وقفات وتأملات في حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير)

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مليئة بالدروس والعبر 2/ فوائد متنوعة من حديث يا أبا عمير ما فعل النغير 3/ رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال 4/ الحث على اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بها

اقتباس

كم هي العبر والدرر, التي نأخذها من سيرة إمامنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-, فسيرته مدرسةٌ تربويةٌ وأخلاقيةٌ وإيمانيةٌ, مَن لم يدرسْها ويقرأْها لم يعرف الإسلام حقَّ المعرفة.. ولْنأخذ موقفاً واحداً من سيرته وأخباره, يرويها لنا خادمه الْمُقرَّبُ أَنَس الذي اسْتخرج العلماء منه عشرات الفوائد واللطائف, وأفرد له بعضُ العلماء مُصنفاً خاصًّا به, فما أجمل أنْ نتأمله ونستخلص الفوائد الثمينة منه.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله تشرح النفس, وتُجلي الهمّ, وتُذهب الغمّ.

 

معاشر المسلمين: كم هي العبر والدرر, التي نأخذها من سيرة إمامنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-, فسيرته مدرسةٌ تربويةٌ وأخلاقيةٌ وإيمانيةٌ, مَن لم يدرسْها ويقرأْها لم يعرف الإسلام حقَّ المعرفة.

 

ولْنأخذ موقفاً واحداً من سيرته وأخباره, يرويها لنا خادمه الْمُقرَّبُ أَنَسٌ -رضي الله عنه- حيث يقول: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا, إِنْ كَانَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لَيُخَالِطنَا, ويدخل علينا, وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ, وَكَانَ لَهُ طيرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ, وَكَانَ إِذَا جَاءَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ يُمَازِحهُ ويُضاحكه, ويقَول: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ, طيرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ, فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا, فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ, فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ, ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا". متفق عليه.

 

لقد اسْتخرج العلماء من هذا الموقف عشرات الفوائد واللطائف, وأفرد له بعضُ العلماء مُصنفاً خاصًّا به, فما أجمل أنْ نتأمله ونستخلص الفوائد الثمينة منه.

 

فقَوْل أَنَسٍ -رضي الله عنه- في بداية القصة: "كَانَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَن َالنَّاس خُلُقًا".

 

قدَّم هذه المقدمة -رضي الله عنه-, تَوْطِئَة وتمهيداً لِمَا يُرِيد مِنْ قِصَّة هذا الصَّبِيّ، حيث تجَلَّت فيها أخلاقُه العظيمة, ولطافَتُه الفريدة.

 

وقوله: "إِنْ كَانَ لَيُخَالِطنَا ويدخل علينا", كان عليه الصلاةُ والسلام, يُخالطُ أصحابه ويُصاحبهم كثيراً, لم يكن مُنْعزلاً مُنْطوياً عنهم, وهكذا ينبغي لورثته من العلماء, أنْ يُخالطوا الناس ويُوجِّهوهم, عبر وسائلِ الإعلام الْمُختلفة وغيرِها.

 

فالنبي -صلى الله عليه وسلم-, على كثرةِ أشغاله وواجباتِه, لا يدع زيارةَ أصحابه وأهلِيهم وصِبيانِهم, وهكذا ينبغي لنا أنْ نفعل.

 

قوله: "وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ", هذا يدلُّ على جَوَاز تَكْنِيَة مَنْ لَمْ يُولَد لَهُ.

 

قال أنسٌ: "وَكَانَ لَهُ طيرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ", فيه جَوَازُ لَعِبِ الطفلِ الصَّغِير بِالطَّيْرِ، والحيوانات الأليفة ونحوِها.

 

وفيه أيضاً: أنه يجَوز للْأَبَوَيْنِ, أنْ يتْرُكا وَلَدهمَا الصَّغِير, يَلْعَب بِمَا أُبِيحَ اللَّعِب بِهِ، ولو كان من ذوات الأرواح, وأنه لو مات الطير أو الحيوان, دون قصدٍ فلا حرج ولا إثم عليهما.

 

قال ابن حجر رحمه الله: "فيه جَوَاز إِمْسَاك الطَّيْر فِي الْقَفَص وَنَحْوِهِ ، وَقَصُّ جَنَاح الطَّيْر, إِذْ لَا يَخْلُو حَالُ طَيْر أَبِي عُمَيْر مِنْ وَاحِد مِنْهُمَا".

 

والَّذِي رُخِّصَ فِيهِ لِلصَّبِيِّ, إِمْسَاكُ الطَّيْر لِيَلْتَهِيَ بِهِ، وَأَمَّا تَمْكِينُه مِنْ تَعْذِيبه, وَلَا سِيَّمَا حَتَّى يَمُوت, فَلَمْ يُبَحْ أبدًا". ا.هـ كلامه.

 

وقوله: "وَكَانَ إِذَا جَاءَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ," وأُمُّ سُلَيْمٍ هي بنتُ مِلْحان, وكانت تحت مالك بن النضر، فلما جاء الله بالإسلام، واستجابت وفودٌ من الأنصار, أسلمت مع السابقين إلى الإسلام، وعرضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها، ولم يقبل هدى الله، ولم يُطِقِ الْمُكث في المدينة؛ لأنها صارت دار إسلام، فخرج إلى الشام فهلك هناك.

 

فكان -صلى الله عليه وسلم- يزورها في بيتها, يُؤانسها وأبناءَها الأيتام. وفي هذا دليلٌ, على جَوَازِ زِيَارَةِ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّة, والسلامِ عليها ومُحادثتِها. ولكن بثلاثةِ شروطٍ ذكرها العلماء: الشرطُ الأول: إِذَا لَمْ تَكُنْ شَابَّة.. الشرطُ الثاني: إذا أُمِنَتْ الْفِتْنَة.. الشرطُ الثالث: عدمُ الخلوةِ بها.

 

وقوله: "وَكَانَ إِذَا جَاءَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ, يُمَازِحهُ ويُضاحكه, ويقَول: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"، انْظروا وتأملوا إلى أخلاق وتواضعِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-, يُمَازِحُ ويُضاحكُ هذا الطفل الصغير, بل ويُناديه بألْطفِ نداء: يا أبا عُمَير, أحدُنا لا يُنادي ابنَه بهذا النداء؟ فكيف سيُنادي أبناء الآخرين؟!!

 

ثم تأملوا كيف تفقد هذا الطير, وكيف سأل عن أدق التفاصيل, وهي في نظر الكثير يُعتبر تافهاً, فهذا من اهتمامه وشعوره بالآخرين.

 

كم قبلنا نحن من أُناسٍ فلم نسألهم عن همومهم وحياتهم, فشتان بيننا وبين المربي العظيمِ -صلى الله عليه وسلم-.

 

وفي هذا الحديث دليلٌ على اسْتحبابِ الْمِزَاح بضوابطه, وأنه لا يُخالف الْمُروءة.

قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: "فِيهِ جَوَازُ الْمُمَازَحَة, وَتَكْرِيرُ الْمَزْح, وَأَنَّهَا إِبَاحَةُ سُنَّةٍ لَا رُخْصَة". ا.هـ كلامه.

 

أي: أنَّ الْمزاحَ سنَّةٌ, ينبغي لكلِّ أحدٍ أنْ يستعمله, وليس هو رخصةٌ في بعض الحالات فقط.

 

قال العلماء: هناك فَرْقٌ, بَيْنَ كَوْن الْإنسان فِي الطَّرِيقِ وبين الناس, فَيَكون إلى الجدِّ منه أقرب إلى المزح, وبَيْنَ كَوْنه فِي الْبَيْت, فَيَمْزَح ويُداعب.

 

وفيه أيضاً: أهمِّيَّةُ مُلاطفةِ الصَّدِيقِ والقريب, صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ, والوقوفِ عند احْتياجاته.

 

وفيه أيضاً: مُعَاشَرَةُ النَّاس عَلَى قَدْر عُقُولهمْ, ومُخاطَبةُ الناس على قدرِ فَهْمِهم وإدْراكهم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 23].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلمون: ثم قال أنسٌ -رضي الله عنه-: "فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا, فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ, فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ", أي: يُرش بالماء, وإنما فعلوا ذلك لِكي يَلِينَ الحصيرُ ويَنْظُف, لا لأنه نجس؛ لأن الأصل في ثياب المسلمين وفُرُشهم أنها طاهرةٌ, حتى نستيقن ونتأكَّدَ من نجاستها.

 

فهذا دليلٌ على جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الْحَصِير والفُرُشِ وغيرها، ولو كان يطؤها الأطفال والصغارُ؛ لِأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- عَلِمَ أَنَّ فِي الْبَيْت طفلاً صَغِيرًا, ومَعَ ذَلِكَ صَلَّى فِي الْبَيْت وَجَلَسَ فِيهِ.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على حصير, ولم يفرش له فوقه سجادةٌ ولا منديل, وكان يسجد على التراب تارة, وعلى الحصى تارة, وفي الطين تارة, حتى يُرى أثرُه على جبهته وأنفه, فأين هذا الهدي من فعل مَن لا يصلي إلا على سجادةٍ تُفرَش فوق البساط. ا.ه كلامه.

 

فهذا تنبيهٌ لبعض النساء, اللاتي لا يقبلن الصلاة إلا بالسَّجاد, فهذا حرصٌ في غير موضعه.

 

وفيه "أَنَّ أَسْمَاء الْأَعْلَام لَا يُقْصَد مَعَانِيهَا، وَأَنَّ إِطْلَاقهَا عَلَى الْمُسَمَّى لَا يَسْتَلْزِم الْكَذِب؛ لِأَنَّ الصَّبِيّ لَمْ يَكُنْ أَبًا, وَقَدْ دُعِيَ أَبَا عُمَيْر".

 

ومثل هذا قولك للصبي: أنت رجلٌ مؤدب, وهو في الواقع ليس برجل؛ لأن الرجل هو البالغ, فمثل هذا لا ينبغي التشددُ فيه.

 

ومثل التسمية بالصالح, وخالد, وحكيم, وإيمان, ونحوها من الأسماء, لا يُقصَد معناها حتى يُتشدَّدَ في التسمية.

 

وفي الحديث أيضًا: إِكْرَامُ أَقَارِب الْخَادِم وَإِظْهَارُ الْمَحَبَّة لَهُمْ؛ لِأَنَّ جَمِيع مَا ذُكِرَ مِنْ صَنِيع النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَذَوِيهَا, كَانَ غَالِبًا بِوَاسِطَةِ خِدْمَة أَنَس لَهُ.

 

نسأل الله تعال أنْ يرزقنا اتِّباعَ النبي -صلى الله عليه وسلم-, وأنْ يُثبتنا على ملَّته حتى نلقاه, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

 

 

المرفقات

وتأملات في حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات