الإِسْلامُ دِينُ الأَنْبِياءِ جَمِيعًا
د. محمود بن أحمد الدوسري
الإِسْلامُ دِينُ الأَنْبِياءِ جَمِيعًا
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: إنَّ الإسلامَ هو دِينُ الأنبياءِ جميعًا؛ فمُنْذُ أَنْ أُهْبِطَ آدمُ عليه السلام ودِينُه الإسلام, وهو الاستسلامُ لله تعالى, وتوحيدُه, وعِبادتُه وحدَه لا شريكَ له. ثم استمرَّ الإسلامُ في ذُرِّيَّتِه عشرة قرون, حتى ظَهَرَ الشركُ أول ما ظَهَرَ في قوم نوحٍ؛ فبعثَ نبيَّه نوحًا عليه السلام بالإسلام. ثم بعثَ اللهُ تعالى رسلَه تَتْرَى مُبلِّغةً دِينَ الإسلام إلى أقوامهم كُلَّما ظهرَ الشِّركُ وانطفأتْ أنوارُ الإسلام؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
عباد الله .. إنَّ دِينِ الإسلام - بِمَعْناهُ العَام - وُجِدَ مع وجود الإنسان على هذه الأرض, وهو دِينُ الأنبياءِ جميعًا؛ قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. فالدِّينُ الذي لا دِينَ لله سِواه، ولا مقبولَ غيره، هو الإِسْلامُ, وهو الانقياد لله وحده، ظاهرًا وباطنًا, بما شَرَعَه على أَلْسِنَةِ رُسُلِه، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وأما الإسلام - بِمَعْنَاهُ الخاص – فهو الذي بُعِثَ به محمد صلى الله عليه وسلم جامِعًا فيه بين الإسلام العامِّ – الذي هو التوحيدُ ونَبْذُ الشِّركِ – وبين الأحكام الشرعية لهذه الأُمَّةِ؛ حيثُ أحلَّ لها الحلالَ, وحرَّمَ عليها الحرامَ, ووَضَعَ عنها الإصْرَ والأغلالَ التي كانت على مَنْ قبلَها, فجاءت شريعةً كاملةً ميسَّرةً شاملةً, خاتمةً للشرائع, صالِحَةً لكلِّ زمانٍ ومكان؛ وهذا هو معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ, وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» رواه البخاري ومسلم. أي: أنَّ الأنبياءَ كالأبناءِ لِأُمَّهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ, وأبوهم واحِدٌ؛ وذلك لاتِّفَاقِهِمْ في التوحيدِ, والإسلامِ، وأصولِ الإيمانِ والأخلاقِ، واخْتِلافِهِمْ في الشَّرائِعِ.
فالإسلام دِينٌ عامٌّ يُمَثِّلُ مَنْهَجَ الأنبياءِ وأتباعِهِمْ, ويُذْكَرُ على أَلْسِنَتِهِم؛ مُنْذُ أَقْدَمِ العُصورِ التاريخيةِ إلى عَصْرِ النُّبوَّةِ المُحَمَّدِية؛ قال نوحٌ عليه السلام لقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]. والإسلام هو الدِّينُ الذي أمَرَ الله به أبا الأنبياءِ إبراهيمَ عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. ويُوصِي كلٌّ من إبراهيمَ ويعقوبَ أبناءَه قائِلاً: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]؛ وأبناءُ يعقوبَ يُجِيبون أباهم: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]. وقال يوسفُ عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وقال موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84]. وقالت السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]. وقالت بِلْقِيسُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. وقال الحَوَارِيُّون - لعيسى عليه السلام: {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]. وحين سَمِعَ فريقٌ من أهل الكتاب القرآنَ: {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 53]. وقال اللهُ تعالى - لِخَاتَمِ الرُّسُلِ والأنبياءِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162, 163] أي: مِنْ هذه الأُمَّةِ. فالإسلام - في لُغَةِ القرآنِ – ليس اسْمًا لدينٍ خاص, وإنما هو اسمٌ للدِّينِ المُشْتَرَكِ الذي هَتَفَ به كلُّ الأنبياء.
قال ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: (الْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا, وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ, وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ, وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ, وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ, فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ, ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ؛ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ - حِينَ أَمَرَ بِهِ - دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ, وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ - وَهُوَ وِجْهَةُ الْمُصَلِّي - فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ, وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ, وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا, كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ).
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. كُلُّ الأَدْيَانِ والرِّسالاتِ دَعَتْ إلى الأخلاقِ والقِيَمِ التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها؛ فإنَّ جَمِيعَ الأنبياءِ مُتَّفِقون على ذلك, ويَدْعُونَ الناسَ إليها, ويُحافِظُونَ عليها, ويَنْبِذون ما يُخالِفُها, فلا يُمْكِنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ, ولا يَعْتَرِيها تَبْدِيلٌ, ولا نَسْخٌ. مَثَلُهَا كَمَثَلِ التَّوحيدِ, وأُصولِ الإيمانِ؛ كَبِرِّ الوالِدَين، وتحريمِ الفواحِشِ والظُّلْمِ، وقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيرِ حَقٍّ، والإحسانِ إلى اليتيمِ، والقِسْطِ بين الناسِ، وتحريمِ الكِبْرِ والفَخْرِ، والحَثِّ على الكَرَمِ والوَفاءِ، وتحريمِ الغَدْرِ والخِيانَةِ...
وفِيمَا عَدَا التَّوحيدِ وأُصولِ الإيمانِ، والقِيمِ الثابِتَةِ؛ جَعَلَ اللهُ عز وجلَّ لِكُلِّ رَسُولٍ شريعةً خاصَّةً لِقَومِه، شاملةً وكاملةً - في وقتها – لأهلها. وقد تختلفُ الشرائعُ من نَبِيٍّ لآخَرَ, وقد يتَّفقُ بعضُها. حتى خَتَمَ اللهُ تعالى جميعَ الشرائعِ بما أَنزلَ على محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعةِ الخاتمةِ الكاملةِ الشاملةِ التي كَتَبَ اللهُ لها الخلودَ، والقيامَ بمصالحِ العبادِ في كلٍّ مكانٍ وزمانٍ، إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.
وهذا المعنى مأخوذٌ من قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. قال قَتَادَةُ رحمه الله - في معناها: (أي سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ: هِيَ فِي التَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْفُرْقَانِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ. وَالدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ: التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عليهم الصلاةُ والسلامُ). وقال السعدي رحمه الله: (وهذه الشَّرَائِعُ التي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأُمَمِ، هي التي تتغيَّرُ بحسب تغيُّرِ الأزمنة والأحوال، وكلُّها ترجع إلى العدل في وقت شِرْعَتِها. وأمُّا الأصولُ الكِبارُ التي هي مصلحةٌ وحِكمةٌ في كلِّ زمانٍ؛ فإنها لا تَخْتَلِفُ، فَتُشْرَعُ في جميعِ الشَّرائِعِ).
وكُلُّ نَبِيٍّ من الأنبياءِ دعا قَومَه إلى كُلِّ خيرٍ, وأنذَرَهم من كُلِّ شرٍّ؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ, وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» رواه مسلم. وهذا مِنْ تمامِ رحمةِ اللهِ بِعِبادِه, ونِعْمَتِه عليهم، وكَمالِ حِكْمَتِه؛ بأنْ جَعَلَ شريعةَ كُلِّ رسولٍ من رسلِه شامِلةً كلَّ ما تحتاجه أُمَّتُه, جامِعةً لما يُصلِحُ شأنَها في الدنيا والآخرة.
قال الشيخ عبدُ الرَّزَّاقِ عفيفي رحمه الله: (أمَّا هذه الأُمَّةُ المُحمَّدِية؛ فشريعَتُها خاتِمَةُ الشَّرائع، ورسولُها خاتَمُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام لا نَبِيَّ بعدَه؛ فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أنْ تكونَ شريعَتُه فيهم عامَّةً دائمةً إلي يوم القيامة، كَفِيلةً بجميع مصالِحهم الدِّينية والدُّنيوية، مُنَظِّمَةً لِنَواحي حَياتِهم المختلفة، مُغْنِيَةً لهم عَمَّا سِواهَا في جميع أُمورِهم وشُؤونِهم، ولو طال بهم الأَمَدُ، واختلفتْ أحوالُهم على مَرِّ الأيامِ والعصورِ حضارةً وثقافةً، وتَبَايَنَتْ أفكارُهم ذَكَاءً وغَبَاوَةً, وحالَتُهم قُوَّةً وضَعْفاً وغِنى وفَقْراً).
والخُلاصَةُ: أنَّ دِينَ الأنبياءِ واحِدٌ, ودعوتَهم واحدةٌ؛ ألا وهي الإسلامُ، وأُصولُ الإيمانِ, والدعوةُ إلى الأخلاقِ والقِيَمِ التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها, وإخراجُ الناس من عبادَةِ العِبادِ إلى عِبادَةِ ربِّ العبادِ, ومن ضِيقِ الدنيا إلى سَعَتِها، ومن جَوْرِ الأديانِ إلى عدلِ الإسلام.
المرفقات
1693325870_الإسلام دين الأنبياء جميعا.docx