أخطر سرقة .. الفساد
حامد الشثري
عنوان الخطبة : السرقة فساد وخيانة 05/06/1446هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين صلوات ربي وسلامه وتبريكاته عليه ..
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).
أما بعد: فكما أن من القرآنِ مُشيِباتٍ، يشيبُ لها مَفَرِقُ الولدانِ، مصداقُ قول الحبيب e (شيَّبتني هودٌ وأخواتها)، فإن من أحاديث المصطفى العدنان e أحاديثٌ يجثوا لها الرجالُ على الرُكبِ، وتشيبُ لها مفارقُ الولدانِ، على سبيل المثالِ حديثه الذي يرويهِ عن ربهِ عز وجل، حين يقول: ( يا آدمُ ! فيَقولُ : لبَّيْكَ وسعديْكَ والخيرُ في يديْكَ ، فيقولُ : أخْرِجْ بعْثَ النارِ ، قال : وما بَعْثُ النارِ ؟ قال : من كلِّ ألْفٍ تِسعُمائةٍ وتِسعةٌ وتِسعينَ ) ، اليومَ نحنُ مع حديثٍ من قبيلِ هذه الأحاديثِ التي يجثوا لها الرجالُ على الركبِ، فعن عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه قال: لـمَّا كَانَ يوْمُ خيْبرَ أَقْبل نَفرٌ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ e فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شهِيدٌ، حتَّى مَرُّوا علَى رَجُلٍ فقالوا: فلانٌ شهِيدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : كلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّها -أَوْ: عَبَاءَةٍ) ، وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كَلّا والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، إنَّ الشِّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عليه نارًا أخَذَها مِنَ الغَنائِمِ يَومَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْها المَقاسِمُ، قالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجاءَ رَجُلٌ بشِراكٍ، أوْ شِراكَيْنِ فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أصَبْتُ يَومَ خَيْبَرَ، فقالَ رَسولُ اللهِ e : شِراكٌ مِن نارٍ، أوْ شِراكانِ مِن نارٍ) رواه مسلم، وعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام صلَّى بهم في غزوةٍ إلى بعيرٍ من المغنمِ، فلما سلَّمَ قام رسولُ اللهِ e فتناول وَبَرةً بين أنملتَيْهِ فقال : إنَّ هذه من غنائِمِكُم، وإنَّهُ ليس لي فيها إلا نصيبي معَكُم إلا الخُمْسُ، والخُمْسُ مردودٌ عليكم، فأدُّوا الخيطَ والمخِيطَ، وأكبرُ من ذلك وأصغرُ، ولا تَغْلُوا فإنَّ الغُلولَ نارٌ وعارٌ على أصحابِه في الدنيا والآخرةِ) أخرجه أحمد في مسنده.
هل تعي معي أيها المؤمنُ أن الحديثَ موجهُ إلى أولئكَ الذين حملوا أرواحهم في راحتهم وبذلوها في سبيل الله، أرخصوا دمائهم ومهجهم وأموالهم وتركوا أولادهم وتركوا الدنيا ورائهم ظهرياً، وجاهدوا مع رسولِ اللهِ e فأصابهم من النبلِ والسهمِ والسيفِ، الشيء الكثير، ثم يلجُ أحدُهمُ النارَ، أو يصيبُ أحدُهم النارَ في شملةٍ غلها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ فِينَا النبيُّ e، فَذَكَرَ الغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وعَظَّمَ أمْرَهُ، قَالَ: لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، يقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أبْلَغْتُكَ، وعلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، يقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا قدْ أبْلَغْتُكَ، وعلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ لا أمْلِكُ لكَ شيئًا قدْ أبْلَغْتُكَ، أوْ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللَّهِ أغِثْنِي، فأقُولُ: لا أمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أبْلَغْتُكَ) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: أعظمُ الغُلولِ عندَ اللَّهِ ذراعٌ منَ الأرضِ : تجدونَ الرَّجُلَيْن جارَينِ في الأرضِ - أو في الدَّارِ - فيقتطِعُ أحدُهُما من حظِّ صاحبِهِ ذراعًا، فإذا اقتطعَهُ طُوِّقَهُ من سبعِ أرضينَ إلى يومِ القيامةِ) أخرجه أحمد وحسنه الحافظ في الفتح.
نحنُ أمام هذه الأحاديث نستعرضُ عشراتٍ أو قل إن شئت مئاتٍ من المكاسبِ الحرامِ التي يعُبها الناسُ إلى بطونهم، يستكثرونَ فيها من المالِ الحرامِ والله تعالى قد عظم المالَ الحرامَ في البلدِ الحرامِ في الشهرِ الحرامِ، حين قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا)، حدثني عن إنفاقِ السِلَعِ بالحلِفِ الكاذِبِ، حدثني عن التدليسِ والغشِ الذي يكونُ في الإعلاناتِ أو في عرض السلعِ والبضاعاتِ، حدثني عن ايهامِ الناسِ بالتخفيضاتِ الكاذبةِ، حدثني عن أؤلائكَ الذينَ يُزيلونَ الملصقاتِ فيحدثونها بملصقاتٍ يتلاعبونَ فيها بتواريخِ الإنتاجِ والانتهاءِ، عن الذين يبخسونَ الناسَ سلعهم، عن ذلك الذي يطوفُ مع سمسارِ العقارِ فإذا ما تعرف على المالكِ التفَ عليهِ حتى يتفادى نسبة السعي، حدثني عن أؤلائك الذينَ يتحايلونَ على المالِ الحرامِ، على المالِ العامِ، فيقتطعُ أحدُهم جزءً من قيمةِ مشروعٍ قد أضافه إلى فلانٍ وفلانهٍ، يتقي به سؤالَ المسؤول، ثم إذا حازَ المالَ ضم هذِه إلى أمواله، حدثني عن أؤلائك الذينَ تلاعبوا حتى يثبتوا أنهم من أُولي الضررِ فيتحصلُ على ضمانٍ أو مكافأةٍ من الدولةِ وهو لم يتضرر بشيء، عن أؤلائك الذينَ يَعُبُونَ من مال اليتيم الذي حرمهُ اللهُ وعظمه، فيأكُلونَهُ استِكثاراً لا احتياجاً، أؤلائك الذين يتلاعَبونَ في الاجازاتِ الطبيةِ فيغيبُ الواحدُ منهم اليومَ واليومينِ والثلاثة، وما به من علةٍ ولا مرض، حدثني عن أؤلائك الذين يستخدمون أموالَ الجهاتِ والشركاتِ والقطاعاتِ والمؤسساتِ في أمورِهم الخاصةِ، عشراتٍ وألوانٍ من المكاسب الحرامِ التي أصبح الناسُ يتساهلونُ فيها بدعوى أن الجميع يقعُ في ذلك !! ، وهل كان الجميعُ إن صدقوا مبرراً أو دليلاً أو حجةً واقعة أمام الله تعالى، يقول يحيى بن معين:
الْمَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ *** طُرّاً وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامَهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقِ لإلهِهِ *** حَتَى يَطِيبُ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ
وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْسِبُ كَفُّهُ *** وَيَكُوْنُ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلاَمُهُ
وأين هذا السارقُ من مسمى الإيمانِ، أين هذا السارقُ من اسمِ الايمانِ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ).
أين هذا السارقَ وحسبه أنه ملعون على لسان رسول الله e يقول النبي e (لعن اللهُ السارقَ يسرقُ البيضةَ فتُقطَعُ يدُه ويسرقُ الحبلَ فتُقطَعُ يدُه)، العبرةُ في أصل السرقةِ وفي مبدأها، إن الذي يسرقُ الدينارَ كالذي يسرقُ المليارَ سواءً بسواء، القضيةُ ليستَ في القلةِ والكثرةِ، وإنما القضيةُ في المبدأ، السارقُ محجوبُ الدعاءِ، محجوبُ البركةِ، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً طويلاً قال فيه: (يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ (يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقالَ (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) قالَ: وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك) ، أين الأمةُ في مجموعها، وفي الأمةِ خيرُ كثير، أين الأمةُ في مجموعها من ذاك الورعِ المضيء، الذي يضيءُ حياة الناسِ، ويباركُ في مكاسبهم، وفي مطاعمهم، حين بلغ الورعُ بالأولين َأنهم تركوا كثيراً من الحلالِ مخافةَ الوقوعِ في الحرامِ، (كان المسكُ يوزنُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ فيضعُ ثوبهُ على أنفهِ، فيقول رجلٌ من أصحابهِ، يا أمير المؤمنين: مَا ضَرُّكَ إنْ وَجَدْتَ رِيحُهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَلْ يُنْتَفَعُ بِالْمِسْكِ إلَّا بِرِيحِهِ.
أين نحنُ من ذلك الورعِ المضيءِ (وغلامُ أبي بكرٍ يأتيه بطعام، فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ؛ فَهذا الذي أكَلْتَ منه. فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ) ألم يكنْ يسعُ أبا بكرٍ وهو الفقيهُ الذي يعرِفُ الحيلَ ويعرفُ المصادرَ والمواردَ، وسمِعَ كِتابَ اللهِ من فمِ رسولِ اللهِ e ، ألم يكنْ يَسَعُهُ أن يتذرعَ لِنفسِهِ بِالجهالةِ، أن يعتَذِرَ لِنَفسِهِ بالمعاذيرِ، وفق ما يفعلُ كثيرٌ من الناسِ، لكنهُ كان ورِعاً وَرَعاً مضيئاً، فأدخل يَدَهُ في فَمِهِ، حتى أخرجَ ما استقرَ في جوفِه، وقال: سمعتُ خليلي e يقول: كل جسدٍ نبتَ من سُحتٍ فالنارُ أولى بِه).
ما أحرانا أن نضعَ هذا الحديثَ على صدور مجالِسِنا، وفي مكاتِبِنَا ومنتدياتِنا، وأن نراجعهُ ونستذكرهُ لأننا بين كلاليبٍ تجُرُنا إلى الدنيا جراً، (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)، (ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا) فتنةُ هذهِ الأمةِ في المالِ والنساء.
الورعُ المضيءُ الذي أدعوا نفسي واياكم إليه، ورَعُ عُمَرٍ رضي اللهُ عنه، حين شرِبَ لبناً، فأعجبهُ، فلما سأل عنهُ قيلَ لهُ إنهُ من لبنِ نَّعَمِ الصدقةِ، فأدخلَ يدهُ في فيهِ ثم استقاءَ ما استقرَ في جوفهِ، وهذا عبدُاللهِ بن عُمرَ يقول: (لَوْ قُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأَوْتَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَرَعٌ حَاجِزٌ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ النَّارِ)، يقول ابن المبارك: (لأن أرُدَ دِرهماً مِن شُبهةٍ، أحبَ إليّ من أن أتصدقَ بمئةِ ألف)، وهذا يوسف بن اسباط يقول: (إن الرجلَ إذا تعبدَ قال الشيطانُ لأعوانه: انظروا أين مَطعَمهُ، فإن كان مَطعَمُهُ مطعَمَ سوءٍ قال: دعوهُ يُتعِبُ نفسهُ، فقد كفاكُم نفسه).
اللهم طيب مطاعمنا ومكاسبنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني واياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد الله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحابته وإخوانه، أما بعد:
ألا يتذكرُ أحدُنا أنهُ موقوفٌ بين يدي الله تعالى، وأنهُ مسؤولٌ أربعةً أسئلةٍ لن ينجوا منها أحد، لن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامةٍ حتى يُسأل عن أربعٍ، رُبعُ هذه الأسئلةِ عن مالِه من أين اكتسبهُ؟ وفيما أنفقه؟.
مُفلِسٌ ذلك السارِقُ والمفسِدُ الذي يظنُ أنه يُضيفُ الأصفارَ إلى الأصفارِ، وأنه يُعبئ الأرصدةَ، وأنه يتقي صُروفَ الزمانِ، وهو عندَ اللهِ مُفلِس، مهما بلغت ثروتُهُ ما بلغت، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي e قال: ( أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ) ، (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وأنا أجزمُ أن كُلَ آكِلٍ للمالِ الحرامِ أن في جوفِهِ .. في ضَميرِه مُفتيٍ صَغيرٍ يُفتِيه بِحُرمَةِ ما يفعل، وإن أَفتَاهُ الناسُ وأَفتَوْه ، تسألُ إحداهن عن مبلغ من المال لديها يقارب النصف مليون، تريد أن تضعه في ودائع رَبوِيةٍ خارِجيةٍ يأتيها مِنها نِسبةُ رِبحٍ تُقارِبُ السبعَة أو الثمانية بالمئة ، .. الربا يا مؤمنونَ لا يربوا في أموالِ الناسِ ولا يربوا عندَ اللهِ، وإنما يمحقُ المالَ الحلالَ بهذهِ النِسبةِ الضئيلةِ، عُذرُها في زعمِها أنها ليست زوجةً وليست ابنةً فليس عندها من يصرِفُ عليها، فبالتالي هي استحلتَ ذلك، متى كانتِ المحارِمُ تُستَحلُ بمثلِ هذِهِ الأنواعِ مِن الفُتيا، وإذا كانتِ الضروراتِ بِزعمِهم وعدمِ فقهِهِم تبيحُ المحظوراتِ فإن هذا أيضاً مُبيحٌ لِكُلِ فقيرٍ أن يمُدَ يدهُ في جَيبِ الغنيّ، أن يمُدَ يدهُ على مالِ الغني، وهل سَرقَ الفقيرُ إلا للغِنى، وهل سَرقَ السارِقُ إلا ليستكثِرَ من مالِ غيره ، ومُبيحٌ ذلكَ لِكلِ امرأة لا تَجِدُ مصروفاً أن تَهتِكَ عِرضها وأن تَبيعَ نَفسها سِلعةً بخساً حتى تعيشَ أو تأكُلَ أو تشربَ بزعمِهم، وهل هو مُبيحٌ للموظفِ الذي يعيثُ فساداً بإمضاءِ مُناقصاتٍ أو أكلٍ لأموالِ العامةِ وعبثاً بمسيراتها وتجاوزاً في عملِهِ بمقابِلٍ ماديٍّ بحُجَةِ الحاجةِ والفقرِ، كلا والله.
أيها الإخوة .. نحنُ مخاطبونَ جميعاً أفرادٍ ومجتمعاتٍ أن نعودَ إلى حضيرةِ المالِ الحلال، والورعِ المضيءِ الذي كان عليهِ سلفُ الأمةِ فأضاءَ حياتهُم بالخيراتِ والبركاتِ وإجابة الدعواتِ، حتى إن المرأةَ كانت تُودِعُ زوجها كُلَ صباحٍ حتى سُدَةَ البابِ تقولُ له : يا فُلان أطعِمنا حلالاً فإننا نصبِرُ على الجوعِ والعطشِ ولا نصبِرُ على النارِ، يا فُلانْ أطعِمنا حلالاً فإن أجسادنا تَصبِرُ على الجوعِ والعطشِ ولا تصبِرُ على النارِ، ( كُلُ جَسَدٍ نَبَتَ من السُحتِ فالنارُ أولى بِه) ، ذكر عبدُاللهِ بن أحمدٍ في كتابِ الزهدِ لأبيهِ الإمامِ أحمدَ (أنه أصاب بني إسرائيلَ بلاءٌ فخرجوا مخرجاً، فأوحى اللهُ عز وجلَ إلى نبيهم، إنكم تخرُجونَ إلى الصعيدِ بأبدانٍ نجسةٍ، وترفعون إليّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتُم بها بُيوتَكُم منَ الحرامِ، آلآنَ حينَ اشتدَ غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعداً)، ولعل هذا يفسر لنا جميعاً دعواتِنا التي نرفعُها في مجمُوعِ الأُمةِ في الجُمَعِ والـمُـناسباتِ ثم لا نرى استجابة، (ذكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك)
اللهم طيب مطاعمنا .. اللهم طيب مطاعمنا .. اللهم طيب مطاعمنا
وردنا إليك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك أن تجعل أموالنا من حلها وفي محلها، اللهم إنا نسألك أن تغنينا بالحلال عن الحرام، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا
المرفقات
1733423368_خطبة .. السرقة فساد وخيانة 05 - 06 - 1446هـ.docx
1733423389_خطبة .. السرقة فساد وخيانة 05 - 06 - 1446هـ.pdf
عبدالله محمد الطوالة
فتح الله عليك..ونفع بك..
أجدت وأفدت..
تعديل التعليق