الأمة بين انتصارات وهزائم
إبراهيم بن سلطان العريفان
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوة الإيمان والعقيدة ... الأمة بين انتصارات وهزائم، فهذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
واسألوا التاريخ ينبئكم بأحداث الأمة.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد.
ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).
لا تيئسوا أن تستردوا عزكم ... فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعــــــز كل عظيمةٍ ... إني رأيت العـز صعبٍ المرتقى
إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى أهل التاريخ والسير يسردون لك ذلك الحدث.
في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن المساجد أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـ بيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم: إن القوي بكل أرض يُتَّقى
فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً.
فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أقول ما تسمعون ....
الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين .. المؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء؛ إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، إن مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات.
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم، لكن الأهم البقاء فيها، إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل؛ شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين.
وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع إلى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة.
إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله.
اللهم احفظ إخواننا في فلسطين من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونُعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم.
اللهم احفظهم بحفظك، واجعلهم في كنفك، وحُطْهم بعنايتك، واشملهم برعايتك، واحرسهم بعينك التي لا تنام.
اللهم نصرَك المبين لإخواننا في فلسطين، اللهم نجِّهم وأعِنْهم، وعليك بالصهاينة المحتلين، اللهم طهِّر الأقصى من الغاصبين الظالمين.
اللهم أنزل بأسك وغضبك على الصهاينة الأنجاس، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، اللهم احقِنْ دماء المسلمين، واستر عوراتهم، وسُدَّ جوعهم.
اللهم إن إخواننا المستضعفين في غزة لاحول لهم ولا قوة إلا بك يا عظيم، اللهم فانتصر لهم واحقن دماءهم، اللهم عليك بمن طغى واعتدى من يهود ومن عاونهم، اللهم أنْزِلْ عليهم بأسك وعذابك ورِجْزَك يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1697745480_الأمة بين انتصارات وهزائم.pdf
1697745488_الأمة بين انتصارات وهزائم.docx