ولا تأخذنكم بهما رأفة في دين الله

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الزنا من أكبر الكبائر   2/عقوبات الزاني مغلظة ومشددة 3/الرأفة بالزناة فساد للمجتمع 4/التحذير من الزنا   5/الرد على المعترضين على حكم الزاني

اقتباس

إن الرأفة بالزناة -ممن ثبت زناهم وتحققت جنايتهم- إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الإنسان نفسه، وقسوة على الضمير البشري، بل قسوة على حقوق البشر جميعاً؛ لأن الرأفة بالزاني وعدم تنفيذ حكم الله فيه معناه السماح للفساد أن يستشري، وللفواحش أن تستفحل وتنتشر، وللفطر لتفسد وترتكس، والمجتمع ليسقط في براثن الرذائل وحمأة الأدواء والأوجاع والأمراض...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد الله الذي شرع العقوبة ردعاً للمجرمين وحداً للمفسدين، وصلاحاً للخلق أجمعين، نحمده -سبحانه- ونشكره، ونسأله الثبات على هذا الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيها الناس: إن من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر، وأفحش الفواحش، وأشد الجرائم, جريمة الزنا.

 

هذه الجريمة العظيمة التي قرنها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم بالقتل، وما ذلك إلا لأن الزنا أخو القتل، فإذا كان القتل هو إزهاق نفس وإعدام روح بغير حق، فإن الزنا هو إيجاد نفس بغير حق أيضاً.

 

كما أن في القتل إسالة للدم بغير حق، فكذلك في الزنا صب للمني وقذف له في الأرحام بغير حق، ولهذا قرن الله بين الجريمتين وساوى بينهما فقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء 32: 33].

 

إن الزنا جريمة عظيمة وفاحشة كبيرة ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- شدد في عقوبتها، ورتب النكال العظيم والعقوبة البالغة على من فعلها، وجعل حد الزنى أعظم الحدود وأشدها, بل لم يجعلها عقوبة واحدة وإنما جعلها عقوبات كثيرة، وشدد في كل عقوبة من هذه العقوبات، فمن ذلك أنه أمر بأن يقتل الزاني المحصن، ولكنه لا يقتل قتلة مريحة كالقتل بالسيف أو غيره، وإنما أمر بقتله بشر قتلة وأنكلها، حيث أمر برجمه رجماً بالحجارة حتى الموت.

 

روى مسلم في صحيحه عن عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ، أَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَزَنَيْتُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي"، فَرَدَّهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ"، فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: "أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا، تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟" فَقَالُوا: "مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِيَّ الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى"، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا بِعَقْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ" [مسلم (1695)]. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ" [البخاري (6816)].

 

وجاء في حديث الغامدية: "فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالصَّبِيِّ فَدَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا حُفْرَةٌ فَجُعِلَتْ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا، فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلاً يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ لاَ تَسُبَّهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ فَأَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ" [ أحمد (22949)].

 

يرجم في رأسه الذي زين له السوء، وعقله الذي أقنعه إلى ممارسة هذه الفاحشة، ووجهه الذي واجه الجريمة، كما يرجم في عينيه التي قادته إلى الزنا وأبصر بها الحرام حتى وقع فيه، وأنفه الذي شم به عطر الزانية وريحها، وشفتيه التي قبلتها، وبدنه الذي احتضنها وتلذذ بضمها، ويديه التي لمستها وتحسستها وتلذذت بها.

 

إن كل هذا البدن وكل هذه الجوارح التي تلذذت يجب أن ترجم وتتلقى العذاب الشديد، وتستقبل مكان كل قبلة حجراً تمطر به بلا رأفة، ولا شفقة ولا رحمة.

 

كما عاقب الزاني بالأمر بالتشديد والإغلاظ عليه وعدم الشفقة به، ونزع الرحمة من القلب عند إقامة الحد عليه، قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور : 2].

 

إنه أمر صريح بأن لا تأخذنا الشفقة به إلى إبطال الحد أو تركه أو التساهل في إقامته عليه، وحتى يؤكد الله هذا الأمر ويقويه ربطه بالإيمان به -سبحانه وتعالى- والإيمان بيوم البعث والنشور، فيقول إن كنتم حقاً مؤمنين بالله الذي شرع الحدود وأمر بها، ومصدقين باليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء الأكبر والعذاب الأشد، فلا تأخذنكم رحمة ولا شفقة في إقامة حد الله عليه.

 

انظروا -عباد الله- كيف يثير الله القلوب ويخاطبها باسم الإيمان، ويهيجها بهذا الخطاب الإيماني العظيم، وكأنه يقول لنا: إن كنت حقاً مؤمناً بالله وباليوم الآخر فلا تأخذك الشفقة ولا تدخل قلبك الرأفة على هؤلاء الزناة المجرمين، فإنهم لا يستحقون الرحمة، وليسوا أهلاً للشفقة، وما ذلك إلا لعظيم ذنبهم وقبح جرمهم.

 

إن الرأفة بالزناة -ممن ثبت زناهم وتحققت جنايتهم- إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الإنسان نفسه، وقسوة على الضمير البشري، بل قسوة على حقوق البشر جميعاً؛ لأن الرأفة بالزاني وعدم تنفيذ حكم الله فيه معناه السماح للفساد أن يستشري، وللفواحش أن تستفحل وتنتشر، وللفطر لتفسد وترتكس، والمجتمع ليسقط في براثن الرذائل وحمأة الأدواء والأوجاع والأمراض.

 

فالحذر الحذر من هذه الجريمة، ولنوصي أنفسنا جميعاً بالابتعاد عنها والحذر من أسبابها ومقدماتها وما يقرب إليها، يقول الله -سبحانه وتعالى- ناهياً عن مجرد الاقتراب من الزنا ومقدماته وما يقرب إليه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء : 32].

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين وقدوة الناس إلى الله أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: ومن العقوبات الشديدة التي رتبها الله -سبحانه وتعالى- على فعل هذه الفعلة البشعة؛ أنه أمر بفضحهم وهتك أستارهم، والجهر بإقامة الحد عليهم، وإعلان جرمهم للجميع؛ حتى يشعر الكل بعظم جريمتهم وبشاعة فعلتهم. يقول الله -سبحانه وتعالى- آمراً بذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : 2].

 

هكذا يأمر الله -جل وعلا- أن يقام عليهم الحد بهذه الطريقة المباشرة والفاضحة، فلا يقام عليهم الحد في الغرف المغلقة، ولا في السجون المقفلة، ولا في أقسام الشرطة التي لا يدخلها إلا من يعمل فيها، وإنما يقام عليهم الحد بمشهد الناس ويعلن فيهم عن ذلك، ويشهر به حتى يعلم عظم ذنبه وقبح فعله، ويكون عبرة للمعتبرين وموعظة لكل من تسول له نفسه ممارسة هذا البغاء والفحش.

 

إن الله -سبحانه وتعالى- ستير يحب الستر ويكره الفضح، عفو يحب العفو؛ لكنه في جريمة الزنا لم يعفُ، ولم يأمر بإقامة الحد على الزاني في الخلوة أو في مكان لا يوجد به أحد، وإنما قال (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

 

المصيبة الكبرى والطامة العظمى التي تشهدها معظم بلدان المسلمين اليوم؛ أن هذا الحكم على الزناة قد عطل وألغي بسبب ما يراه هؤلاء المشرعون من دون الله من أن حكم الله على الزاني فيه غلظة وقسوة.

 

ونحن نقول لهؤلاء الطواغيت الفجرة: لماذا تنظرون إلى العقوبات والحدود ولا تنظرون إلى الجرائم والأفعال القبيحة؟ فلماذا لا يستحق القاتل القتل وقد قتل؟ ولماذا لا يستحق الزاني المحصن الرجم حتى الموت والزنا أخو القتل؟. وإذا كان الزاني قد زنى بأمك، أو فجر ببنتك، أو اغتصب زوجتك، فماذا سيكون موقفك منه؟ وهل ترى أنه مستحق للإعدام أم لا؟ وهل يصح أن يترك هؤلاء المرضى يسيحون ويسرحون ويمرحون ليعدوا المجتمع، ويهلكوا الأصحاء بأمراضهم القبيحة، وسلوكياتهم الشاذة، وتصرفاتهم النتنة؟.

 

وهل ترون أنفسكم أرحم الناس بالناس من رب الناس الذي أمر بأن لا تأخذنا بالزناة رأفة ولا رحمة؟ لأنه حكيم عليم يعلم أن الدماء لا تحفظ، والأموال لا تصان، والأعراض لا تحترم، والبلاد لا تصلح، وأحوال العباد لا تستقيم، والأمن لا يسود إلا بإقامة الحدود.

 

وهل تعلمون أن السقوط الأخلاقي، وانتشار الجرائم والشذوذ والاغتصاب، والتهتك والتبرج، والانفلات الاجتماعي، إنما هو بسبب رأفتكم المزعومة وشفقتكم الملعونة؟

 

إنا نقول لهؤلاء الأنذال: اخسوا -يا عبدة الفروج وعبيد الشهوات-، فقوانينكم الطاغوتية تأمر بالرحمة والشفقة على الزواني والزناة، وشرع ربنا الرباني يقول لنا: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [النور : 2]، ونحن عبيد لله وقد كفرنا بقوانينكم وزبالات أفكاركم.

 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ أَلاَ وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ" [البخاري (6829)].

 

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم جل جلاله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

 

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

أجارني الله وإياكم من الفواحش والعدوان، وحفظنا من الوقوع في الزنا والريب والطغيان، وغمرنا بالعافية والرحمة والإحسان، إنه سميع كريم منان.

 

 

 

المرفقات

تأخذنكم بهما رأفة في دين الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات