وقفات مع ثلاث عبادات

أحمد بن مسفر المقرحي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ فضائل عشر ذي الحجة 2/ أهمية الدعاء والتضرع إلى الله 3/ كثرة آلام الأمة وتعرضها لمؤامرات أعدائها 4/ تأخر الكثيرين عن أداء فريضة الحج بلا عذر 5/ الأضحية من شعائر الإسلام 6/ أين يضحي المضحي؟

اقتباس

لقد ابتُليت أمتنا بمصائب لا حصر لها تسببت في تشتيت شملها، وتمزيق جمعها، فالأمة ما بين حريقٍ وغريق، وما بين مكلوم ومظلوم، وما بين محزون ومهموم، وما بين قتيل وجريح، دنَّس اليهود مقدساتنا، وشرَّد الأعداء أبناءنا، وانتهكوا أعراضنا، وتفننوا في تعذيبنا، وبالغوا في قهرنا، وأوصلونا إلى أقصى درجات الاضطرار، ووالله لا مغيث لنا إلا الله، ولا معين لنا إلا الله، ولا كافي لنا إلا الله، ولا مجيب لنا إلا الله الذي قال سبحانه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ).. ألا فادعوا الله الذي أمرَكم بالدعاء، ووعدكم بالإجابة، وتذكروا أنه قد نصَر قومًا هم أقل منا عددًا وعدة...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

عباد الله: هذه الخطبة بعنوان "وقفات مع ثلاث عبادات"، وقد خصصت هذه العبادات الثلاث لأهميتها في هذا الموسم العظيم، ولتساهل كثير من الناس فيها، وقبل أن أبدأ بهذه الوقفات أذكركم بحديث "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام"، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء" (رواه أحمد)، وفي رواية "فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير".

 

عباد الله: هذه وصيته -صلى الله عليه وسلم- بأهمية هذه الأيام العشر التي لم يبق منها إلا القليل، وقد تنبه الصحابة -رضي الله عنهم- لهذا الوصف العظيم الذي وصف به -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام، وكان قد استقر في قلوبهم عظمة الجهاد ومنزلته في الإسلام، فسألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول الله: "ولا الجهاد في سبيل الله"؟ وكأنهم يلفتون انتباهه -صلى الله عليه وسلم- إلى ما غرسه فيهم من حب الجهاد وتعظيمه، والحرص عليه؛ فكان ردّه بلا تردد -صلى الله عليه وسلم- لأنه من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا الجهاد في سبيل الله".

 

فيا لها من أيام عظيمة جمع الله فيها كثيرًا من العبادات، بل وخصها بركن من أركان الإسلام، ألا وهو الحج، فحرِيّ بالمؤمن أن يشمِّر عن ساعد الجدّ ليملأ خزائن هذه الأيام بالأعمال الصالحة، لاسيما وأن الله قد اختصنا في هذه البلاد بنعم عظيمة ما حصلها كثير من المسلمين، ومن أهمها: الأمن، ورغد العيش، والقرب من بيته جل في علاه.

 

عباد الله الوقفة الأولى: مع عبادة الأمة في هذه الأيام أحوج ما تكون إليها وهذه الأيام موسم عظيم من مواسمها، إنها عبادة الدعاء والتضرع إلى الله الذي بشَّر الله به عباده فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].

 

بل وأمر به عباده سبحانه فقال: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55]، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60].

 

عباد الله: لقد ابتُليت أمتنا بمصائب لا حصر لها تسببت في تشتيت شملها، وتمزيق جمعها، فالأمة ما بين حريقٍ وغريق، وما بين مكلوم ومظلوم، وما بين محزون ومهموم، وما بين قتيل وجريح، دنَّس اليهود مقدساتنا، وشرَّد الأعداء أبناءنا، وانتهكوا أعراضنا، وتفننوا في تعذيبنا، وبالغوا في قهرنا، وأوصلونا إلى أقصى درجات الاضطرار، ووالله لا مغيث لنا إلا الله، ولا معين لنا إلا الله، ولا كافي لنا إلا الله، ولا مجيب لنا إلا الله الذي قال سبحانه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].

 

ألا فادعوا الله الذي أمرَكم بالدعاء، ووعدكم بالإجابة، وتذكروا أنه قد نصَر قومًا هم أقل منا عددًا وعدة، ولكنّهم قوم طبّقوا الدين، وعملوا بالنصوص، فكان جزاؤهم أن أعزهم الله، ونصرهم، ودحر الأعداء ودمرهم.

 

فادعوا الله، وألحوا عليه في الدعاء، فإن الله قد جعل في الدعاء في هذه الأيام مزية؛ فهو من العبادات التي يحبها سبحانه في هذه الأيام، بل إن في هذه الأيام يومًا قال عنه -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة...." الحديث (رواه مالك في الموطأ وأهل السنن إلا النسائي).

 

ألا فألحوا على الله في هذه الأيام المباركة بالدعاء، وانظروا لفجائع الأمة من حولكم، وانظروا لأشلاء الأمة ودمائها، وتشردها وضياعها، وتسلط الأعداء على مقدساتها وانتهاكها لحرماتها، من يرحمنا إن لم نرحم أنفسنا، نعود إلى ديننا، ونستغيث بربنا ونلجأ إلى خالقنا.

 

فاللهم يا حي يا قيوم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم لا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يحرمنا، اللهم خيَّم علينا الذل رغم كثرتنا، وتجرأ علينا الأعداء رغم قوتنا، اللهم مُدَّنا بمدد من عندك توحِّد به صفّنا، وتجمع به كلمتنا، وتُرهِب به عدونا، وتزيل به ذُلّنا وتعيد به مجدنا.

 

 اللهم مددًا من عندك تقوِّي به إيماننا، وتشعل به غيرتنا، وتزيل به غفلتنا، وتشد به عزائمنا، اللهم ارزقنا العمل بكتابك والاقتداء بنبيك والسير على نهجك، والتحاكم إلى شرعك.

 

 اللهم اكشف الغمة وانصر الأمة، اللهم عظُم البلاء وسيطر الأعداء، وكثر الدخلاء وقل الأولياء، اللهم فاكشف البلاء، واهزم الأعداء، وافضح الدخلاء، وازرع بين المؤمنين الحب والوفاء برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي وعدنا بالنصر والتمكين، وخصنا بشرعه المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ومؤيد المهتدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمام المتقين والغر المحجلين، من تمسك بسنته واقتفى أثره نال الفضل المبين وحُشر مع الصالحين، ومن تنكَّب عن منهجه خسِر الخسران المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

 أما بعد: عباد الله الوقفة الثانية: مع ركن من أركان الإسلام استهان به كثير من المسلمين، وما أعطوه أهميته، وكل عام يتعللون بأعذار واهية يظنون أنها تنفعهم يوم العرض على الله، ونسوا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وقد تنفع الأعذار عند الخلق لكنها مكشوفة للخالق –سبحانه- الذي افترض هذا الركن العظيم على عباده فقال: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].

 

فبعض الناس يتعلل بعدم الاستطاعة، ويتعذر بالدين، فجعل سماحة الدين عذرًا يخرج به من أداء هذا الركن العظيم، والله يعلم أنه لو أراد أن يحج لفعل، ولبذل وجدَّ واجتهد، ولكن الغفلة والتسويف هما سبب تأخره وتخلفه عن ركب الحجيج.

 

عباد الله: الحج ركن من أركان الإسلام كما في الحديث "بُني الإسلام على خمس"، وذكر منها "الحج" (متفق على صحته).

 

 فمن لم يحج فليبادر استجابة لله الذي قال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196]، وطاعة لرسول الله الذي قال: "تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" (رواه أحمد).

 

هذا بالنسبة لمن لم يحجَّ، وأما من حجَّ فإنه يبقى في حقه نافلة من أعظم النوافل، كما في الحديث: "من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه" (متفق عليه).

 

وكما في الحديث: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (رواه مسلم)، فما أعظمها من نافلة يجعلها المسلم محطة يتخلص فيها من كل ذنوبه وأوزاره.

 

الوقفة الثالثة: مع شعيرة استهان بها أيضًا كثير من المسلمين، وهي شعيرة الأضحية، والتي تكثر عنها الأسئلة هذه الأيام، والأضحية شعيرة ثابتة عن نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم-، وهي سنة مؤكدة عند جمهور أهل العلم، فعلى المسلم أن يحرص على ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المتمسكين بسنته؛ فإن كثيرًا من المسلمين هذه الأيام يبحث عن مخرج من أزمة الأضحية، وهذا لا يليق، فطيبوا بها نفسا، واعلموا أنها من الضأن ما أتم ستة أشهر، ومن الماعز ما أتم سنة، ومن البقر ما أتم سنتين، ومن الإبل ما أتم خمس سنين.

 

والسُّنّة فيها أن تُذبَح في البلد التي يكون فيه المضحي أو المضحى عنهم، فإنه قد أفتى ابن عثمين -رحمه الله- فقال: "لا يجوز إرسالها للبلاد البعيدة التي تكون بعيدة عن المضحي وأهله"، وأورد كثيرًا من المفاسد -رحمه الله-، وبيَّن أنها مخالفة للشريعة والذين بعثوها أنا أجزم تمام الجزم ما بعثوها إلا بحثًا عن أيسر الطرق للتخلص منها الكثير، وكثير من المسلمين بإذن الله نيتهم حسنة.

 

وإن كثيرًا من المسلمين قد فهم من كلام ابن عثيمين هذا أن المقصود ألا يضحي المضحي إلا في المكان الذي أدركته فيه الأضحية، قد تكون الأضحية أدركت مسلمًا في هذه البلاد وأهله في بلاد أخرى فأين يضحي؟ يضحي عند أهله، ليس هذا المقصود من فتوى ابن عثيمين -رحمه الله-، المقصود منها ألا يكون المضحي وأهله في بلد ويبعث بها إلى بلد آخر ليتخلص من قيمتها أو ليخرج بأي مخرج يريحه منها.

 

أما إذا ذُبحت في نفس البلد، أو ذُبحت عند المضحى عنهم، فإنها جائزة ثم إذا أرسل منها شيئًا، فهذه فضيلة؛ لأن السنة فيها أن تقسم ثلاثة أثلاث؛ ثلث يؤكل، وثلث يُهدَى، وثلث يُتصدَّق به.

 

صلوا وسلموا على ما أمركم بالصلاة عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض الله عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أجمعين، وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 

المرفقات

مع ثلاث عبادات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات