يتيم العلم والأدب

عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ عظم حق اليتيم في الإسلام ومشقة اليتيم 2/ أيتام يعيشون مع آبائهم 3/ بعض واجبات الآباء تجاه الأبناء 4/ حرص السلف على تربية أبنائهم 5/ بعض واجبات المعلم تجاه الطلاب

اقتباس

هو يتيم مع أنه يرى والده كلَّ يوم، هو يتيم ولا زالت أُمُّه تعيش معه، هو يتيم في منزل أبويه، يتيم وإن أكَل من كَسْب والده، هو يتيم وإن تناوَل من طبخِ والدته، يتيم لا يُلقي له الناس بالاً، ولا يرونه محلاًّ للشفقة والحنان، يتيم لا يُؤْبَه له ولا يُرْفَع له رأس، فالناس يرونه بين والديه، فلا...

 

 

الخطبة الأولى:

 

أمَّا بعدُ:

 

فإنَّ لليتيم حَقًّا على أهله وذَوِيه، حقًّا كفَله الشَّرع الكريم، ونادَى إليه، وبيَّن لنا القُرآن الكريم حقَّ اليتيم، وخُطورة التعدِّي على حقوقه، وأوضَح لنا النبي -صلى الله عليه وسلمَ- شرفَ كافل اليتيم، وما يَجنِيه المسلم من أجور وحسنات إن هو اعتَنى باليتيم، ووفَّر له عيشة كريمة، فكفالته من أسباب دخول الجنة.

 

واليتيم هو: مَن فقَد أباه أو أمَّه وهو صغير.

 

وكم لفَقْد الوالدين أو أحدهما من لوعة في النفس، ووَحْشة في الحياة، لا يُطيقها الصغير، فلا زال قلبه طريًّا يتأثَّر لهذا الفَقْد، ولا زال جسمه صغيرًا لا يتحمَّل مشاقَّ الحياة ومعاناتها! ومن هنا كان لزامًا على المجتمع المسلم القيامُ بالواجب نحو هذا اليتيم، وإيفاؤه حقَّه من الرعاية والتربية والحِفظ، وتوفير الحنان له والرِّفق بحاله، وهذا -بحمْد الله- ما تشهده مجتمعاتنا الإسلاميَّة، فلليتيم مكانه، وله حظٌّ وافر في العطف والرعاية غالبًا، وعُذر الجميع في تقديم هذه الرعاية والتواصي بها واضحٌ، فهو يتيم وكفى.

 

ولكن -أيها المؤمنون- ما ظنُّكم بمن يَصدق عليه مسمَّى اليتيم وهو يعيش بين والديه، هو يتيم مع أنه يرى والده كلَّ يوم، هو يتيم ولا زالت أُمُّه تعيش معه، هو يتيم في منزل أبويه، يتيم وإن أكَل من كَسْب والده، هو يتيم وإن تناوَل من طبخِ والدته، يتيم لا يُلقي له الناس بالاً، ولا يرونه محلاًّ للشفقة والحنان، يتيم لا يُؤْبَه له ولا يُرْفَع له رأس، فالناس يرونه بين والديه، فلا يَنطبق عليه مفهوم اليتيم في عُرفهم، فمَن يا ترى هذا اليتيم؟ وكيف استحقَّ هذا الوصف المخصوص بمن فَقَد والديه؟

 

عباد الله: إن الجواب عن هذا التساؤل قد تولاَّه الشاعر حين قال:

 

لَيْسَ الْيَتِيمُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ *** إِنَّ اليَتِيمَ يَتِيمُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ

 

وهو الذي عناه الآخر بقوله:

 

لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ *** هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلا

إِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ *** أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا

 

كم طفل نشَأ بين والديه لَم يستفد منهما غير الطعام والشراب! كم طفل تربَّى في غير أحضان والديه! كم طفل تولَّى تربيته الشارع بخيره وشرِّه! كم طفل أهمَله والداه، فشبَّ على العقوق والقطيعة! كم صغير عقَّه والداه صغيرًا، فجَنَيَا النتيجة منه وهو كبير! كم وَلَد عاق سبَقه أبوه بالعقوق في حقِّه، حين لَم يتولَّ تربيته وتعليمه وحِفظه! كم والد لا يدري أين يدرس ابنه! كم والد لا يعرف أحدًا من معلمي ولده! كم والد لا يبالي مع مَن ذهَب ابنه! كم والد كان همُّه منصبًّا على تغذية أولاده بالطعام والشراب، وتأمين الملبس والترفيه، وغفَل عن تغذية الرُّوح وسلامة القلب! كم أم انشَغَلت بوظيفتها وزياراتها عن تربية أولادها! كم من والدة وكَّلت أمر التربية للعاملة المنزليَّة، فتحوَّلت بقدرة قادر من خادمة إلى أمٍّ بالوكالة!

 

أيها المؤمنون: لا ريبَ ولا جدال في أنَّ الأسرة أهمُّ مؤسَّسة تربويَّة وأخطرها مسؤوليَّة، وأنَّ الوالد يقوم على هذه المؤسَّسة، فمتى فسَد القوام، عمَّ الفساد جميعَ الأقوام؛ يقول عليٌّ - رَضي الله عنه-: "علِّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدِّبوهم"، ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أدِّب ابنك فإنَّك مسؤول عنه: ماذا أدَّبته؟ وماذا علَّمته؟ وهو مسؤول عن برِّك وطواعيته لك".

 

وقبل ذلك وفوقه كلام ربِّ العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم : 6].

 

فيا مَن يرحم صغيرَه أنْ يمسَّه شيءٌ من الأذى هذا اليوم ألا تخاف عليه نارًا حامية، تَحرق الناس والحجارة يوم القيامة؟! وما شعورك حينذاك حين تتذكَّر أنَّك سببٌ في دخوله النار - والعياذ بالله تعالى-؟!

 

عباد الله: الأمر ليس بالهيِّن؛ فالأولاد أمانة، وزماننا يَشهد من الفتن والمُغريات ما يَشيب لهَوْله الوِلدان، ويا سعادة مَن أكرَمه الله بصلاح أولاده، فهو في سعادةٍ وحبورٍ لا يُوصَف، وهو محلٌّ للغبْطة من الآخرين، سُئِل الحسن البصري -رحمه الله تعالى- عن قوله تعالى: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان: 74] ما هذه قُرَّة الأعين؟ أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقال: لا، بل والله في الدُّنيا، قيل: ما هي؟ قال: والله أن يرى الله العبد من زوجته، من أخيه، من حميمه -طاعةَ الله، لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أنْ يرى ولدًا أو والدًا، أو حميمًا أو أخًا مُطيعًا لله- عزَّ وجلَّ.

 

وقد كان سلفُنا الكِرام يحرصون على تأديب أولادهم ورعايتهم، وتلقينهم معالِيَ الأمور، يُذكر أنَّ المنصور بعَث إلى مَن في الحبس من بني أُميَّة وسألَهم عن أشدِّ ما مرَّ بهم في هذا الحبس، فقالوا: ما فقَدنا من تربية أولادنا، وكانوا يعتنون بالأدب والتربية السليمة أكثر من اهتمامهم بطلَب العلم، هذا الإمام مالك -رحمه الله- إمام دار الهجرة، يقول: "كانت أمي تعمِّمني؛ أي تُلبسه العِمامة، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلَّم من أدبه قبل عِلمه، وسأل رجل مالكًا -رحمه الله- عن طلب العلم، فقال له: إنَّ طلب العلم يحسن، لكن انظُر الذي يَلزمك من حين تُصبح حتى تُمسي، ومن حين تُمسي حتى تُصبح، فالْزَمه، ولا تُؤثِرَنَّ عليه شيئًا، وهذا إبراهيم بن حبيب -رحمه الله- يقول: "قال لي أبي: يا بُني ائتِ الفقهاء والعلماء، وتعلَّم منهم، وخُذ من أدبهم وأخلاقهم وهَدْيهم؛ فإنَّ ذاك أحبُّ إليّ من كثيرٍ من الحديث".

 

هذا كلامهم وهذه وصاياهم -رحمهم الله- مع الفارق الكبير بين زمانهم وزماننا؛ من حيث تنوُّع المُغريات، وكثرة الصوارف والمُلهيات.

 

فإلى الله نشكو حالنا وتقصيرنا مع أنفسنا وأولادنا.

 

اللهمَّ قِنا وأهالينا وذريَّاتنا من النار، اللهم أصْلِح لنا ذرياتنا، واجعَلهم نشْأً مباركًا، صالحًا مُصلحًا يا كريم.

 

ربَّنا هبْ لنا من أزواجنا وذريَّاتنا قرَّة أعين برحمتك يا أرحم الراحمين، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أمَّا بعدُ:

 

فيا معشر المؤمنين: اتَّقوا الله ربَّكم، وقوموا بواجبكم، واحرِصوا على تربية أولادكم، كحرصكم على طعامهم وشرابهم.

 

وعودٌ على بَدء: هذه رسالة مفتوحة مَقروءَة أبعثها إلى فئة من مجتمعنا لها بصمة واضحة في التعامل مع الأولاد، ولها دورٌ لا يُنكر في تقويم أولادنا وتوجيههم، وعليهم المُعول بعد الله -عز وجل- في تكميل دور الوالدين، بل وفي التعويض عنه أحيانًا عند فَقْده، فإليكم -يا معشر المعلمين- هذه الكلمات:

 

أيها المعلم: ما ظنُّك بنفسك لو طبَّقنا عليك تلك المعايير التي كان أسلافنا يراعونها في المعلمين، حين كانوا يفتِّشون عمَّن يأخذون عنه العلم، ويُنقِّبون عن سَمته وهَدْيه قبل الجثوِّ بين يديه والتلقي منه؟ يقول إبراهيم النخعي -رحمه الله-: "كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سَمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه"، ويقول أيضًا: "كنا إذا أردْنا أن نأخذَ عن شيخٍ، سألنا عن مَطعمه ومشربه، ومدخله ومخرجه، فإن كان على استواء أخَذنا عنه، وإلاَّ لَم نأته".

 

وقد كان السلف يحرصون على أخذ الأدب والخُلق من المعلم أكثر من حِرصهم على أخذ العلم؛ هذا الحسين بن إسماعيل يحكي عن والده قائلاً: "كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقي يتعلَّمون منه حُسن الأدب، وحُسن السَّمت"، وروى الإمام مالك عن ابن سيرين -رحمه الله- أنه قال واصفًا حالَ كبار التابعين: "كانوا يتعلَّمون الهدي كما يتعلمون العلم"، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يرحلون إليه، فينظرون إلى سَمته وهَدْيه ودَلِّه فيتشبَّهون به، وذكَر الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- في ترجمة الإمام علي بن المديني -رحمه الله- أنَّ الناس كانوا يكتبون قيامه وقعوده ولباسه، وكلَّ شيء يقول ويفعل، وقال ابن وهب -رحمه الله-: "ما نقَلنا من أدب مالك أكثر مما تعلَّمنا من عِلمه".

 

وما منَّا أحد جلَس في مقاعد الدراسة، وتقلَّب في جَنبات المدارس والجامعات، إلاَّ ويذكر بعض معلِّميه بالخير ممن كان لهم أثرٌ عليه في علم أو سلوك، أو حُسن خُلقٍ.

 

فيا معشر المعلمين: تذكَّروا ما أنتم عليه من المسؤولية العظيمة، والأمانة الثقيلة، حين يُقبل عليكم أولاد المسلمين، فيَنهلوا من أخلاقكم وتعاملكم أكثر من عِلمكم شِئتم أم أبيتُم، ومَن شكَّ في شيء من هذا فليَسلِ ابْنَه الصغير قبل الكبير، فسيرى ويسمع عجبًا.

 

عارٌ عليك -أيها المعلم- أن تكون أخلاقك وتصرُّفاتك تُخالف ما تقوله لطلابك.

 

عارٌ عليك -أيها المعلم- حين تعامل طلابَك وكأنهم خُشُبٌ مُسَنَّدة، لا تشعر ولا تحس، أيُّ أثر يسري في طلابك -أيها المعلم- وهم يرون منك هِمَّة ضعيفة، وتعاملاً سيِّئًا؟!

 

أخي المعلم: تذكَّر أنَّ من طلابك مَن هو يتيم العلم والأدب، فلا تزد الطين بللاً، ولا الإهمال إهمالاً، ووالله إنَّ لك -أيها المعلم- من الأثر في طلابك ما قد لا تتصوَّره، فاحتَسِب الأجر وأحسن العمل، وإياك أن يَشغلك عن مهمتك الأساسيَّة الحديث عن مميزات المعلم وإجازاته، وعن تعامل المسؤولين مع المعلم، فكم سَمِعنا من المعلمين مَن يندب حظَّه في هذه الوظيفة، ويتمنَّى أن لو كان موظَّفًا ذا كرسي ثابت، أو دوار يبقى ساكنًا في مكانه، لا يَشغله طالب، ولا يدعوه مدير، ولا يواجه وَلِيَّ أمرٍ، ولكن لو استشعَر المعلمون ما هم عليه من أبواب الخير والأجر، لأدركوا نعمة الله عليهم حين يورِّثون أبناء المسلمين علمًا نافعًا، وأدبًا يبقى صدقة جارية لا يَنضب مَعينُها، يكفيكم يا معشر المعلمين قول المعلم الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرَضين، حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت، ليُصلون على معلِّم الناس الخيرَ" [أخرَجه الترمذي، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"]، ونقَل الترمذي أيضًا قول الفُضيل بن عياض: "عالم عامل معلِّم، يُدعى كبيرًا في ملكوت السماوات"، فهنيئًا لِمَن كان معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مرشدًا ومُوجِّهًا، وبالخير سابقًا، وهنيئًا ثم هنيئًا لمن كان قدوة لأولاده وطلابه في حُسن الخُلق ولزوم الطاعة، والبُعد عن سفاسف الأمور.

 

اللهمَّ أكرِمنا بصلاح أولادنا، اللهم اهْدنا وإيَّاهم لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرِف عنَّا وإيَّاهم سيِّئ الأخلاق لا يَصرف عنا سيِّئها إلا أنت.

 

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

 

المرفقات

العلم والأدب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات