ويل لكل همزة لمزة

د خالد بن عبدالرحمن الراجحي

2023-06-02 - 1444/11/13 2023-06-05 - 1444/11/16
عناصر الخطبة
1/التساهل في أمر اللسان مع تسارع الأحداث والأخبار 2/عظم قدر اللسان 3/المسارعة في نشر الأخبار والفضائح وخطره 4/الدعوة لحفظ اللسان

اقتباس

اجعلوا ألسنتكم وسائل لمرضاة الله من دعوة إلى الله -تعالى- وتعليم للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتربية صالحة للأولاد، وتلطف للجار وذوي القربي...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

 

أما بعد: اتقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، واحفظوا حدوده ولا تقربوها، وراقبوه في خلقه، ولا تعتدوا، فالله لا يحب المعتدين.

 

أيها المسلمون: شريعة الإسلام هي أعظم الشرائع، وأجل الطرق، وأكمل المناهج، جاءت لإصلاح أحوال الناس، وتنظيم حياتهم وعلاقاتهم، فحفظت حقوق المجتمعات، وصانت حقوق الأفراد.

 

ولما كان من أشد ما يهدم المجتمعات، ويفتك بعلاقات الأفراد هو الاعتداء على الأعراض، جاءت هذه الشريعة العظيمة بالتحذير من الاعتداء وتحريمه، والحث على كل ما يحفظ علاقات الناس ببعضها.

 

ولقد علم الله -تعالى- أن الموفق من عباده هو من كف شره عن الخلق، وحفظ لسانه من الخوض في أعراض المسلمين، فكانت الجنة جزاء له، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَن يَضْمَن لي ما بيْنَ لَحْيَيْهِ وما بيْنَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ له الجَنَّةَ”(رواه البخاري).

 

وفي المقابل كان الوعيد لمن سلط لسانه على الناس، ولو بالهمز أو اللمز، قال تعالى: (وَيْل لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَةٍ)، ثم ذكر الله -تعالى- عقابه بأن له (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ).

 

أيها المسلمون: في تسارع الأحداث وكثرة الأخبار في هذا الزمان، يتناقل الناس في مجالسهم وفي مراسلاتهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي من الأحداث والأخبار والطرائف الصوتية والمرئية ما لا يحصى لها كثرة، ولا يعلم لها منتهى.

 

قد طغت على حياة كثير من الناس حتى شغلتهم عن أهدافهم، وثبطتهم عن هممهم، وقل من أحسن استخدامها، وأجاد التعامل معها.

 

وإن مما غفل عنه كثير من الناس في تعاملهم مع هذه الوسائل: التساهل في أمر اللسان، فكثرت الغيبة والنميمة والوقيعة والكذب وحديث المرء ما لا يعنيه.

 

تصوروا -أيها المسلمون- ذلك الموقف العظيم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسير مع أصحابه مسافرا، فإذا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يرى نفسه قريبا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فينتهز معاذ هذه الفرصة، ويقترب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ” ثُمَّ قَالَ: “أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَرَأَ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) -حَتَّى- (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟”، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ”ثُمَّ قَالَ: “أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟”، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: “اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا”، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَإِنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ”.

 

تصوروا كيف ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ كل أبواب الخير فرائض ونوافل، من توحيد لله وصلاة وزكاة وصوم وحج، وصدقة وقيام لليل وجهاد في سبيل، ثم جعل ملاك ذلك كله كف اللسان. قال ابن حجر: النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم.

 

أيها المسلمون: يمر على كل واحد منا في كل يوم جملة من المنشورات والمقالات والأحداث السياسية والأخبار الاقتصادية والوقائع الرياضية وغيرها، ربما سارع في نشرها وإرسالها لغيره من غير تثبت، وربما طعن أو لمز في مسلم من خلالها، أو في أقل الأحوال ربما خاض الإنسان أو تكلم فيما لا يعنيه، وكل ذلك مذموم محذر منه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ”(رواه البخاري).

 

السرعة في إرسال الأخبار والاستعجال فيها من غير تثبت منهي عنه، وفي الحديث: “كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ”(رواه مسلم).

 

الخوض في أمور السياسة والأمن والخوف من غير ذوي الاختصاص ونشرها وبثها في الناس منهي عنه (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْر مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

 

تحدث الإنسان في أمر لا يعنيه ونشره وحب الاطلاع عليه علامة ضعف ونقص، لا قوة وكمال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ”(رواه الترمذي).

 

الفرح بانكشاف عورات الناس ونشرها وإرسالها جريمة عظيمة، توعد الله أصحابها، ووعد الله من ستر مؤمنا بالستر في الدنيا والآخرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ”(رواه البخاري).

 

الكذب والغيمة والنميمة والفحش بالقول، كل ذلك من الأفعال القبيحة المذمومة التي امتلأت بها وسائل التواصل اليوم، والتي وجب على كل مسلم أن يكون فاعلا بنبذه لتلك الصفات، وناهيا عنها لكونها من المنكر، وآمرا للخير والمعروف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ مالُهُ وعِرْضُهُ ودَمُهُ”(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

 

أيها المسلمون: كان سيدنا وحبيبنا -رسول الله صلى الله عليه وسلم- كريما عفيف اللسان، حسن الخلق، لا يؤذي الناس في أموالهم، ولا يطعن في أعراضهم، يبتغي بذلك ستر الله وعفوه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: “لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ:”إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا”(رواه البخاري).

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وليكن كل واحد منا لبنة خير في مجتمعه بفعله وقوله، اتقوا الله في ألسنتكم، وارعوا ذلك حق الرعاية، فإن الإنسان (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)، أي ملكان يكتبان كل شيء.

 

اجعلوا ألسنتكم وسائل لمرضاة الله من دعوة إلى الله -تعالى- وتعليم للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتربية صالحة للأولاد، وتلطف للجار وذوي القربي، فكل ذلك من علامة الإيمان. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ”(رواه مسلم).

 

وإنه إذا كثرت الفتن وانتشر الشر تأكد على المسلم حفظ لسانه، عن عُقبةَ بنُ عامرٍ -رضِيَ اللهُ عَنه- قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟ قَال: “أمسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسعْك بيتُك، وابْكِ على خطيئتِكَ”(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

 

هذا وخير ما يعين على حفظ اللسان: كثرة ذكر الله؛ فَعَن ابنِ عُمرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:”لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإنَّ كَثْرَةَ الكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- قَسْوَةٌ لِلقَلْبِ! وإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي”(رواه الترمذي).

 

وإن من أطيب الذكر وأعظمه خاصة في هذا اليوم، الصلاة على رسول الله -صلى الله عله وسلم-، فأكثروا من الصلاة عليه، فمن أكثر الصلاة عليه كفي همه وغفر ذنبه.

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

المرفقات

ويل لكل همزة لمزة.doc

ويل لكل همزة لمزة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات