عناصر الخطبة
1/ تأملات في انقضاء عام وبدء آخر 2/ الحياة أنفاس معدودة 3/ هوان الدنيا على الله تعالى 4/ الحث على اغتنام الأعمار في الطاعات 5/ فضل صيام يوم عاشُوراء.اقتباس
عامٌ كاملٌ تصرَّمَتْ أيامُه فلا إلهَ إلَّا اللهُ كَمْ شَقِيَ فيهِ أُناسٌ، وسَعِدَ فيهِ آخرون. كم طِفلٍ تَيَتَّمَ! وامرأةٍ تَرَمَّلَتْ! ومريضٍ تَعافى! وسَقيمٍ في الترابِ تَوارى! أهلُ بيتٍ يُشَيِّعونَ مَيِّتاً! وآخرونَ يَزُفُّونَ عروساً! دارٌ تَفْرَحُ بمولودٍ! وأخرى تُعَزَّى بمَفْقُود! عامٌ كاملٌ تَصَرَّمَتْ أيَّاُمُه، فَماذا أوْدَعْنا في عامِنا المُنْصَرِم، إنَّ أقْواماً أوْدَعوا فيهِ صَلَواتٍ وصَدَقاتٍ وتِلاوَةً وذِكْراً وأمْراً بمَعروفٍ ونهْياً عن مُنْكَرٍ وبِرَّاً لِوالِدَين.. وأقوامٌ أودَعوا فيهِ رَشاوٍ وسَرِقاتٍ ونِفَاقاً وشُرْبِ خَمْرٍ ورِباً أو ظُلْماً للناسِ وأيمَاناً غَموساً...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المحمودِ بجميعِ المحامِدِ تَعظيماً، وتَشريفاً، وثَناءً، المُتَّصِفِ بصِفاتِ الكَمالِ، عِزَّةً، وقُوَّةً، وكِبْرِياءً، بهِ نَصولُ، وبهِ نَجولُ، وبهِ نُؤمِّلُ دَفْعَ الكُروبِ شِدَّةً وبَلاءً، ودَرْءَ الخُطوبِ ضَنَكاً ولَأواء.
وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، أفضلُ هذهِ الأمَّةِ جِهاداً وكفاء، وأعظمُها قُدوةً واصْطِفاءً، صلى الله وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ، الذينَ ضَربوا أروَعَ الأمثِلَةِ صَفاءً ووَفاءً، وطُهْراً، ونَقاءً، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهُم وسارَ على نهْجِهِم؛ اهْتِداءً، واقْتِداءً، صلاةً لا تُطاوِلُها أرضٌ أرضاً، ولا سَماءٌ سَماء، وسَلَّمَ تَسليماً؛ يَزيدُنا بَهجةً ونُوراً وضِياءً، أما بعدُ:
أيها الإخوةُ المؤمنون: هيَ كلماتٌ تُقالُ في كُلِّ عامٍ مَضَى، ونَقولُها في كلِّ عامٍ جديدٍ، ولقد رَأينا في عامِنا الذي تَصَرَّمَ؛ أقواماً مَرِضَتْ بعدَ صِحَّةٍ، وصَحَّتْ بعدَ مَرَض، وهانَتْ بعدَ كَرامَةٍ، وكَرُمَتْ بعد هَوان، وفَزِعَتْ بعدَ أمْنٍ، وأمِنَتْ بعدَ فَزَع، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَار) [النور: 44]، (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، ولا يَدومُ على هذهِ الدُّنيا حالٌ، فَسُبْحانَ مَنْ يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّر.
عامٌ كاملٌ تَصَرَّمَتْ أيَّامُه، هي رأسُمالِنا في هذهِ الحياةِ الدنيا، وما هذهِ الدنيا إلّا تَقَلُّبٌ بينَ يَقَظَةٍ ونومٍ، وليلٍ ونهار، وسرورٍ، وحَزَن، ومَشْيٍ ووُقوف (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].
قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ -رحمهُ الله-: "جعلَ اللهُ الليلَ والنهارَ، يتَعاقَبان؛ تَوقيتاً لِعبادَتهِ عَزَّ وجَلَّ، فمَنْ فاتَهُ عملٌ في الليلِ استدرَكَهُ في النهار، ومنْ فاتهُ عملٌ في النهارِ استدركهُ في الليل".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ -عز وجل- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (رواه مسلم).
قالَ قَتادَةُ -رحمهُ الله-: "فَأرُوا اللهَ -تعالى- من أعمالِكم خيراً في هذا الليلِ والنهار، فإنَّهما مَطِيَّتانِ تَحمِلانِ الناسَ إلى آجالهِم، تُقَرِّبانِ كُلَّ بعيدٍ، وتُبْلِيانِ كُلَّ جديد، وتَجيئانِ بِكُلِّ مَوعودٍ إلى يومِ القيامة".
نِسيرُ إلى الآجَالِ في كلِّ لحْظَةٍ *** وأعْمارُنا تُطْوى وهُنَّ مَراحِلُ
تَرَحَّلْ من الدنيا بِزادٍ من التُّقى *** فَعُمْرُكَ أيَّامٌ وهُنَّ قَلائِلُ
وما هذهِ الأيامُ إلّا مَراحِلٌ *** يحُثُّ بِها حَادٍ إلى الموتِ قَاصِدُ
وأعْجَبُ شَيءٍ لو تَأمَّلْتَ أنَّها *** مَنازِلُ تُطْوى والمُسافِرُ قَاعِدُ
أيها الإخوة الكرام: عامٌ كاملٌ تَصَرَّمَتْ أيامُه، كُلُّ يَومٍ يمُرُّ، بَلْ كُلُّ ساعةٍ تمْضي، كلها تُدني منْ الأجل:
يَسُرُّ المرْءُ ما ذهبَ الليالي *** وإنَّ ذَهَابهُنَّ لهُ ذَهابَاً
قالَ الحسنُ البَصري: "يا ابنَ آدم إنما أنتَ أيامٌ كُلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بَعْضُكَ".
فالعُقَلاءُ يَعلمونَ أنَّ الحياةَ ساعاتٌ يَسيرونَ بها إلى الدارِ الآخِرَة، حتى يَبْلُغوا آخرَ نَفَسٍ يَتَنَفَّسونَه، وآخِرَ لُقْمَةٍ يأكُلونَها، وآخرَ شَرْبَةٍ يَشربونَها، وآخِرَ خَطْوَةٍ يَخطونَها، وآخرَ لِباسٍ يَلبَسونَه.
إنَّ مُضِيِّ الليلِ والنهار، يُباعِدُنا منْ الدنيا، ويُقَرِّبُنا إلى الآخِرَة، فَطُوبَى لِعَبْدٍ تَنَبَّهَ لذلك.
روى البخاري عن ابن عمرَ -رضي الله عنه- قال: أخَذَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بمَنْكِبي ثُمَّ قالَ لي: "يا ابنَ عمر كُنْ في الدنيا كأنَّكَ غريبٌ أو عَابِرُ سَبيل"، وكانَ ابنُ عمرَ يقول:"إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرْ الصباحَ، وإذا أصبَحْتَ فلا تنتظرْ المساء، وخُذْ من صِحَّتِكَ لمَرَضِك، ومن حياتِكَ لموتِك".
نعم، فـ"كُلُّ الناسِ يَغْدو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أو مُوبِقُها".
عامٌ كاملٌ تصرَّمَتْ أيامُه فلا إلهَ إلَّا اللهُ كَمْ شَقِيَ فيهِ أُناسٌ، وسَعِدَ فيهِ آخرون.
كم طِفلٍ تَيَتَّمَ! وامرأةٍ تَرَمَّلَتْ! ومريضٍ تَعافى! وسَقيمٍ في الترابِ تَوارى!
أهلُ بيتٍ يُشَيِّعونَ مَيِّتاً! وآخرونَ يَزُفُّونَ عروساً!
دارٌ تَفْرَحُ بمولودٍ! وأخرى تُعَزَّى بمَفْقُود!
أيُّها المسلمون: الدنيا سَفَرٌ إلى الآخرة: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاع) مَتاعُ ماذا؟ متاعُ البَقاء، متاعُ الفَرَحِ والسُّرور، قال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، وقال سبحانه: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت: 64] يعني الحياةَ الحقيقيةَ الباقية.
وقال مُؤمِنُ آلِ فِرْعَون لقومِهِ واعِظاً لهم: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار) [غافر: 39].
إنَّ الشَّرْبَةَ التي نَشْرَبُها ثُمَّ نَتَبَوَّلُها، تقول: إنَّما الدنيا مَتاع، إنَّ اللباسَ الذي نَلْبَسُهُ، ثم نَنْزِعُه يقول: إنما الدنيا مَتاع، إنما الصَيفُ والشِّتاءُ اللذانِ يَتَعاقبانِ علينا يقولان: إنَّما الدنيا متاع.
إنَّ للهِ عِباداً فُطَنا *** طَلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَ
نَظَروا فيها فلمَّا عَلِموا *** أنَّها لَيْسَتْ لحَيٍّ سَكَنا
جَعَلوها لجَّةً واتَّخَذوا *** صَالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا
قال داود الطائي -رحمه الله تعالى- يوماً لرجُلٍ من قَومِهِ: "يا أخي إنَّما الليلُ والنهارُ مَرَاحِلٌ، تَنْزِلُ بالناسِ مَرْحَلَةً مَرْحَلَة، حتى يَنتهي بهم ذلكَ إلى آخِرِ سَفَرِهم، فإنْ استَطَعْتَ أنْ تُقَدِّمَ في كُلِّ يَومِ مَرْحَلَةٍ زاداً لما بينَ يديهِ؛ فافْعَل".
أيُّها الأحِبَّةُ الكرام: عامٌ كاملٌ تَصَرَّمَتْ أيَّاُمُه، فَماذا أوْدَعْنا في عامِنا المُنْصَرِم، إنَّ أقْواماً أوْدَعوا فيهِ صَلَواتٍ وصَدَقاتٍ وتِلاوَةً وذِكْراً وأمْراً بمَعروفٍ ونهْياً عن مُنْكَرٍ وبِرَّاً لِوالِدَين..
وأقوامٌ أودَعوا فيهِ رَشاوٍ وسَرِقاتٍ ونِفَاقاً وشُرْبِ خَمْرٍ ورِباً أو ظُلْماً للناسِ وأيمَاناً غَموساً (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون) [الأنعام: 81- 82].
أيها المسلمون: يَنبغي على العاقِلِ أنْ يُحاسِبَ نَفْسَه، كَم مِنْ يَومٍ فاضِلٍ صِيامُهُ؛ ما صُمناه، وكم من ساعةٍ فاضلٍ قيامُها ما قُمناها، وكم من خيرٍ تَيَسَّرَ لنا فَضَيَّعْناه.
إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيَّامِ نَقْطَعُها *** وكُلُّ يومٍ مَضى يُدْني مِنْ الأَجَلِ
فاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوتِ مجْتَهِداً *** فإنَّما الرِّبْحُ والخسْرانُ في العَمَلِ
قالَ بعضُ الحُكَماءِ: كيفَ يَفرَحُ مَن يومُه يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وشَهرُهُ يَهدِمُ سَنَتَه، وسنتُهُ تَهدِمُ عُمُرَه، كيفَ يفرحُ من عُمُرَهُ يَقودُهُ إلى أجَلِهِ، وحَياتُهُ تَقودُهُ إلى مَوتِه.
مَنْ كانتْ الليالي والأيامُ مَطَاياهُ *** سَارَتا بِهِ وإنْ لمْ يَسِرْ
قال عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-: "إنَّكم في مَمَرِّ الليلِ والنهارِ في آجالٍ مَنْقُوصَةٍ وأعمارٍ مَحفوظَةٍ، والموتُ يأتي بَغْتَةً، فَمَنْ يَزْرَعْ خَيراً؛ يُوشِكُ أنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً، ومن يَزرعْ شَرَّاً؛ يُوشِكُ أنْ يَحصُدَ نَدَامَةً، لِكُلِّ زَارِعٍ مِثْلَ ما زَرَعَ، ولا يَسْبِقُ بَطيءٌ بحَظِّه، ولا يُدْرِكُ حَريصٌ ما لم يُقَدَّرْ لَه، فمن أُعطِيَ خيراً فاللهُ أعطاهُ، ومن أُعطيَ شَرَّاً فاللهٌ وَفَّاهُ، المُتَّقونَ سَادَةٌ، والفُقَهاءُ قَادَةٌ ومجَالِسُهُم عِبادَة".
لما حَضَرَتْ الوَفاةُ عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ بكى -رضي الله عنه-، قيلَ لَه: ما يُبْكيكَ يا صاحبَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، أَتَبْكي على فِراقِ دُنيانا؟ قال: واللهِ ما على فِراقِ دُنياكم هذهِ بَكَيْتُ؛ إنَّما أبْكي على فَواتِ صِيامِ الهَواجِرِ، -يعني الأيامَ شديدةَ الحَرِّ – وقِيامِ لياليَ الشِّتاءِ، ومُجالَسَةِ أقْوامٍ يَنْتَقونَ أطايِبَ الكلامِ كما يَنتَقي أطايِبَ التَّمرِ آكِلُه.
قال سفيانُ الثوري -رحمه الله تعالى-: "قامَ أبو ذَرٍّ الغِفاري -رضي الله عنه- عندَ الكعبَةِ، قال فصاحَ بأعلى صَوتِه، قال: يا أيُّها الناسُ أنا جُنْدُبُ الغفاري هَلَمُّوا إلى أخٍ ناصِحٍ أمين، فاكتَنَفَهُ الناسُ وأقبَلوا إليه، ما لَدَيكَ يا صاحِبَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أرَأيْتُم لو أنَّ أحَدَكم أرادَ سَفَرَاً، أليسَ يَتَّخِذُ من الزَّادِ ما يُصْلِحُهُ ويُبَلِّغُه؟ قالوا: بلى، قال: فَسَفَرُ القيامَةِ أبْعَدَ ما تُريدون؛ فخُذوا ما يُصْلِحُكم، قالوا: وما يُصْلِحُنا؟ قال: حُجُّوا حَجَّةً لِعَظائِمِ الأمور، وصوموا يوماً شديداً حَرُّهُ لِطولِ يومِ النُّشور، صَلُّوا رَكعَتينِ في سَوادِ الليلِ لِوَحْشَةِ القُبور، كَلِمَةُ خَيرٍ تَقولُها أو كَلِمَةُ سوءٍ تَسْكُتُ عنها؛ لوقوفِ يومٍ عظيم، تَصَدَّقْ بمالِك؛ لعَلَّكَ تَنْجوا من عَسيرِها، اجْعَلْ الدنيا مَجلِسَين: مَجلِساً لِطَلَبِ الآخِرَةِ _ ومَجلِساً في طَلَبِ الحلال، والثالِثُ يَضُرُّكَ ولا يَنْفَعُك؛ فَلا تَرِدْهُ، اجعلْ المالَ دِرْهَمَين: دِرْهَماً تُنْفِقُهُ على عِيَالِكَ من حِلِّك، ودِرهماً تُقَدِّمُهُ لآخِرَتِك، والثالِثُ يَضُرُّكَ ولا يَنْفَعُك؛ فَلا تَرِدْهُ، ثُمَّ صَاحَ بأعلى صَوتِه فقال: قد قَتَلَكم حِرْصٌ لا تُدْرِكونَه أبَداً".
خَلِيلَيَّ كَمْ مِنْ مَيِّتٍ قد حَضَرْتُهُ *** لِكِنَّني لَم أنْتَفِعْ بحُضوري
وكم من لَياليَ قد أرَتْني عَجَائِباً *** لَهنَّ وأيامٍ خَلَتْ وشُهورِ
وكم من سِنينَ قد طَوَتني كَثيرَةٍ *** وكم من أمورٍ قد جَرَتْ بِأمورِ
ومَنْ لم يَزِدْهُ السِّنُّ ما عاشَ عِبْرَةً *** فَذاكَ الذي لا يَسْتَنيرُ بِنورِ
أيها الإخوة الكرام: لِأهميةِ الأعْمارِ التي نَعيشُها، جعلَها اللهُ -تعالى- تَقْريعاً للكفَّارِ يومَ القيامة، فإنَّهم يُقالُ لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير) [فاطر: 37]، فجعلَ اللهُ أعمارَهم حُجَّةً عليهم.
يقول ابن كثير: "أيْ أوَمَا عِشْتُم بهذهِ الدنيا أعْماراً، لو كُنتم ممَّنْ يَنتفِعُ بالحقِّ لانتَفَعتُم بهِ مُدَّةَ عُمْرِكم،. وقال قتادة: اعْلَموا أنَّ طُولَ العُمُرِ حُجَّةٌ؛ فنعوذُ باللهِ أنْ نُعَيرَ بِطولِ العُمُر".
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: "أَعْذَرَ اللهُ -عز وجل- إلى امْرِئٍ، أَخَّرَ عُمْرَهُ حتى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"؛ أعذَرَ إليهِ أيْ أزالَ عُذْرَهُ، فيومَ القيامةِ ما لَهُ عُذْرٌ، أنْ يقولَ يا رَبِّ غَفَلْتُ ما تَذَكَّرْت.. فهذا ليسَ عُذراً معَ طولِ عُمره.
قال عمرُ بن عبد العزيز: "إنَّ الليلَ والنهارَ يَعملانِ فيكَ فاعملْ فيهِما".
وقال الإمامُ أحمدُ -رحمه الله-: "ما شَبَّهْتُ الشبابَ إلّا بِشَيٍء كانَ في كُمِّي فَسَقَطْ".
نسألُ اللهَ -تعالى- أنْ يَغْفِرَ لنا خَطَأنا وزَلَلَنا، وتَفْريطَنا...
أقولُ قَولي هذا، وأسْتَغْفِرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كُلِّ ذَنْبٍ فاستَغْفِروهُ وتوبوا إليهِ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على تَوفيقِه وامتِنانِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه، تَعظيماً لِشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى رِضوانِه، صلى الله وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وإخوانِه وخِلَّانِه ومَن سارَ على نهجِه واقتَفى أثَرَهُ واسْتَنَّ بسُنتهِ إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: نستقبلُ خِلالَ الأيامِ القادِمَةِ يوماً كريماً؛ صامَهُ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- وأمرَ بصيامِه، ففي حديث ابنِ عمرَ -رضي الله عنه-، الذي رواهُ مسلمٌ: أنَّ اليهودَ كانوا يُعَظِّمونَ يومَ عَاشُوراءَ، ويَصومونَه وذلكَ لأنَّه يومٌ نجَّى اللهُ فيهِ موسى وقَومَه، وأهلَكَ فرعونَ وقَومَه، فكانَ أولئكَ يصومونَه تَعظيماً لَه وشُكراً للهِ عَزَّ وجَل، فلما رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: "نحنُ أحَقُّ بموسى منكم وصَامَه -صلى الله عليه وسلم-، وأمَرَ بصيامِهِ".
و صيامُ يومِ عاشوراءَ قال فيه عليه الصلاة والسلام: "إنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ الماضِيَة " (رواه مسلم).
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على ألّا يُشابِهَ الكافرين من عُبَّادِ الأصنام، ولا الكافرينَ من اليهودِ والنصارى، فأمرَ -صلى الله عليه وسلم- بصيامِه وقال: "لَئِنْ عِشْتُ إلى قَابِلٍ لَأصُومَنَّ التاسِعَ" (رواه مسلم)، يعني معَ العاشِر، فالسُّنةُ أنْ يصومَ يوماً قَبلَهُ، التاسِعَ والعاشِرَ أو بعدَه فيصومُ العاشِرَ والحاديَ عَشَر، وإنْ صامَ يومَ عاشوراءَ وَحْدَهُ جازَ.
نسألُ اللهَ -تعالى- أن يُصلحَ قلوبَنا، وأن يُسخِّرَ جوارِحَنا لمرضاتِه . اللهمَّ وَفِّقْنا لفِعْلِ الخيراتِ، وتَرْكِ المنكرات، وحُبِّ المساكين، وإذا أرَدْتَ بعبادِك فتنةً؛ فاقبِضْنا إليكَ غيرَ خَزايا ولا مَفتونين.
اللهمَّ اجعَلْنا مَّمن طالَتْ أعمارُهم، وحَسُنَتْ أعمالهُم، ولا تَجعَلْنا مَّمن طالَتْ أعمارُهم، وساءَتْ أعمالهُم.
اللهمَّ أوزِعْنا شُكْرَ نِعمَتِك وألْبِسنا لِباسَ التقوى. اللهمَّ زَيِّنا بزينَةِ الإيمان، واجعلْنا هُداةً مُهتَدين، غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلّين. اللهمَّ اجْعَلْ عامَنا الجديدَ عامَ صلاحٍ، وفلاحٍ للإسلامِ والمسلمين، يا ذا الجلالِ والإكرام.
اللهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمومين، ونَفِّسْ كَرْبَ المَكْروبين واقْضِ الدَّينَ عنِ المَدينين، واشْفِ مَرْضَى المسلِمين.
اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجْته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
عباد الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم