ولكنكم تستعجلون

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-17 - 1436/02/25
عناصر الخطبة
1/حديث خباب بن الأرت وبعض فوائده وعبره 2/أنواع الاستعجال 3/أبرز صور ومظاهر الاستعجال المذموم

اقتباس

"ولكنكم تستعجلون" ما أحسن الكلمة! وما أجمل العبارة! وما أروع هذا البيان!. لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان. "ولكنكم تستعجلون" استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم ليخبر الصالحين والمصلحين: أن الصبر هو...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ …

 

أما بعد:

 

أخرج البخاري في صحيحه: أن خباباً -رضي الله عنه- قال: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بُردةً، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدّةً، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرٌ وجهه، فقال: لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُشق اثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

 

"ولكنكم تستعجلون" ما أحسن الكلمة؟! وما أجمل العبارة؟! وما أروع هذا البيان؟!

 

لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان.

 

"ولكنكم تستعجلون" استدراك عجيب منه -صلى الله عليه وسلم- ليخبر الصالحين والمصلحين: أن الصبر هو الوسيلة العظمى، والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر.

 

ذاك الطريق هو الاستقامة على شرع الله، والدعوة إليها، المليء بالأشواك والعقبات.

 

أخبرهم عليه الصلاة والسلام: أن النصر والفتح وهداية الناس بيده وحده، وانتظارهما من قبل جهود البشر وحدهم ليس بصحيح، وليس من الطموح والهمم العالية، بل هو من الاستعجال.

 

الاستعجال الذي هو أكبر خطأ يقع فيه المستقيمون والمصلحون، أياً كانوا، وحيثما وُجدوا.

 

وذكرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين، ليكون لهم زاداً في طريقهم المتُعب، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم، وبشرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].

 

والله -عز وجل- لم يعد المسلمين في العهد المكي بالنصر، وحسن العاقبة، حتى يتربّوا تربية إسلامية فدائية فذّة، تلك التربية التي مضمونها التضحية والتفاني في سبيل الله وحده، والتجرد من أهداف الدنيا، والتطلع إلى ما هو أعلى من ذلك إلى ما عند الله: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[القصص: 60].

 

قال صاحب الظلال -رحمه الله-: "إنه من واجب الدعاة: أن يمضوا ولا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله ورحمته؛ هذا هو الهدف الحقيقي، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم، وأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو دعوة الله التي يحملونها"[انتهى].

 

"ولكنكم تستعجلون" العجلة طبع في الإنسان، بشهادة خالق هذا الإنسان، قال الله -تعالى-: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)[الإسراء: 11].

 

وقال سبحانه: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الأنبياء: 37].

 

والاستعجال ليس مذموماً دائماً، بل إن الاستعجال في الخير والمبادرة إليه، هو المطلوب أحياناً، ولعل هذا هو المعْنيِّ في قول الله -تعالى- حكاية عن موسى -عليه السلام-: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 83-84].

 

وأما حديث خباب المتقدم، فإنه صورة من صور الاستعجال المذموم، مع أن الصحابي -رضي الله عنه- كان طلبه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله لهم، عسى الله أن يفرج عنهم شيئاً من الضيق والشدة التي كانوا يواجهونها في مكة، فأحمّر وجه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطلب، مع أنه طلب دعاء، وعدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا من الاستعجال الذي لا ينبغي في مثل هذه الظروف، وإنما المطلوب هو الصبر والتحمل واحتساب كل ذلك في سبيل الدين.

 

"ولكنكم تستعجلون".

 

وإليك -أخي المسلم- بعض صور الاستعجال المذموم، والذي قد يحدث من البعض والصور كثيرة، لكني اخترت لك أربعةً منها:

 

الصورة الأولى: الاستعجال في تغيير واقع الأمة.

 

إن كثيراً من الغيورين على هذه الأمة، وممن لا يرضون بالانحراف والجور والبعد عن منهج الله -عز وجل-، لهم جهودٌ طيبة ومشكورة في التغيير، كل بحسب اختصاصه، وبحسب الثغرة التي هو يملؤها.

 

إن الغيرة على واقع الأمة شيء مطلوب، والانزعاج مما وصلت إليه الأمة من الذلة والمهانة والخضوع لأعدائها، أمر يدمي قلب كل مسلم عاقل غيور.

 

بل إن الضريبة التي تدفعها الأمة لخصمها الكافر، تجعل الساكن يتحرك، والهادئ ينفعل، وهو يرى خيرات هذه الأمة وثرواتها تُستنزف في غير مسارها الصحيح.

 

وفي المقابل هناك من أبناء هذه الأمة في بقاع كثيرة من الأرض، لا يجدون لقمة العيش، بل أن أعداداً ليست بالقليلة تموت جوعاً وظمأً -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

 

ثم إن هذا الظلم العلني التي توجه سهامه لهذه الأمة، المتمثل في إزهاق أرواح الأبرياء نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، دون أي سبب، سوى أنهم مسلمون، تجعل المرء يضطر أحياناً للاستعجال في بعض أموره، ويكفي مثالاً ما يجري الآن على أرض الإسراء والمعراج، وما يرتكب هناك من مجازر وحشية، هذا الوضع وهذه الصور جعلت طائفة من الناس لا يتحملون ويريدون التغيير بأية صورة.

 

ولا أريد في هذه العجالة: أن أتتبع كل ما يُفعل بالأمة، وكل ما يدبر لها، وكل جوانب النقص والخلل فيها، فليس هذا مجاله.

 

لكن هذه المقتطفات التي ذكرتها، لأبين السبب الذي قد حرك فئةً من الغيورين للمساهمة في التغيير، فالذي نحذر منه هو! الاستعجال في التغيير.

 

إن الواقع الذي وصلت إليه الأمة، لم يحصل فجأة ولم تكن الأمة في المساء مستقيمة وأحوالها طيبة ثم أصبحت، وإذا بالأمور منقلبة رأساً على عقب، أبداً لم يكن التدني والدنو بهذا الشكل.

 

وإنما الذي حصل، هو أن ما وصلت إليه الأمة اليوم نتيجة تخطيط وتدبير استمر مئات السنين، منذ أمد بعيد وأعداء الأمة يخططون، وتخطيطهم كان يسير بخطوات هادئة، لكي لا يحدث ردة فعل، فجهة كانت تخطط لتقويض أركان الأمة اقتصادياً، وجهة كانت تعد البرامج لهدم الأمة أخلاقياً، وثالثة كانت تنظّر لغزو الأمة فكرياً، وهكذا، مؤسسات ضخمة وميزانيات ودعم قوي ومستمر ودول قائمة لهذه الجهات، لكي تعمل عملها في الإفساد.

 

فالسؤال الآن، هذا التدبير الماكر، الذي بدأ بإسقاط الخلافة العثمانية، وتبع ذلك تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات، ثم تبعه ما تبعه من الإفساد، هذا المشوار الطويل الذي استمر -كما قلنا- مئات السنين.

 

هل يمكن من إعادة الأمور إلى نصابها بفترة قصيرة، شهر أو سنة، أو حتى عشرُ سنين؟ هل يمكن تغيير واقع الأمة ورفع كل جوانب النقص والخلل في مدة سنة أو سنتين أو حتى عشر سنين؟

 

من كان يظن ذلك فهو مخطئ، إذا كان النـزول لم يحصل بسرعة، وإنما استمر عمراً ليس بالقصير من عمر الزمن، فكيف بالصعود مرة أخرى، والكل يعلم بداهةً بأن الصعود أصعب وأشق من النزول.

 

لا بد أن تكون تقديراتنا معقولة، ولا بد أن تكون تصوراتنا فيها شيء من الصحة.

 

إن تغيير واقع الأمة الآن، وإن انتشالها من الوحل التي هي غارقةٌ فيه، لا يمكن أن يحصل بسنة، ولا سنتين، ولا حتى عشرُ سنين، بل سيستغرق ذلك وقتاً طويلاً وطويلاً جداً، ربما يستغرق عمر جيل كامل، أو جيلين، إن لم يكن أكثر؛ لأنه ما من جانب إلا ونخر فيه الفساد، فإننا لا نحتاج إلى إزالة هذا الفساد فقط، بل نحتاج بعد إزالته إلى ملئه بالنافع والصالح أيضاً، فكم نحتاج من الوقت للإزالة؟ ثم كم نحتاج بعد ذلك للملئ.

 

"ولكنكم تستعجلون".

 

أين العقول المتوفرة في الأمة لكي تسد كل فراغ؟ وأين الطاقات التي سوف تساهم في كل ميدان؟

 

النقص كبير، والمسافة بعيدة، ولا أريد بهذا الكلام، إحباط ذوي الهمم أبداً، لكن الفكرة التي أريد أن أوصلها لكم باختصار، هو أن تغيير واقع الأمة الحالي، لا يتم بسهولة، ولن يتم بسرعة، بل يستحيل أن يحصل بسرعة، فالاستعجال في هذه القضية قد تسبب عواقب سلبية، والأمر يحتاج إلى دراسة متأنية، فكما أن الشر استمر سنوات وهو يخطط وينظّر حتى نشر شره، فكذلك الخير يحتاج إلى سنوات وسنوات يخطط وينظّر، حتى يزيل الشر الموجود، ثم يوجد مكانه الخير.

الصحوة موجودة -والحمد لله- والحركة العلمية بدأت -والحمد لله-، لكن كل هذا بحاجة إلى تربية طويلة.

 

وإن كنّا على يقين تام، واعتقاد جازم، بأن العاقبة للتقوى، وتسلم زمام الأمور سوف يكون لأهل الخير والاستقامة بوعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

الصورة الثانية من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في نزع بذور الشر من نفوس الناس، وهذه شبيهة تقريباً بسابقتها، لكن تلك على المستوى العام، وهذه لها علاقة بدعوة الأشخاص، بعض من لهم جهود طيبة ومشكورة في إصلاح الناس، وبث الخير بين الناس، ومحاولة نزع وتقليل الشر من نفوس الناس، هؤلاء يستعجلون أحياناً، ويريدون أن يرتقوا بالمدعوين، دفعة واحدة وبسرعة، وهذا خطأ، فنفوس أشربت المعاصي لسنوات عديدة، ونفوس ألفت المنكرات مدة طويلة من الزمن، من الاستعجال المذموم أنك تريد أن تنسف كل هذا الركام في وقت قصير، وفي لحظة، بل من الطبيعي أنك ترى أخطاء، وتشاهد قصوراً وضعفاً، فالواجب عليك الصبر على هؤلاء، وغض الطرف أحياناً عن بعض التقصير، حتى تستقيم هذه النفوس شيئاً فشيئاً على دين الله.

 

هل تتصور أن بقاء الشخص على منكر أو معصية عشرة أو عشرين سنة لا يكون له أثر أو بقايا في نفسه بعد استقامته؟

 

إن كنت تظن هذا، فأنت مخطئ.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: -وتأمل معي أخي المسلم هذا المقطع من كلام شيخ الإسلام فإنه كلام نفيس- يقول -رحمه الله-: "وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطيقه، لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً، لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع"[انتهى].

 

منذ كم سنة -أيها الأحبة- والإعلام الفاسد في شتى بلاد الدنيا عموماً، والبلدان الإسلامية خصوصاً بشتى أنواعه من صحافة وإذاعة وتلفاز ينخر في عقول وأفكار الناس، لا أقل من مائة سنة، فتخيل شخص منذ عشرة أو خمسة عشر سنة على الأقل إن لم يكن أكثر، وهو يتقلب بين هذه الأوبئة يومياً ما يقارب خمس ساعات إن لم يكن أكثر، فكم ترك ذلك من ركام على قلبه وفكره، فإزالة هذا كله لا يتأتى في يوم وليلة بل يحتاج إلى وقت، ووقت طويل، والعجلة في رفع الناس أمر قد لا يحمد عقباه.

 

"ولكنكم تستعجلون".

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

الصورة الثالثة من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في الفتوى.

 

هناك العديد من النصوص التي تحذر من الفتوى بغير علم، والتحدث في أمور الشرع والدين بغير بصيرة، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33].

 

إن أهل العلم الحقيقيين: لا يودون أن يُسألوا؛ لأنهم يعلمون خطورة الفتوى، والصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتدافعون الفتوى، كلهم يحيلها لغيره، حتى ترجع للأول، كل هذا تورعاً من أن يتكلم أحدهم بشيء في الدين ثم لا يكون صواباً؛ لأن الفتوى معناها أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا، وهذا أمر صعب خصوصاً في الأمور والقضايا التي لا يكون الأمر فيها واضحاً وضوحاً بيناً، لذا فيقال: بأن الاستعجال في الفتوى أمر مذموم، ولا يتعجل في الفتوى إلا جاهل، ولا يجرؤ على الفتوى إلا قليل البضاعة.

 

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله-: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار، إذا سئل أحدهم عن شيء، ودَّ أن أخاه كفاه".

 

وقال الإمام مالك -رحمه الله- عن نفسه: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك".

 

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- مشيراً إلى ظاهرة الخوض في المسائل الشرعية قبل استكمال الأهلية، فيقول: "ثم قلَّ الدين والورع، وكثر من يتكلم في الدين بغير علم، ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل، فلو استمر الحال في هذه الأزمان المتأخرة" -يقصد الزمن الذي عاش فيه هو- فلو استمر الحال في هذه الأزمان المتأخرة على ما كان عليه في الصدر الأول بحيث إن كل أحد يفتي بما يدّعي أنه يظهر له أنه الحق، لاختل به نظام الدين لا محالة، ولصار الحلال حراماً والحرام حلالاً".

 

ثم قال رحمه الله: "ولهذا كان الإمام أحمد يشدد أمر الفتيا، ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك"[انتهى].

 

أين هذا مما عليه الحال اليوم -والله المستعان-؟

 

ومع كل أسف صار الدين في زماننا هذا يتكلم فيه كل أحد، وأصبح الجميع متخصصين في تفاصيل أمور الشرع، وأصبحت الجرأة في الفتوى عجيبة، ولذا أصبَحتَ تسمع بالطوام العظام.

 

المشكلة أن العجلة في التحدث في قضايا الشرع والجرأة في الفتوى لم تعد مقصورة على أنصاف العلماء، وأرباع العلماء، وطويلبي العلم، بل حتى العوام أصبحوا مفتين، وتجد في كل عائلة، وفي كل حي أحياناً، هناك هيئة لكبار العلماء ولجنة دائمة تجتهد في كل أمر، وفي كل مسألة، وفي قضايا لو عرضت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أهلُ بدر.

 

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على رقة الدين، وزيادة الجهل، وضعف الخوف من الله -والله المستعان-.

 

ومن عجائب هذا الزمان، وكم هي عجائب هذا الزمان، ولم يذهب بعيداً من قال بأن هذا الزمن كله عجيب: أن بعض اللاعبين صار يفتي في أمر الشرع، بل قرأنا مقابلات مع ممثلات وراقصات -أكرمكم الله- سئلن عن بعض الأحكام الشرعية فأصبحن يفتين -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

 

وليس العجب في الفتوى، ولكن العجب هو نشر مثل هذه السخافات على عامة الناس، فتتساءل لماذا؟ وما هو الهدف من طرح هذا السؤال بالذات على هذه الشخصية ثم نشره على الملأ؟ ألم يقل الأول بأن هذا الزمن كله عجيب؟

 

أيها المسلمون: والشيء بالشيء يذكر، ما دام الحديث عن الفتوى.

 

من هو المفتي؟ ولمن تكون مرجعية الفتوى؟ وهل هذا يحدد بالقرارات الإدارية؟ أم هي من المناصب الخاضعة للترشيح؟.

 

إن مرجعية الفتوى لا تحدد بالمناصب، وهي أيضاً ليست خاضعة للترشيح، وليست المسألة تعين فلان أو فلان، فإن الأمة تعرف لمن ترجع حال النوازل، ومن هم العلماء الراسخين الذين يُلجأ لهم في الفتوى بعد الله -عز وجل-، ففي الوقت التي كانت حكومة المأمون ضد الإمام أحمد -رحمه الله- وجردته من كل شيء، من الإمامة والتدريس والفتوى، بل وجردته حتى من ثيابه وأودعته السجن، ووضعت القيد في يديه ورجليه، في تلك اللحظة كان الإمام أحمد هو مفتي أهل السنة والجماعة في وقته، وله المرجعية في المسائل الشرعية.

 

ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الوقت الذي حبس في سجن القلعة بدمشق، وألّب قضاة السوء الدولة عليه كان هو المفتي الحقيقي للأمة وفتاواه كانت هي التي يعمل بها في حين كان غيره خارج السجن حراً طليقاً.

 

فلله الأمر من قبل ومن بعد.

 

"ولكنكم تستعجلون".

 

الصورة الرابعة من صور الاستعجال المذموم: بل والخطير هو الاستعجال في الحكم على الأشخاص والهيئات والأوضاع.

 

لقد أمرنا الله -عز وجل- بالتثبت، ونهانا عن قبول خبر الفاسق، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].

 

يظهر أحياناً في المجتمع من يتخصصون في تفسير النيات والمقاصد والنوايا: فلان يقصد كذا، وفلان كان يريد بكلامه كذا، وفلان ينوي أن يقول كذا.

 

وحديثي ليس إلى هذه الفئة؛ لأن من سلك هذا المسلك فانحرافه أظهر من أن يبين، واعوجاجه أوضح من الشمس في رابعة النهار، فليس من منهج أهل السنة والجماعة، تبديع الناس، وتفسيقهم من خلال النية والمقصد؛ لأنها قضايا لا اطلاع لأحد من البشر عليها، ولا يعلم بالنيات إلا الله -عز وجل-، بل ولا حتى من المنهج الصحيح، تبديع فرد بعينه بمجرد كلمة خرجت منه، ربما لا يقصدها، أو لا يريد معناها، ونحو ذلك.

 

لكن نصيحتي لغيرهم، لنا نحن جميعاً: أن لا نقبل الطعن في أحد دون بينة، أن لا نستعجل ونقبل كلام أحد في أحد إلا بعد التثبت.

 

فإن من الاستعجال المذموم، قبولنا الحكم على الأشخاص والهيئات أو الأوضاع، بطعنٍ، أو تبديع، أو جرح، دون أدلة قوية واضحة، ودون تأكد بأنه قد أقيمت عليهم الحجة، وبُيّن لهم الخطأ.

 

والاستعجال في مثل هذه الأمور قد يُحملّك وزر غيرك، أنت في غنى عنه.

 

"ولكنكم تستعجلون".

 

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

 

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما ...

 

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل ...

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.

 

اللهم صل على محمد ...

 

 

المرفقات

تستعجلون2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات