الإيثـــار

محمد بن سليمان المهوس
1442/08/11 - 2021/03/24 15:59PM

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  فَقَالَ: « ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أَوْ عَجِبَ- مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الأَخْلاَقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَعَانِي النَّبِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الأَصِيلَةِ، الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَدَعَتْ إِلَيْهَا سُنَّةُ سَيِّدِ الأَنَامِ، وَسَطَّرَهَا الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ: خُلُقُ الإِيثَارِ، وَهُوَ ‏تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ وَحُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، ‏وَرَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ.

وَالإِيثَارُ ضِدُّ الشُّحِّ؛ فَإِنَّ الْمُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ تَارِكٌ ‏لِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ؛ وَهَذَا أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْجُودِ، وَالشَّحِيحُ حَرِيصٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدَيْهِ.

وَالإِيثَارُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ  وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [ الحشر: 9].

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِمَا عِنْدَ الرَّحْمَنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20].

وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [متفق عليه].

وَالإِيثَارُ‏ مِنْ أَكْثَرِ الْعِبَادَاتِ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ وَتَقْوِيَةً لِلْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» [رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنة الألباني].

وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ مَرِضَ فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي عِيَادَتِهِ! فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَخْزَى اللهُ مَالاً يَمْنَعُ الإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: ‏مَنْ كَانَ عَلَيْهِ لِقَيْسٍ حَقٌّ، فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، قَالَ: فَانْكَسَرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ بَالْعَشِيِّ لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ.

[تهذيب مدارج السالكين ص 642].

فَانْظُرُوا -عِبَادَ اللهِ- كَيْفَ تَوَثَّقَ الرِّبَاطُ وَتَجَمَّعَ الرِّفَاقُ يَوْمَ آثَرَ قَيْسٌ إِخْوَانَهُ بِمَالِهِ.

وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنَّ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الإِيثَارِ:

إِيثَارَ رِضَا الْخَالِقِ عَلَى رِضَا الْمَخْلُوقِ، ‏قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ» ‏[رَواهُ الترمذيُّ وصحَّحَهُ الألباني].

وَلِهَذَا النَّوعِ مِنَ الإِيثَارِ عَلاَمَتَانِ تَدُلاَّنِ عَلَيْهِ، لاَ بُدَّ أَنْ تَظْهَرَا عَلَى مُدَّعِيهِ، وَهُمَا:

الأَوَّلُ: أَنْ يَفْعَلَ الْمَرْءُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَأْمُرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مَكْرُوهًا إِلَى نَفْسِهِ، ثَقِيلاً عَلَيْهِ.

الثَّاني: أَنْ يَتْرُكَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحَبَّـــبًا إِلَيْهِ، تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ، وَتَرْغَبُ فِيهِ. يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَبِهَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يَصِحُّ مَقَامُ الإِيثَارِ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مِنَ الأَعْمَالِ أَخْلَصَهَا وَأَزْكَاهَا، وَمِنَ الأَخْلاَقِ أَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ فِي الْحُصُولِ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ هُوَ:

إِخْلاَصُ الْعَمَلِ للهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَا تُقَدِّمُهُ لأَخِيكَ مِنْ مَعْرُوفٍ وَبِرٍّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [ الإنسان: 8-9 ]، فَلاَ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِحَاجَةٍ رِيَاءً أَوْ سُمْعَةً أَوْ زَعَامَةً أَوْ نَفْعًا مُتَبَادَلاً، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ للهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الأَنْبِيَاءِ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٩٠١]، قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ انْتَفَعُوا بِهَذَا الْعِلْمِ، وَمَا نُسِبَ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ» [إكمال تهذيب الكمال (1/ 185)].

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ– وَتَخَلَّقُوا بِهَذِهِ الأَخْلاَقِ النَّبِيلَةِ وَالْمَعَانِي الْجَلِيلَةِ السَّامِيَةِ الرَّفِيعَةِ تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

1616601566_الإيثــار.doc

المشاهدات 1581 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا