إنه نفع الناس

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ فاطرِ الأرضِ والسماء، ذي المنِّ والعطاءِ والعزةِ والكبرياء، اصطفَى مِنْ خلْقِه مَنْ يَبذلُ الخيرَ، ويَسعَى في حَاجةِ الخلقِ مَحبةً لربِّه واحتَسابًا للأجرِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، خيرُ مَنْ بَذلَ وأَعْطَى، صلّى اللهُ وسلّم عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أمّا بعدُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

عبادَ اللهِ: عَمَلٌ عَظِيمٌ، مِن أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، هُوَ خُلُقُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَسَبِيلُ المُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ، هُوَ مِن أَعْظَمِ مَا يَنْفَعُ العَبْدَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ السُّوءَ فِي غَابِرِ الأَيَّامِ. مَنْ فُتِحَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ فَقَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ التَّوْفِيقِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، وَلَهِجَتْ أَلْسِنَةُ الخَلْقِ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. أَتَدْرُونَ مَا هَذَا العَمَلُ؟ إِنَّهُ نَفْعُ النَّاسِ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ، وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتِهِمْ.

نعم، فَفِي شَكْوَى الفَقِيرِ ابْتِلَاءٌ لِلْغَنِيِّ، وَفِي انْكِسَارِ الضَّعِيفِ امْتِحَانٌ لِلْقَوِيِّ، وَفِي تَوَجُّعِ المَرِيضِ اخْتِبَارٌ لِلصَّحِيحِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ؛ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالحَثِّ عَلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي تَفْرِيجِ كُرُوبِهِمْ، وَبَذْلِ الشَّفَاعَةِ الحَسَنَةِ لَهُمْ.

إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا يَخْتَصُّهُمْ لِمَنَافِعِ العِبَادِ، وَخِدْمَةِ النَّاسِ، وَمُسَاعَدَةِ المُسْتَضْعَفِينَ. وَهَذَا وَرَبِّي دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ المَنْبَتِ، وَصَفَاءِ القَلْبِ، وَحُسْنِ السَّرِيرَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ رَحِيمٍ، يُحِبُّ الخَيْرَ لِلْغَيْرِ، وَيَرْحَمُهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الخَصْلَةِ حَرِيًّا بِالرَّحْمَةِ. قَالَ اللهُ: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وَقَالَ ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ». فَيَا مَنْ أَرَدْتَ الرَّحْمَةَ فَدُونَكَ بَابَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكَ. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: «وَقَدْ دَلَّ العَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالفِطْرَةُ وَتَجَارِبُ الأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ وَالبِرَّ وَالإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنَّ أَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللهِ، وَلَا اسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ وَالإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ».

إِنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِ النَّاسِ خَصْلَةٌ نَبَوِيَّةٌ مِنْ خِصَالِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ نَفْعًا لِلْخَلْقِ. فَهَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَوَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ مُسْتَضْعَفَتَيْنِ، بَادَرَ لِمُسَاعَدَتِهِمَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾.

وَنَبِيُّنَا ﷺ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ نَفْعًا لِلْآخَرِينَ، وَأَشَدَّهُمْ حِرْصًا عَلَى قَضَاءِ الحَوَائِجِ حَتَّىٰ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ. قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمَّا رَجَعَ فَزِعًا مِنْ غَارِ حِرَاءَ: «أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ». وَقَالَ ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ». وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ القَوِيمِ سَارَ الصَّحَابَةُ وَالصَّالِحُونَ؛ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَتَعَاهَدُ الأَرَامِلَ، يَسْقِي لَهُنَّ المَاءَ لَيْلًا. فَنُبَلَاءُ الإِسْلَامِ وَأَعْلَامُ الأُمَّةِ شَأْنُهُمْ قَضَاءُ الحَوَائِجِ. وَصَنَائِعُ المَعْرُوفِ مُعَامَلَةٌ مَعَ اللهِ، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا؛ فَلَا تَخْتَصُّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، بَلْ كُلَّمَا كَانَ المَرْءُ أَحْوَجَ إِلَيْهَا كَانَتْ أَعْظَمَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، فَيَقْضِيَ لَهُ الحَاجَةَ. وَبِبَذْلِ المَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ إِلَى الخَلْقِ تَحْسُنُ الخَاتِمَةُ، وَتُصْرَفُ مِيتَةُ السُّوءِ. قَالَ ﷺ: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ». وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ فِي الحَثِّ عَلَى الإِحْسَانِ لِلْخَلْقِ، وَلِهَذَا الإِحْسَانِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَيْسِيرِ الأُمُورِ، وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَحُصُولِ الخَيْرَاتِ فِي حَيَاةِ المُحْسِنِ. فَمَنْ بَذَلَ الخَيْرَ، وَسَعَى فِي إِيصَالِهِ إِلَى النَّاسِ، لَمْ يَخِبْ مَسْعَاهُ، وَلَمْ يَضِعْ عَمَلُهُ عِنْدَ اللهِ؛ فَلِكُلِّ إِحْسَانٍ ثَمَرَةٌ، وَلِكُلِّ مَعْرُوفٍ أَثَرٌ، قَدْ يَتَجَلَّى فِي تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ، أَوْ دَفْعِ بَلَاءٍ، أَوْ فَتْحِ بَابٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ فَوَسَّعَهَا اللهُ بِعَمَلٍ قَدِيمٍ أَحْيَاهُ الإِخْلَاصُ، وَكَمْ مِنْ نَفْسٍ أَوْشَكَتْ عَلَى الهَلَاكِ فَأَنْقَذَهَا اللهُ بِسَبَبِ مَعْرُوفٍ أَسْدَاهُ، أَوْ حَاجَةٍ قَضَاهَا. قَالَ ﷺ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ». فَفِي خِدْمَةِ النَّاسِ بَرَكَةٌ فِي الوَقْتِ وَالعَمَلِ، وَتَيْسِيرٌ لِمَا تَعَسَّرَ مِنَ الأُمُورِ. وَقَالَ ﷺ: «مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».

نَعَمْ، الخَيْرُ فِي الإِسْلَامِ لَيْسَ شُعُورًا يُحْبَسُ فِي الصَّدْرِ، بَلْ رِسَالَةٌ تَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ، وَتُتَرْجَمُ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ، وَتَبُثُّ الرَّحْمَةَ فِي وُجُوهِ الخَلْقِ. وَمِنْ هُنَا جَاءَ المِيزَانُ النَّبَوِيُّ الَّذِي يُعَرِّفُكَ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، وَأَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَى مَرْضَاتِهِ. قَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ شَهْرًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى تُهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ».

وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ وَنَفْعُهُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ. قَالَ ﷺ: «كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةً، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةً».

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ لِلْخَيْرِ فِي هَذَا الدِّينِ مَسَالِكَ لَا تُحْصَى، وَأَبْوَابًا مُشْرَعَةً لِكُلِّ قَلْبٍ حَيٍّ. وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ تِلْكَ المَسَالِكِ: السَّعْيَ فِي حَاجَاتِ النَّاسِ، وَبَذْلَ الإِحْسَانِ لَهُمْ؛ فِي لُقْمَةٍ تُشْبِعُ جَائِعًا، وَكِسْوَةٍ تَسْتُرُ عَارِيًا، وَيَدٍ تَمْتَدُّ لِمَلْهُوفٍ، وَقَدَمٍ تَمْشِي إِلَى مَرِيضٍ، وَعِلْمٍ يُرْفَعُ بِهِ جَهْلٌ، وَصَبْرٍ يُوَاسَى بِهِ مُعْسِرٌ، وَعَوْنٍ يُسْنِدُ عَاجِزًا، وَرَحْمَةٍ تُنْقِذُ مُنْقَطِعًا، وَكَفَالَةٍ تُعِيدُ لِلْيَتِيمِ أَمَانَهُ، وَتَفْرِيجٍ يُبَدِّدُ الهَمَّ، وَتَنْفِيسٍ يُسَكِّنُ الكَرْبَ. وَمَا الإِحْسَانُ حِكْرًا عَلَى العَظَائِمِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي شَفَاعَةٍ صَادِقَةٍ، أَوْ تَيْسِيرٍ فِي مُعَامَلَةٍ، أَوْ سَمَاحٍ فِي طَرِيقٍ، أَوْ تَقْدِيمِ ضَعِيفٍ، أَوْ دَلَالَةِ تَائِهٍ، أَوْ رَدِّ ضَالٍّ إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ أَمَانَةٍ تُؤَدَّى، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ تُلْقِيهَا فَتَصْنَعُ أَثَرًا لَا يَزُولُ.

فَهَذِهِ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي قُلْتَهَا كُتِبَتْ لَكَ صَدَقَةً. قَالَ ﷺ: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَهَكَذَا يَكُونُ خَيْرُ النَّاسِ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى اللهِ: أَلْيَنُهُمْ قَلْبًا، وَأَسْبَقُهُمْ يَدًا إِلَى المَعْرُوفِ. سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ المَعْرُوفِ، فَقَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنْحِيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الوَحْشَانَ فِي الأَرْضِ أَيْ ــــ الشَّخْصَ المَهْمُومَ ـــــ ».

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعده…  أمَّا بعدُ:

عبادَ اللهِ: مَنْ كانت هذه حالُه، ساعيًا في قضاءِ حوائجِ الناس، وكشفِ كُرُباتِهم؛ أعانَه اللهُ، وتولَّاهُ بولايتِه، وقضى له حوائجَه كلَّها صغيرَها وكبيرَها، وفتحَ له أبوابَ العونِ والتوفيق. قال ﷺ: «واللهُ في عَوْنِ العبدِ ما كان العبدُ في عَوْنِ أخيه». وكلَّما خرج الإنسانُ من ضيقِ نفسِه إلى سَعةِ الإحسانِ لغيره؛ ألقى اللهُ له القبولَ في الأرض، وجعل له لسانَ صدقٍ في الآخرين، وأحبَّه الناسُ على اختلاف طبقاتهم. قال ابن رجب رحمه الله: «كانت العلماءُ والصُّلحاءُ والتجَّارُ وسائرُ العامَّةِ يحبُّون ابنَ تيميَّة؛ لأنَّه كان منتصبًا لنفعهم ليلًا ونهارًا». بهذا جاء الدِّين: علمٌ وعمل، عبادةٌ ومعاملة. ويا من أنعمَ اللهُ عليه بالجاهِ والمكانة، فاعلم أنَّ من زكاتِها وشُكرِها نفعَ الناس، وقد قيل: «السَّعيُ في شؤونِ الناسِ زكاةُ أهلِ المروءات». ومن المصائبِ عند ذوي الهممِ والنفوسِ الشريفةِ ألَّا يُقصَدوا في الحوائج. قال حكيمُ بنُ حزامٍ رضي الله عنه: «ما أصبحتُ وليس على بابي صاحبُ حاجةٍ إلَّا علمتُ أنَّها من المصائب».

وفي بذل الجاهِ للضعفاء، ومساندةِ ذوي العاهاتِ والمساكين، نفعٌ في العاجل والآجل؛ وما يدريك؟ لعلَّ دعوةً صادقةً منهم تُستجابُ، فيُكتبُ لك بها سَعادةُ الدارين. قال ﷺ: «رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه». والدنيا مِحَنٌ، والحياةُ ابتلاء؛ فالقويُّ قد يضعُف، والغنيُّ قد يُفلس، والحيُّ فيها يموت، والسعيدُ من اغتنم جاهَهُ في خدمةِ الدِّين ونفعِ المسلمين. قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «مَن مشى في حاجةِ أخيه كان له بكلِّ خطوةٍ صدقة». وقال ﷺ: «كان تاجرٌ يُدايِنُ الناسَ، فإذا رأى مُعسرًا قال لِفِتيانه: تَجاوَزوا عنه، لعلَّ اللهَ أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز اللهُ عنه».

وليعلمَ المسلمُ أنَّ المعروفَ الذي يبذله ابتغاءَ وجهِ الله لا يُوزن بالقِلَّةِ والكثرةِ، بل هو محمودٌ على كلِّ حال، قليلِه وكثيرِه. قال ﷺ: «اتَّقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرة»، وقال ﷺ: «لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تُكلِّم أخاك ووجهُك إليه منبسط». ومن أوضحِ الدلائلِ على فضلِ نفعِ الناسِ والإحسانِ إليهم، ولو بأدنى عمل، قولُ النبي ﷺ: «لقد رأيتُ رجلًا يتقلَّب في الجنَّة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين».

وقد سطَّرت أمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله عنها بهذه الكلماتِ الخالدةِ قاعدةً من قواعد السُّننِ الإلهيَّةِ، حين قالت لرسول الله ﷺ: «أبشِر، فواللهِ لا يُخزيكَ اللهُ أبدًا»، ثم علَّلت ذلك بما كان عليه من صنائعِ المعروفِ، وصلةِ الرَّحم، وحمْلِ الكَلِّ، وإعانةِ ذوي الحاجة. فكان قولُها شهادةَ فِطرةٍ صادقةٍ بأنَّ المعروفَ لا يُخذَلُ صاحبُه، ولا يَضِيع سعيُه، وأنَّ من جعل نفسَه ممرًّا للخير جعلَه اللهُ موضعَ الكرامةِ والنُّصرة، فلا خِزيَ مع الإحسان، ولا ضياعَ مع البر، وإنَّما الخِذلانُ لمن أغلقَ أبوابَ الخيرِ عن نفسِه وعن الناس، وأمسك عن المعروفِ وقضاء الحاجاتِ.

ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على أكثرِ الناس نفعًا للناس، نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ.

 

المرفقات

1767191658_��إنه نفع الناس . �.docx

1767191658_��إنه نفعُ الناس�.pdf

المشاهدات 38 | التعليقات 0