الأعمال الصالحة في قصة أصحاب الغار

عبدالله بن محمد حفني
1442/11/09 - 2021/06/19 10:48AM

خطبة جمعة ألقيت بتاريخ 16 / 1 / 1442 هـ

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نحمده ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شرك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونبينا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

عشنا بالأمس مشهدًا من مشاهد الكون العجيبة .

عشنا أجواءً غريبةً من رعدٍ ، وبرقٍ ، وصواعقٍ ، وأمطارٍ ، أحدثت في النفوس رغبةً ورهبة ، وخوفًا ورجاءً ..

وفي ظل هذه الأجواء تذكرت قصةً ماضيةً نزلت بثلاثة نفر من بني إسرائيل ، حدّث عنها سيد الخلق أجمعين نبيّنا محمد ﷺ .

قصة سمّيت بقصّة أصحاب الغار، قصة لثلاثة رجال خرجوا في رحلة بريّة، وبينما هم في سيرهم تلبّدت السماء بالغيوم، وتساقط المطر الشديد، وتتابع البَرْدُ والبَرَدْ، والريّاح والصواعق ، فلجأوا إلى غار وكهف مظلم ، فآووا إليه ، فساقت السيول صخرة انحدرت من أعالي الجبال ، فسدّت باب الغار، فضيق عليهم الحصار ، وقلّ الزاد ، وجفّت الأعناق ، وأصبحوا بين الحياة والموت ، وبين ما هم في هذا الكرب ، قال أحدهم : (والله لا ينجيكم من هذا الكرب إلا الله).

فتعالوا ندعو الله ونتوسل إليه بصالح أعمالنا في الرخاء .

يا الله لو كنت معهم بماذا أدعو الله وبماذا أتوسل إليه؟

فدعا الأول ببرّه بوالديه ، برّ الوالدين الذي ضيّعه الأبناء اليوم عمل صالح.

برّ الوالدين الذي غفل عنه الأبناء عمل صالح اليوم ينجي في الكربات.

برّ الوالدين ينجي صاحبه، إي والله ينجي صاحبه في الشدائد.

استمع لبرّ هذا الرجل العجيب وهو يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ، فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا "

فكان بين خيارين؛ أمّا الأول فأن يوقظهما من نومهما ليشربا طعامهما، وأمّا الثاني فأن يطعم صبيته، ولكنّه أعرض عن الخيارين واختار أن يقف على قدميه والصبية يصطرخون عند رجليه، والطعام في يديه، فلبث قائماّ براً بوالديه حتى برق الفجر، فشرب الأبوان.

عجيب والله، فلبثت قائمًا والقدح في يدي، لا إله إلا الله ..

بالله  عليك تخيل هذا المشهد، تصور هذا الوقوف الطويل على قدميه!

بالله ماذا يرجو؟ ماذا يطلب هذا الابن؟

أحسبه يرجو غاية الاحسان لوالديه، والعجيب أنه يقول وصبيتي فلذات أكباده يصطرخون عند قدمي وهو لا يبالي ببكائهم طمعا في بر والديه "اللهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ"، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

يعجز اللسان والله، ويقف البيان عن وصف هذا البر للوالدين، ولكن من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل. ولا عجب فعندما تقرأ قول الله تعالى في سورة لقمان: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ ﴾ تعلم حقًا أن حق الوالدين عظيم.

يا رجل أعظم إساءة في الكون، وأكبر ذنبٍ في الأرض أن يشرك العبد بالله ، وهذه الآية تقول للأبناء لو كان والداك كافرين مشركين بالله، هل هناك أعظم من هذا الذنب؟

بل لو كان والداك يأمرون الناس بالكفر، ويدعون للشرك وعبادة الأصنام، بل يزداد الأمر شناعة لو كان والداك يجاهدان أنفسهما ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا على دعوتك أنت أيّها الابن في الكفر والشرك، بالله عليك هل هناك أشنع من هذا؟

ومع ذلك كلّه يقول الله تعالى : فلا تطعهما ولم يقل فلا تعصهما، بل قال سبحانه: ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ ﴾

لا إله إلّا الله، والدان يجاهدان أنفسهما على إيقاع ابنهما في أعظم نواقض الإسلام، والله يأمر بالمعروف والإحسان إليهما ، فطوبى ثم طوبى لمن اغتنم حياتهما، طوبى ثم طوبى لمن برّهما بعد موتهما

ثمّ توسّل الثاني بعفّته، فحكى عن قصته مع فتاة كان يحبَّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، في مسند أحمد قال: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقْتَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهَا" تخيّل هذا التعلق، عش مع هذا الحبّ العميق، فراودها عن نفسها، قادته الشهوة المجنونة إليها بخيله ورجله عسى أن يظفر بها، فأبت حتى إذا ضاقت بها الأحوال وأصابتها الفاقة فجاءت تطلب مالًا تسدّ به حاجتها، وتطعم به صبيتها، فكانت الفرصة التي لا تعوض: هذه بتلك، ففكرت وقدرت ثمّ نظرت إلى صبيتها وحاجتها فاستسلمت كارهة ومكنتّه من نفسها وهي باكية.

قال الرجل: "فلمّا وقفت بين رجليها"، وفي رواية "فلمّا تكشّفتها وهممت بها".

يا له من موقف رهيب يغيب فيه العقل في لحظة هيجان الغريزة، وشدة الحبّ والرغبة والشهوة قالت له: "اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ"، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا.

اتَّقِ اللَّهَ، الله أكبر،  يا الله متى نبلغ هذه المنزلة؟ متى تأخذنا الرجفة والرهبة من هذه الكلمة "اتق الله"؟ اللهم نسألك من فضلك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشأنه، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمداً الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

وتوسّل الثالث بعمل عظيم زلّت فيه الأقدام، فاليوم ترى الرجل مصليًا صائمًا قائمًا، فإذا ذكّر بحقوق العباد والعمال والديون والحقوق أعرض ونأى بجانبه، أمّا هذا الرجل الصالح فتوسل بحفظ الأمانة وأداء الحقوق إلى أهلها، فلم يتعدّى على حقّ أجيره بحجة أنه تركه وذهب، بل رعاه ونمّاه، وأعطاه إياه كاملاً دون بخسٍ أو ظلمٍ.

استمع إليه وهو يدعو ربّه قائلاً : "اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ  وَلاَ تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ".

اللهم سلمنا من حقوقك وحقوق عبادك

اللهم أصلح فساد أعمالنا، وفساد نياتنا، وفساد قلوبنا، اللهم املأ قلوبنا بحبك.

اللهم نسألك إيمانا كاملاً، ويقينا صادقاً، ورزقا واسعاً، وقلباً خاشعاً.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها، أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه؛ اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، رب ارحمهما كما ربونا صغاراً، اللهم من كان منهم حياً فأطل في عمره، وأحسن في عمله، وشرّفنا ووفّقنا ببره، ومن كان منهم ميتاً فنسألك يا الله أن تنزل على قبورهم في هذه الساعة شآبيب الرحمات، اللهم آنس وحشتهم، واكشف غربتهم، واجعل أرواحهم في عليين، واجعلهم من ورثة جنةٍ النعيم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق عبدك خادم الحرمين الشريفين، اللهم اجعله سلماً لأوليائك، حربا على أعدائك، اللهم وفقه وولي عهده لكل ما تحبّه وترضاه، أرهم الحق حقّاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.

المرفقات

1624099704_الأعمال الصالحة في قصة أصحاب الغار.docx

المشاهدات 3250 | التعليقات 0