) للمؤمنين في دخول الجنة، فإن المؤمنين إذا أتوا الجنة وجدوا أبوابها مغلقة، فعندئذ يطرق النبي (صلى الله عليه وسلم) باب الجنة، فيقول خازن الجنة[13]: من أنت؟ فيقول: محمد. فيقول: بك أُمِرتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلك.[14]

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياءِ تَـــبَعاً[15].[16]

فالنبي (صلى الله عليه وسلم) هو أول من يدخل الـجنة، ولا يدخلها أحد قبله، وفي هذا إظهارٌ لشرف النبي (صلى الله عليه وسلم) وشرف أمته، في كونه أول داخل للجنة من الأنبياء، وكون أمته أول من يدخل الجنة من الأمم.

وثاني شفاعات النبي (صلى الله عليه وسلم) شفاعته لمن لا حِساب عليهم يوم القيامة في دخول الجنة، ودليلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في الشفاعة، وفيه: يا محمد، أدخِل من أمتك من لا حِساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة[17].[18]

وثالث شفاعات النبي (صلى الله عليه وسلم) شفاعته لعصاة المؤمنين ممن دخلوا النار بسبب معاصيهم في الخروج منها، وهي التي عناها (صلى الله عليه وسلم) في قوله: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة)[19]، وكذا في قوله (صلى الله عليه وسلم): شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.[20]

والشفاعة الرابعة؛ شفاعته (صلى الله عليه وسلم) لعمه أبي طالب لتخفيف العذاب عنه، لأنه كان يدافع عنه ويَرُدُّ عنه أذى المشركين، فعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي (صلى الله عليه وسلم): ما أغنيتَ عن عمِّك؟ فوالله كان يحوطُك ويغضَبُ لك. قال: هو في ضَحْضاحٍ[21] من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْكِ الأسفل من النار.[22]

وبعد عباد الله، فهذه أربعة مشاهد من مشاهد القيامة، تطاير الصحف، وضرب الصِّراطِ على متـنِ جهنم، ووقوف أناس من المؤمنين على قنطرة بين الجنة والنار، وشفاعات النبي (صلى الله عليه وسلم) الخمس[23] التي سيقوم بها يوم القيامة.

اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد (صلى الله عليه وسلم) في الآخرة. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم ارزقنا حبك، وحب كل عمل يقربنا إليك.

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم. رب اغفر لنا ذنوبنا كلها، دِقَّها وجُلَّها، وأولها وآخرها، وعلانيتها وسرها. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه وسلِّم تسليما كثيرا.

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان الرسي، واتس: 00966505906761، في الحادي والعشرين من شهر محرم لعام 1443، وهي منشورة في:

www.saaid.net/kutob

https://t.me/jumah_sermons



[1] انظر «النهاية».
[2] خطاطيف جمع خطَّاف، وهو الحديدة المعوجة كالكلوب، يُـختطف بها الشيء. انظر «النهاية».
[3] الكلاليب جمع كلُّوب، بتشديد اللام، وهو حديدة معوجة الرأس. انظر «النهاية».
[4] انظر «النهاية» و «لسان العرب».
[5] انظر «النهاية».
[6] انظر «صحيح البخاري» (7437) ومسلم (182) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذلك «صحيح البخاري» (4581) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[7] انظر «صحيح مسلم» (195) عن حذيفة رضي الله عنه.
[8] أجاويد جمع جواد، وهو الفرس السابق الجيد. انظر «النهاية».
[9] انظر دليل ما تقدم في صحيح البخاري (7437، 7439) وصحيح مسلم (182، 183).
[10] أي يسلَمون منها فيخرجون بعدما نشِبوا فيها. انظر «لسان العرب».
[11] رواه البخاري (6535).
[12] انظر «فتاوى ابن تيمية» (14/344)، بتصرف يسير واختصار.
[13] الخازن هو الحافظ للشيء، وقد اشتُهر تسمية خازن الجنة بـ «رضوان»، وهذا لا دليل صحيح عليه، والصواب تسميته بخازن الجنة كما جاء في الحديث، أفادني بها الشيخ محمد بن علي آدم الأثيوبي رحمه الله.
[14] رواه مسلم (197) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[15] أي أتباعا من الناس.
[16] رواه مسلم (196) واللفظ له، وأحمد (3/140)، والدارمي في المقدمة، باب ما أعطي النبي من الفضل.
[17] قلت: في هذا تنبيه لفضلهم، فإن للجنة سبعة أبواب كما جاء في التنزيل ﴿لها سبعة أبواب﴾، وكونهم يدخلون من الباب الأيمن منها فيه تنبيه لفضلهم، فإن فضل التيامن معلوم في الإسلام.
[18] رواه البخاري (4712).
[19] رواه البخاري (6304) ومسلم (198) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] رواه الترمذي (2435)، وأبو داود (4739)، وأحمد (3/213) وصححه الألباني في المشكاة (5598 - 5599) عن أنس رضي الله عنه.
[21] قال ابن الأثير في «النهاية»: الضَّـحـضاح في الأصل: ما رقَّ من الماء على وجه الأرض، ما يبلغ الكعبين، واستُعير هنا للنار.
[22] رواه البخاري (3883) ومسلم (209) وأحمد (1/206).
[23] انظر الكلام فيها في «تهذيب السنن» لابن القيم، كتاب السنة، باب في الشفاعة، (5/2269)، الناشر: مكتبة المعارف - الرياض.

المرفقات

1702531523_‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 6.docx

1702531524_‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏خطبة مختصرة في الإيمان باليوم الآخر- جزء 6.pdf

المشاهدات 462 | التعليقات 0