يبشر بالجنة وهو حي

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/قصة الصحابي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ" 2/داء الحسد والتحذير منه ووجوب الخلاص منه.

اقتباس

ثمَّتَ دسيسةٌ قلبيةٌ خفيةٌ وهيَ: أن بعضَ العداواتِ التي يُفرزُها الحسدُ تُلبَسُ بقمُصٍ متعددةٍ، بدافعِ الغيرةِ، أو التناصحِ، أو لباسِ المصلحةِ العامةِ، من خلالِ الفَرَحِ بزلاتِ الأقرانِ، أو تصيُّدِ أخطاءِ الزملاء، بل ربما تَعدى الأمرُ إلى...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله المحمود وحده، وقد رَضِيَ من أهلِ الْجنَّةِ أن قَالُوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)[الزمر: 74]، وأشْهدُ أَن لَا إِلَه إِلَّا هو وَحدَه لَا شريكَ لَهُ، وَأشْهدُ أَن مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسُولُه، صلى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبهِ، وَسلمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فالزادَ الزادَ التقوى.

 

أيُّها المصلونَ المتصلونَ باللهِ: أما ذاكَ البابُ، فكانتْ أعينُ الصحابةِ شاخصةً إليه، ترقبُ أولَ داخلٍ منه! لم؟

 

لقد حدّثَهم الذي لا ينطقُ عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرَهم عنه خبراً عجيباً، فقال: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ"، رجلٌ من أهلِ الجنةِ يعيشُ بينَهم.

 

وتشتاقُ النفوسُ بلهفةٍ إلى لقائهِ، ويَدخلُ الرجلُ! فإذا هوَ رجلٌ منهم يعرفونَه، دخلَ مشمراً ثيابَه، ممسكاً نعليهِ بشمالِه، تقطرُ لحيتُه ماءً من أثرِ وضوئهِ.

 

فلما كانَ من الغدِ دفعَ إليهمُ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- الخبرَ ذاتَه قائلاً: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ".

 

من هوَ يا تُرى هذا الرجلُ الآخرُ من أهلِ الجنةِ؟

عَرفنا ذاكَ فمَن هذا؟ ولم يَطُلِ الانتظارُ، وإذا بالداخلِ هو صاحبُهم بالأمسِ.

 

واليومُ الثالثُ يأتي وتأتي معَه البشارةُ: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ"، فيَدخلُ الرجلُ هوَ هو بهيئتِه تَقطرُ لحيتُه ماءً من أثرِ الوضوءِ، أطرافُه مبللةٌ بالماءِ، قد أمسكَ نعلَه بشمالِه.

 

إن رجلاً يُبشَّرُ بالجنةِ ثلاثَ ليالٍ متتاليةٍ، لَرَجلٌ حَريٌ أن يُتقصَّى خبرُه، ثم يُقتفَى أثرُه.

 

وانتُدبَ إلى هذهِ المهمةِ عبدُ اللهِ بنُ عمروِ بنِ العاصِ -رضي اللهُ عنهما-، ذهبَ إليه فقال له: إِنِّي خاصمتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثاً، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ".

 

فرحبَ به وأكرمَ مثواه، وباتَ ابنُ عمروٍ عندَ ذاكَ الصحابيِ يَسبرُ حالَه، ويَرصدُ أفعالَه، فانتظرَ أن يُحييَ الليلَ كلَه قياماً، فلم يَفعلْ، فانتظرَ ليلةً، وثالثةً، فلم يَرَ فِعلاً يَستعْجِبُ منه.

 

فلما انقضتِ الليالي الثلاثُ، قالَ عبدُ الله: -وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ- أقبلَ عليِه قائلاً: "يا أخي أما إنَه لم يكنْ بيني وبينَ أبي خصومةٌ، ولكنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-أخبَرنا ثلاثةَ أيامٍ متتاليةً، أن رجلاً من أهلِ الجنةِ يدخلُ علينا من الباب، فكنتَ أنت الداخلَ في كلِ مرة، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ؛ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ لِلَّهِ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ له: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ" قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ المُسْلمِينَ غِشًّا، وَلاَ أَحْسُدُ أَحَداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"، فانصرفَ ابنُ عمروٍ وهو يقولُ: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ".

 

"وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ" تضَعُ جنبَك على فراشِك بقلبٍ سليمٍ ليسَ فيه غشٌ لأحدٍ مِن المسلمينَ، وتنظرُ إلى نِعمِ اللهِ على عبادِه، فلا تَحسدُ منهم أحدًا! مَن يُطيقُها؟

 

هذه القصةُ عندما نتأملُها تَفتحُ أعينَنا إلى مشكلةٍ كبرى، إنها مشكلةُ الانتماءِ السلبيِ للإسلامِ الذي يعيشُه كثيرٌ مِن المسلمينَ.

 

ألَا إننا بأشدِ الضرورةِ أن نعلمَ أنه يومَ يدِبُّ إلى قلوبِنا شيءٌ من خطايا القلوبِ، فكأن النارَ تشتعلُ في ثيابِنا، فلنخَفْ من معاصي القلوبِ أكثرَ مما نخافُ من معاصي الجوارحِ؛ لأن المصابَ بها لا يؤنِّبُ نفسَه عليها، بل يَتآلَفُ معها.

 

بل ونحنُ نسمعُ الآنَ عن خطرِ الحسدِ، قد لا نعتقدُ أننا حاسدونَ، بل محسودونَ، ونعتقدُ أن المخاطبَ غيرُنا لا نحنُ، فلنحاسِب أنفسَنا، ولنفتّشْ عن قلوبِنا، ولندَعْ غيرَنا، ولندْعُ كما دعا نبينُا -صلى الله عليه وسلم- ربَه، فقال: "واسلُل سخيمةَ قلبي"، ودعا الصالحونَ من عبادِ اللهِ، فقالوا: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10]، فتعالَوا لننظرَ إلى حالِنا مع القلبِ ملكِ الأعضاء: الذي إذا صلُحَ صلُحَ الجسدُ كلُه، وإذا فسدَ فسدَ الجسدُ كلُه.

 

فمَنِ الذي وقفَ منا مع نفسِه مُعنفاً؛ لأنَه أحسَ بالبغضاءِ تدِبُ في قلبِه؟ مَن الذي وقفَ منا مع نفسِه محذرًا لأن الحسدَ تحركَ بين جوانِحه؟ مَن منا سألَ نفسَه: هل حقًا أتعاملُ مع أخي المسلمِ المقيمِ، كما أتعاملُ مع أخي المسلمِ المواطنِ؟

 

وثمَّتَ دسيسةٌ قلبيةٌ خفيةٌ وهيَ: أن بعضَ العداواتِ التي يُفرزُها الحسدُ تُلبَسُ بقمُصٍ متعددةٍ، بدافعِ الغيرةِ، أو التناصحِ، أو لباسِ المصلحةِ العامةِ، من خلالِ الفَرَحِ بزلاتِ الأقرانِ، أو تصيُّدِ أخطاءِ الزملاء، بل ربما تَعدى الأمرُ إلى أن تكونَ الحدودُ الجغرافيةُ، أو الانتماءاتُ القبليةُ مؤثرةً ومثيرةً للشحناءِ بيننا.

 

(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].

 

اللهم ارزقْنا نعيمًا مُعجلاً في الدنيا قبلَ الآخرةِ بأن تنزِعَ ما في صدورِنا من غلٍ إخوانًا.

 

اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أَشْقِياء، وَكُنْ بِنا رَؤوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.

 

سبحانَك ربَنا ما عبدناكَ حقَ عبادتِك، سبحانَك ما قدَرناكَ حقَ قدرِك.

 

اللهم احفظ علينا دينَنا وأعراضَنا ومقدساتِنا، وارزقْ نساءَنا مزيدَ الحشمة، ومزيدَ التبصر بكيدِ متبعي الشهواتِ، الذين يريدونَ أن نميلَ ميلاً عظيمًا.

 

اللهم أرخِصْ أسعارَنا، وآمِنْ ديارَنا، واحمِ حدودِنا، واحفظْ مجاهدِينا، واشفِ مرضانا، وارحمْ موتانا، واجمعْ على الهدى شؤونَنا، واقضِ اللهم ديونَنا.

 

اللهم احفظْ وليَ أمرِنا، ووليَ عهدِه، وأمراءَهم، وارزقهُم بطانةَ الصلاحِ، واكفِنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفجارِ، والحاسدينَ والمتربصينَ.

 

المرفقات

يبشر بالجنة وهو حي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات