عناصر الخطبة
1/طيب الحياة بالإيمان والعمل الصالح 2/لا تخلو الأرض من قائم بدينه 3/الرجال يذكرون بمآثرهم وأعمالهم 4/من نماذج أهل المآثر 5/بركة الأعمال والأعمار في الإخلاصاقتباس
عاش سعدُ بن معاذِ -رضي الله عنه- في الإسلام سبع سنين، فقام في الإسلامِ مقاماً عظيما، ومات وهو ابنُ سبعٍ وثلاثين سنة، فاهتز لموته عرش الرحمن، ومات الإمام النووي في الأربعين، فخلد الله ذكره في العالمين، وتوفي ابن تيمية وليس له ولد، فجعل الله الامة كلها له ولد...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الولي الحميد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــا *** وكل يوم مضى يدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العملِ
تتصرم الأعوام سراعا، وتخطفت المنايا فيها إخواناً وأصحابًا وعبادا؛ "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةٌ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بهم بَالَةً"(أخرجه البخاري)، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ".
الحياةُ جميلةٌ إذا جمّلها الإنسانُ بعملهِ وآثارهِ، وزينةٌ لمن زينها بصلاحهِ وإصلاحه، وطيبةٌ لمن طابَ ذِكرُه وحَسُن ثنائه عليها؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97]، ما أسعدَ الإنسانَ حين يرحلُ وكأنه لم يرتحل، يَرحلُ بجسدهِ ويبقي الناسُ يتفيؤون بأعماله، ويمضي بروحهِ ولم تمحَ آثاره، يغيبُ رسمُه ويبقى اسمُه، يُفقد جسمُه ويبقى ذِكْرُه!.
من نال رِفع الذكْرِ عاش مخلدا *** فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** بصنائعِ المعروفِ والاحسانِ
أعيانهم مفقودة، وآثارهم موجودة؛ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)[يس: 12]، لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بدينهِ ونفعه، إمّا ظاهراً مشهورا أو خفياً مغمورا، وهم الأقلون عددا، الأعظمون قدرا، يَحفظُ اللهُ بهم دينه، وينفعُ بهم عِباده، أعلامٌ تُضربُ بهم الأمثال، وتزهو بأيّامهم الأعمال، آثارهم تُقْتفى، وسيرُهم تُحْتذى، أظهر اللهُ خفايا أعمالِهم، وأجرى اللهُ الثناءَ والدعاءَ على من عرفهم ومن لم يعرفهم؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96]، فبمثلِ فقدهِم جرحُ لا يندمل، وثُلمةُ لا تنجبر.
لعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ *** وَلَا شاةٌ تَمُوتُ وَلا بَعيرُ
ولكِنَّ الرَّزِيَّة فَقْدُ شخصٍ *** يَمُوتُ بِمَوْتِهِ بشَرٌ كَثِيرُ
فلا غروا أن تحزنَ قلوبٌ لفقدِ من كانَ صالحاً في الأرضِ، بعَمَلِه وآثارِه، وخفاياهُ وأوقافِه، من له من اسمه القدحُ المعلى، صالحُ السريرة، صالحُ العلمِ والسيرة، منارةٌ من مناراتِ الأخلاق والسمتِ والهدى، والتدريس والقضاء، والدعوة والاحتساب.
إن تفخرَ الدنيا فأنت فِخارُها *** أو تخترَ العليا فأنت خيارُها
فهنيئا لمن كانت هذهِ مآثره، والناسُ شهودٌ له عند ربه؛ (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[يونس: 64]، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30 - 32].
وأعلن النبيُ -صلى الله عليه وسلم- على منبرهِ البشارةَ لمن هذه من أعماله، فقال في خطبتهِ: "وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ"(أخرجه مسلم)، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
النفس والأسرة والمجتمع لا يبني فخرَها شهرةٌ ولا جاه، ولا تحتاجُ لأن تعتز وترتقي بأوسمةٍ يُعَرِفُها، أو صورٍ يُشْهِرُها، المجتمعُ والأمةُ تحتاج إلى من يجسدُ شخصيتَه بمآثره، وحياتَه بعمله، وعملَه بإخلاصه؛ "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(أخرجه مسلم).
لم يجعلوا همَّهم حشو البطونِ ولا *** لبسُ الحريرِ ولا الإغراقِ في النعمِ
الأممُ لا تقاسُ بأعمارِها، والرجالُ لا يذكرون إلا بمآثرهم، عاش سعدُ بن معاذِ -رضي الله عنه- في الإسلام سبع سنين، فقام في الإسلامِ مقاماً عظيما، ومات وهو ابنُ سبعٍ وثلاثين سنة، فاهتز لموته عرش الرحمن، ومات الإمام النووي في الأربعين، فخلد الله ذكره في العالمين، وتوفي ابن تيمية وليس له ولد، فجعل الله الأمة كلها له ولد!.
تلك المكارمُ لا قعبانَ من لبنٍ *** وهكذا السيفُ لا سيفُ ابنُ ذي يزَنِ
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم *** إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ
تشبُهٌ ببذل العلم أو نشره، تشبُهٌ ببذلُ العطاء والسخاء، سخاءُ في الأخلاق، سخاءٌ في الشفاعة والنفع، سخاء بالروح والجاه، سخاءُ بالبسمة والتواضع البشاشة، كلٌ ينفق مما عنده؛ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطلاق: 7]، و"إنَّ المُؤْمِنَ ليُدرِكُ بِحُسنِ خُلُقِهِ درجةَ الصائِم القائِم"(أخرجه أبوداود)، فالمكارمُ منوطةٌ بالمكاره، والمصالحُ والخيرات لا تُنَالُ إلا بحظٍّ من المشقة.
بَصُرتُ بالراحةِ الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسرٍ من التَّعَبِ
من استطاع أن يميط شوكة عن طريق فليمطها، ومن أمكنه أن يبذر حبة خير في الأرض فليبذرها، ومن استطاع أن يرد شرا فليدفعه؛ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].
وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربكم لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: المسلم لو كان صانعاً لا يرضى بمنزلة دون الإتقان، فلا قيمة لمن اتكل على غيره، ونظر إلى الأسفل على الدوام، وإذا باركَ الله في حياة الإنسان نفع نفسه، وانتفع منه أهله والناس، ولو كان العمل قليلاً، فلا قليل مع الإخلاص، ولا كثير مع الرياء وحب الظهور؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)[الجاثية: 15]، (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21]، سير ومآثر الكبار هي التي تربي الأجيال على معالي الأمور، وتصنع أعملاً تبقي آثاراً.
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
والموفق من جعل لنفسه حسناتٌ درَّارات؛ "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(أخرجه مسلم)، والموت حق؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[العنكبوت: 57].
فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق في مال اكتسبه من غير معصية، ورحِمَ أهلَ الضّرِّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.
طوبى لمن ذلّ في نفسه لله، وحسُنت خليقته للناس، وصلحت سريرته، وزالت عن الناس شرّته.
طوبى لمن عمل بعلم، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السّنّة، ولم يدعُ لمنكرٍ وبدعة.
اللهم زدنا علما وعملا ورزقا وتوفيقا، اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وفي أرزاقنا وذرياتنا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم