وما أدراكم ما الأم

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-28 - 1436/03/06
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/عظم شأن الأم وفضائلها 2/منزلة الأم ومكانتها في الإسلام 3/رسالة أم مكلومة إلى ولدها 4/واجب الأبناء تجاه الأمهات

اقتباس

كم حَزِن لتَفرح، وجاع لتشبع، وبكى لتضحك، وسهر لتنام، وتحمّل الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحتَ فرِح، وإن حزنتَ حزِن، إذا دَاهمك الهمّ فحياته في غمّ، أمله أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضياَ مرضيًا، مُناه أن يرفرف السرور في سمائك.

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: على البسيطة من هذا الكون، ثَمَّ مخلوقة ضعيفة، تغلب عليها العاطفة الحانية والرقة، لها من الجهود والفضائل ما قد يتجاهله ذوو الترف، ممن لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها.

 

هي جندية حيث لا جند، وهي حارسة حيث لا حرس، لها من قوة الجذب.

 

ومَلَكة الاستعطاف ما تأخذ به لبَّ الصبي والكبير، وتملك نياط العاطفة دِقّها وجِلِّها، وتحل منه محل العضو من الجسد، قلبٌ رحيم وصدر حنون، مجبولٌ على الشفقة، نفسٌ كبيرة وسعتْ ما لم تسعه آلاف النفوس، خلِق يوم خُلِق، فركّبت فيه الرحمة حين خالطت أحشاءَه، وسرت سريان الدم في عروقه، يحِبُّ وإن لم يُحَبّ، ويحنو وإن أغلِظ عليه.

 

لا تجازي بالسيئة السيئة، بل يغشى المسيء برّا وإحسانًا؛ إنه المخلوق الذي قدّم وضحّى ولم يزل.

 

كم حَزِن لتَفرح، وجاع لتشبع، وبكى لتضحك، وسهر لتنام، وتحمّل الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحتَ فرِح، وإن حزنتَ حزِن، إذا دَاهمك الهمّ فحياته في غمّ، أمله أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضياَ مرضيًا، مُناه أن يرفرف السرور في سمائك.

 

إنه المخلوق الضعيف الذي يعطي، ولا يطلب أجرًا، ويبذل ولا يأمل شكرًا، هل سمعتَ عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله؟

 

لا، بل أكثر من دنياه، لا، بل أكثر من نفسه التي بين جنبيه، نعم يحبّك أكثر من نفسه، وهي أضعف خلق الله إنساناً، إنها مخلوقة تسمى: الأم، وما أدراكم ما الأم؟!.

 

أم الإنسان -عباد الله- هي أصله وعماده الذي يتكئ عليه، ويرد إليه: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً)[النحل: 72].

 

جاء رجل يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك"[خرجاه في الصحيحين].

 

وسلام الله على نبيه عيسى -عليه السلان- حين قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[مريم: 32].

 

يا عبدالله: تأمّل حالَ صغرك، تذكّر ضعف طفولتك، فقد حملتك أمك في بطنها تسعةَ أشهر، وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى، تقاسي مرارة القيء والوحام، يتبعها آثار نفسية وجسمية، تعمل كل شيء اعتادته قبل حملها بصعوبة بالغة وشدة، وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر، تتصبّر، تتصبّر، وكأن لسان حالها يقول: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)[مريم: 23].

 

ثم لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين قسراً وإرغاماً، فيمزق اللحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها، واستنشقت ريحك، وتحسست أنفاسك تتردّد، نسيت آلامها، وتناست أوجاعها، وكأن شيئاً لم يكن إذا انقضى، ثم علّقت فيك آمالها، ورأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم انصرفت إلى خدمتك ليلُها ونهارها.

 

تغذيك بصحتها، وتنميك بهزالها، وتقوّيك بضعفها، فطعامك درّها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، تجوع لتَشبع، وتسهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة.

 

إن غابت عنك دعوتَها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب الخير كلَّه عندها، وتظنّ الشرّ لا يصل إليك إذا ضمّتك إلى صدرها، أو لاحظتك بعينها، تخاف عليك رقّة النسيم، وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة.

 

فلما تم فصالك في عامين، وبدأت بالمشي، أخذَت تحيطك بعنايتها، وتتبعك نظراتها، وتسعى وراءك خوفًا عليك.

 

ثم كبرت وأَخذتْ منك السنين، فأخذ منها الشوق والحنين، صورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، صوتك أبدى على مسمعها من تغريد البلابل، وغناء الأطيار.

 

ريحك أروع عندها من الأطياب والأزهار، سعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، يرخص عندها كلّ شيء في سبيل راحتك، حتى ترخص عندها نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.

 

روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن معاوية السلمي -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدار الآخرة؟ قال: "ويحك، أحيةٌ أمك؟" قلت: نعم، قال: "ارجع فبرِّها".

 

ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة؟ قال: "ويحك، أحيةٌ أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فارجع إليها فبرِّها" ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: "ويحك، أحيةٌ أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ويحك، الزم رجلَها فثمّ الجنة".

 

قال محمد بن المنكدر: "بتّ أغمز رجلَ أمي، وبات أخي عمر ليلته يصلّي، فما تسُرّني ليلته بليلي".

 

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والداي ليبكيان، قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"[رواه ابن ماجة].

 

أيها المسلمون: إنها الأم، يا من تريد النجاة، الزم رجليها فثمّ الجنة، قال ابن عمر -رضي الله عنهما- لرجل: "أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟" قال: نعم، قال: "برّ أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلنّ الجنة ما اجتنبت الموبقات".

 

إن البر دأب الصالحين، وسيرة العارفين، أراد ابن الحسن التميمي قتلَ عقرب فدخلت في جحر، فأدخلها أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له في ذلك، قال: "خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي وتلدغها".

 

وقال محمد بن سيرين: "بلغت النخلة على عهد عثمان -رضي الله عنه- ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها".

 

عبد الله بن عون نادته أمه، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.

 

وزين العابدين كان أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها في صحفة واحدة، فقيل له: إنك أبرّ الناس ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة؟! فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها، ولقد مضى بين أيدينا أقوام لا يعلو أحدهم بيته وأمه أسفله".

 

إنها الجنة يا طالب الجنة، الزم قدميها فثمّ الجنة.

 

روى الترمذي وصححه عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه".

 

وفي صحيح الترمذي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رضا الرب من رضا الوالد، وسخطه الرب من سخط الوالد".

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين -يعني من الجنة- وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرضى الله عنه حتى يرضى عنه" قيل: وإن ظلما؟ قال: "وإن ظلما".

 

لأمك حق لو علمتَ كبير *** كثيرك يا هذا لديه يسير

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جواها أنّة وزفير

وفي الوضع لا تدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها *** وما حِجرها إلا لديك سرير

وتعديك مما تشتكيه بنفسها *** ومن ثديها شرب لديك نمير

وكم مرّة جاعت وأعطتك قوتها *** حنواً وإشفاقًا وأنت صغير

فضيعتها لما أسئت جهالة *** وطال عليك الأمر وهو قصير

فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعو إليه فقير

 

رأى ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراءه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المدلَّل، حملتُها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟! قال ابن عمر: "لا، ولا بزفرة واحدة".

 

ورُويَ عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "بر الوالدين كفارة الكبائر".

 

معاشر المؤمنين: كم ساعات قضى فيها المسلم للوالدين حاجات، غفر الله -عز وجل- بها الذنوب والزلات، وخرج بها من الهموم والكربات؟ كم ولد بار أو فتاة بارة قاما من عند والديهما بعد سلام أو طيب كلام أو هدية متواضعة، وقد فتحت أبواب السماء بدعوات مستجابات لهما من والديهما الضعيفين الكبيرين؟

 

فاتقوا الله -معاشر المسلمين- في الوالدين، سيما إذا بلغا من الكبر والسنّ ما بلغا، ووهن العظم منهما، واشتعل الرأس شيبًا، إذا بلغت بهما الحال ما بلغت، وأصبحا ينظران إليك نظر الذي ينتظر لقمة هنية، أو أعطية جزية.

 

أيها المسلمون: ومع هذا الحب الفيّاض، والعطف الرؤوف، والحنان المتدفق من الأم، نسمع ونرى -مع كل أسف- من صور العقوق، ونكران الجميل، والقسوة العجيبة، والغلظة الرهيبة، وإساءة العمل، وسوء التعامل، ما لو أن الواحد وقف على بعضه، وسمع من الأثبات البعض الآخر؛ لأنكره أشدّ النكير، ولما تطرق إلى خياله أنه الصدق والواقع.

 

أيها المسلمون: هذه رسالة أقرأها عليكم، تبعَثها أم مكلومة إلى وليدها وريحانة فؤادها، قالت الأم المسكينة: "يا بني! كان يومًا مُشرقًا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل، والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جدًّا، فهي مزيج من الفرح والسرور، وبداية معاناة، وبعد هذه البشرى حملتك يا بني تسعة أشهر في بطني فرحة جذلة، أقوم متثاقلة، وأنام بصعوبة، وآكلُ مرغمة، وأتنفّس بألم، ولكن كل ذلك لم ينقص من محبتي لك وفرحي بك، بل نَمَت محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك.

 

حملتك يا بني وهنًا على وهن، وألمًا على ألم، بيد أني كنت أفرح وأفرح كلما شعرت بحركتك داخل جوفي، وأُسرّ بزيادة وزنك، مع أنه حمل ثقيل عليّ، إنها معاناة طويلة، أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم، ولا يتحدّث عنه اللسان، ورأيتُ بأمي عيني والله يا بني الموت مرات عدّة حتى خرجتَ إلى الدنيا، فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلامي وجراحي.

 

يا بني! مرّت سنوات من عمري وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشًا، وصدري لك غذاء، أسهرت ليلي لتنام، وأتعبت نهاري لتسعد، أمنيتي أن أرى ابتسامتك، وسروري كلّ لحظة أن تطلب مني شيئًا أصنعُه لك، فتلك منتهى سعادتي.

 

ومرت الأيام والليالي، وأنا على تلك الحال، خادمة لم أقصّر، ومرضعة لم أتوقف، وعاملة لم أفتر، حتى اشتدّ عودك، واستقام شبابك، وبدأت تظهر عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا ويسارًا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت، وأتى موعد زفافك، فتقطع قلبي، وجرت مدامعي، فرحة بحياتك السعيدة الجديدة، وحزناً على فراقك، ومرّت الساعات ثقيلة، فإذا بك لست ابني الذي عرفت، لقد أنكرتني وتناسيت حقي، تمرّ الأيام لا أراك، ولا أسمع صوتك، وتجاهلت من قامت لك خير قيام.

 

يا بني! لا أطلب إلا القليل، اجعلني من أطرف أصدقائك عندك، وأبعدهم خطوة لديك، اجعلني يا بني إحدى محطات حياتك الشهرية، لأراك فيها ولو لدقائق.

 

يا بني: أحدودب ظهري، وارتعشت أطرافي، وأنهكتني الأمراض، وزارتني الأسقام، لا أقوم إلا بصعوبة، ولا أجلس إلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك، لو أكرمَك شخصٌ يومًا لأثنيت على حسن صنعه وجميله، وأمك يا رعاك ربي أحسنت إليك إحسانًا لا تراه، ومعروفًا لا تجازيه، لقد خَدَمَتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات، فأين الجزاء والوفاء؟! إلى هذا الحد بلغت بك القسوة وأخذتك الأيام؟!.

 

يا بني! كلما علمتُ أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي، وأتساءل: أي ذنب جنيته حتى أصبحتُ عدوة لك، لا تطيق رؤيتي وتتثاقل عني؟! لن أرفع شكواك، ولن أبثّ الحزن؛ لأنها إن ارتفعت فوق الغمام، واعتلت إلى باب السماء، أصابك شؤم العقوق، ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة، لا، لن أفعل، لا تزال يا بني فلذة كبدي، وريحانة حياتي، وبهجة دنياي.

 

أفق يا بني بدأ الشيب يعلو رأسَك، وتمر سنوات ثم تصبح أبا شيخًا، والجزاء من جنس العمل، وستَكتُب رسائل لابنك بدموع مثل ما كتبتُ لك، وعند الله تجتمع الخصوم.

 

يا بني: اتق الله في أمك، كفكِف دمعها، وخفف حزنها، وإن شئت بعد ذلك فمزّق رسالتها، واعلم أنه من عَمِل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن مما يُبرز مكانة الأم، ويُظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العليّ الذي بوأها إيَّاه: أنَّ الله -تعالى- جعل حقَّها مقدماً على الفروض الكفائية، التي قام بها من المسلمين من أسقط وجوبها العيني عن الباقين، فأصبحت في باب المستحبات، فحقُّ الأمِّ حينئذٍ مقدم على هذه الفروض الكفائية، أما إن كان الأمر فرضاً عينياً فلا.

 

وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن رجل له والدة، يستأذنها أن يرحل لطلب العلم؟ فقال: إن كان جاهلاً، لا يدري كيف يطلق، ولا يصلي، فطلب العلم أوجب، وإن كان قد عرف، فالمقام عليها أحبُّ إلي.

 

أيها المسلمون: إن حق الأم عليك -يا عبدالله- عظيم، وشأنها كبير، لا تناديها باسمها، بل نادها بما تحبّ من اسم أو كنية، لا تجلس قَبْلها، ولا تمشي أمامها، قابلها بوجه طلْق، قبّل رأسها، والثم يدها، إذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة، أجب دعوتها إذا دعتك من دون ضجر أو كراهية، تكلم معها باللين، أطعمها إذا جاعت أو اشتهت صنفًا وإن لم تطلب، أهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كن خادمًا مطيعًا لها، أطعها في غير معصية، لا تسبقها بأكل أو شرب، أبهجها بالدعاء لها آناء الليل وأطراف النهار بالرحمة والمغفرة، غضّ الطرف عن أخطائها وزلاتها، لا تتأسّف أو تحدّث أحدًا عن سبيل الشكاية أو النكاية، وقّرها واحترمها، لا تتكبّر عليها، فقد كنت في أحشائها وبين يديها، أدخل السرور عليها، صاحبها بالمعروف، اطلب الدعاء منها فلها تفتح أبواب السماء.

 

تقول عائشة -رضي الله عنها-: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله قد أوجب لها الجنة، أو أعتقها من النار"[رواه مسلم].

 

ألا فليتق الله الأولاد، وليقدِّروا للأم حقَّها وبرَّها، ولينتهينّ أقوام عن عقوق أمهاتهم قبل أن تحل بهم عقوبة الله وقارعته؛ ففي الصحيحين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات".

 

ألا لا يَعجبنَّ أحدٌ ببره بأمه، أو يتعاظم ما يسديه لها، فبرُّها طريق إلى الجنة.

 

هذا واعلموا أن الله أمركم بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلّث بكم أيها المؤمنين من جنّه وإنسه، فقال عز من قائل عليما وآمراً حكيما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة...

 

 

 

المرفقات

أدراكم ما الأم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات