ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ القاعدة الشريفة: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) 2/ نعمة وسائل النقل المعاصرة المريحة المستوجبة للشكر 3/ مظاهر لتهور الشباب وإساءة استخدامهم لوسائل النقل 4/ حرص الشرع على المحافظة على النفوس والأموال 5/ الهدي النبوي بالتحصُّن عند الخروج من المنزل

اقتباس

ألا يتفكر هؤلاء الشباب في المآلات والمصير؟! ألا يتأمل هؤلاء الشباب في العواقب التي تؤدي إليها تلك المخاطرات؟! ألا يتأمل هؤلاء الشباب في وقوفهم بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وأول ما يسأل فيه العباد يوم القيامة من الحقوق، حقوق الناس، الدماء؟! ألا يتقون الله -تبارك وتعالى- ويذكرون نعمته -جل في علاه- عليهم أن يسَّر لهم هذه الوسيلة تنقلهم من مكان إلى مكان، تتحقق ..

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين؛ أهلِ الحمدِ والثناء، وليِّ التوفيق والنَّعماء، ومسدي الفضلِ والعطاء، أحمده -جل وعلا- حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذاكرين، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أما بعد:

أيها المؤمنون، عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه -سبحانه- مراقبة مَن يعلم أنَّ ربه يسمعه ويراه. وتقوى الله -جل وعلا-: عملٌ بطاعة الله، على نورٍ من الله؛ رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله، على نورٍ من الله؛ خيفة عذاب الله.

أيها المؤمنون: لقد جاءت شريعتنا المباركة بما فيه صلاح العباد وفلاحهم وسعادتهم ونجاحهم في دنياهم وأخراهم، جاءت متمَّمة مكمَّلة يسعد العبد بتطبيقها، ويهنأ بالالتزام بها، ويفوز بسعادة الدارين.

ومن جمال هذه الشريعة أن جاءت -عباد الله- مشتملة على ما فيه صيانة العباد وسلامتهم في أنفسهم وأموالهم؛ فيعيش العبد في ظل توجيهات الإسلام وهداياته المباركة حياةً طيبةً كريمةً عامرةً بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق من الرب الملكِ العلاَّم.

أيها المؤمنون، عباد الله: وهذا مقامٌ ينبغي لكلِّ مسلم أن يقف عنده متدبرًا، وأن ينظر إلى نفسه في ضوئه محاسبًا ومعاتبًا؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[البقرة:195].

ما أعظمه من توجيه! وما أكمله من هدي! وما أجلَّها من قاعدةٍ شريفة القدر، عليَّة الشأن، نافعةٍ غاية النفع؛ لو عُقلت وعُمل بها! (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وهو أصلٌ جامع، وأساسٌ متين يقتضي من العبد أن يبتعد بنفسه عن كل أمرٍ فيه هلاكه أو هلاك الآخرين في كل باب، وفي كل مجال، وفي كل وسيلة، وفي جميع الأمور؛ ليَسْلَم وليُسْلَم منه.

ولنقف -أيها المؤمنون- في ضوء هذه الآية المباركة وهدايتها العظيمة مع وسيلة النقل التي منَّ الله -تبارك وتعالى- على العباد بها في هذا الزمان، بينما كانت وسائل النقل في الأزمنة الماضية على الدواب: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل:8]، نحن في زمانٍ خلق الله فيه للعباد وسائل النقل المريحة التي تتحقق بها تنقلاتهم براحةٍ وطمأنينةٍ وهدوءٍ، في مقاعدَ مريحةٍ، وأجواء مكيَّفة، ولم يُعانوا ما كان يعانيه مَن قبلهم في وسائل النقل، وهي منَّة عظيمة منَّ الله -تبارك وتعالى- بها على العباد، نسأل الله -عز وجل- أن يوزعنا جميعًا شكرها.

عباد الله: كم يحتاج كل من يقود السيارة متنقلاً بها أن يتذكر قول الله -تبارك وتعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)؛ نعم والله! ما أحوج من يقود السيارة إلى أن يتأمل في هداية هذه الآية المباركة!

أيها المؤمنون: جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ -عليه الصلاة والسلام- بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ: عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ". والإيضاع: هو الإسراع.

وما عُلم -أيها العباد- أنَّ الإسراع بالإبل والتدافع في السير بها يؤدي إلى ما قد أدى إليه الإسراع بالسيارات والتهور فيها من أمورٍ مهلكة، ومآسٍ عظيمة؛ أرواحٌ تُهدر، وأموالٌ تُتلف، ومصائب عظيمة تحصل.

وإذا كان -عليه الصلاة والسلام- قال لهم وهم على الإبل: "عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ". يخشى عليهم -صلوات الله وسلامه عليه- أن يضرَّ بعضهم ببعض، أو أن يؤذي بعضهم بعضًا، أو أن يقتل بعضهم بعضًا، وهو أمرٌ قد يحصل في الإسراع بالإبل، ولا سيما إذا كانت في جماعات؛ فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك فيما يتعلق بالإبل، تلك الوسيلة المتاحة للناس في ذلك الزمان، فما الذي يقال في وقتنا هذا وزماننا الحاضر، ولا سيما للشباب؟!

نعم -عباد الله- لقد تحوَّلت هذه الوسيلة لدى بعض الشباب إلى وسيلة لهوٍ وترفيه، ولم يعتبرها وسيلة نقل، ولهذا يقودها باندفاعٍ وتهوُّر، وهو في سرعته العالية يقذف بها تارة يمينًا وتارة شمالاً، وربما بعضهم وهو في سرعته العالية أدار مقودها فأصبح اندفاعها إلى الوراء بدل أن كان إلى الأمام، في تهوُّرٍ عظيم، وإهلاكٍ للنفس خطير؛ بل وإهلاك للآخرين.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل أصبحت لدى بعضهم ميدانًا للتنافس، ثم يجدون من الغوغاء والجُهَّال مَن يصطف لتشجيعهم، ويقف لتأييدهم؛ وفي مرات كثيرة في أثناء ذلك التهور تنعطف سيارته فتهلكه وتهلك من يشجعه ويؤيّده.

إنها والله مصيبة جَلَل، وبلاء عظيم! ونقول -عباد الله- ما نقول شفقةً على هؤلاء الشباب، وعطفًا عليهم، ورحمةً بهم، وخوفًا عليهم من مقامهم بين يدي الله -جل وعلا-؛ لأن الله -تبارك وتعالى- سائلهم عن أنفسهم، وسائلهم عن أموالهم؛ ولقد جاءت نصوص الشرع مليئةً بما يدل على حرمة النفوس والأموال؛ ففي الصحيحين عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ".

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ".

وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".

والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ألا يتفكر هؤلاء الشباب في المآلات والمصير؟! ألا يتأمل هؤلاء الشباب في العواقب التي تؤدي إليها تلك المخاطرات؟! ألا يتأمل هؤلاء الشباب في وقوفهم بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وأول ما يسأل فيه العباد يوم القيامة من الحقوق، حقوق الناس، الدماء؟! ألا يتقون الله -تبارك وتعالى- ويذكرون نعمته -جل في علاه- عليهم أن يسَّر لهم هذه الوسيلة تنقلهم من مكان إلى مكان، تتحقق بها مصالحهم وحاجاتهم؛ فيُحيلونها إلى أداةٍ خطيرة مهلكة تهلك أنفسهم وأنفس الآخرين؟!

إن الواجب على هؤلاء الشباب أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبهم الله، وأن يزِنوا أعمالهم قبل أن يقفوا بين يديه -جل في علاه-، "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ".

أسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح شباب المسلمين، وأن يردَّهم إليه ردًا جميلاً، وأن يعيذنا وإياهم والمسلمين من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يهدينا جميعًا إليه صراطًا مستقيمًا.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المؤمنون، عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، فإن من اتَّقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.

أيها المؤمنون، عباد الله: ثبت في السنة من هدي نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- مشروعيةُ أن يقول المسلم في كل مرةٍ يخرج فيها من بيته: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ"، وهي دعوةٌ نافعة عظيمة للغاية إذا قالها المسلم في كل مرة يخرج فيها من بيته سائلاً ربه -جل وعلا- بصدق؛ فإنه يتحقق له بذلك السلامة من إيذاء الآخرين له، وإضرارهم به؛ والسلامة أيضًا من أن يقع منه أذىً للآخرين، أو إضرار بهم.

وكم هو جميلٌ أن يقول الشاب هذه الدعوة المباركة في كلِّ مرة يخرج فيها من بيته، ثم يركب هذه المطيَّة التي يسَّرها الله له بطمأنينة وهدوء وسكينة ووقار، حريصًا على تحقيق هذه المقاصد العظيمة التي اشتملت عليها دعوته المباركة التي قالها متأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حينما يخرج من بيته في كل مرة.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على نبينا محمد بن عبد الله، كما أمرنا الله -جل وعلا- بذلك في كتابه، فقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في أرض الشام، وفي كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعِينًا وحافظًا ومؤيِّدًا، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين. اللهم وعليك بأعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر. اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقَّه وجلَّه، أوله وآخره، علانيته وسره. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45].
 

 

 

 

المرفقات

تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات