وقفات مع القرارات الاقتصادية الأخيرة

عمر بن عبد الله المقبل

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ حديث المجالس عن القرارات الاقتصادية الأخيرة 2/ الرزق مقدَّرٌ مكتوب 3/ المنح الخافية في المحن الظاهرة 4/ عدم التحسّر على الذاهب بالتفكُّر في الباقي 5/ طَرْق أسباب الرزق الشرعية 6/ جريمة العبث بالمال العام 7/ تجنب المصائب واستجلاب الرزق بطاعة الرحمن

اقتباس

لا شيء يعلو داخل البلاد هذه الأيام على حديث الناس حول ما صدر هذا الأسبوع من قرارات تتعلق بتعديل وإلغاء بعض البدلات، والمزايا المالية، وغيرها، ومثل هذا الحديث ليس بغريب، فهو يمسّ شيئاً حُبّبَ للإنسان فطرةً، قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]. ومع هذا الحدث تأتي هذه الوقفات:

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه يزدكم، ويبارك لكم، ولا تُعْرضوا عن أمره، وتخالفوا شرعه، فيبتليكم ويعاقبكم.

 

عباد الله: لا شيء يعلو داخل البلاد هذه الأيام على حديث الناس حول ما صدر هذا الأسبوع من قرارات تتعلق بتعديل وإلغاء بعض البدلات، والمزايا المالية، وغيرها، ومثل هذا الحديث ليس بغريب، فهو يمسّ شيئاً حُبّبَ للإنسان فطرةً، قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]. ومع هذا الحدث تأتي هذه الوقفات:

 

الوقفة الأولى: كلُّ شيءٍ بقدَر، ومن ذلك الرزق؛ فكل واحد منا لم يخرج من بطن أمِّه إلا وقد كُتب أجلُه، ورزقُه، وعملُه، وشقي هو أم سعيد.

 

وشأن الأرزاق بيد الرزّاق: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22]، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت:60].

 

فلا تقلق من هذه الجهة، وعلّق قلبَك بالذي رزق النملة الصغيرة، والحشرة الطائرة، والسمك في مائه، والطيرَ في هوائه، فإن القلق لا يجلب رزقًا، ولا يدفع همّا، بل يُضيّق الصدر، وعليك بفعل الأسباب، فإن لم يأتك ما كنتَ تَرومه، فثق أن هذا لم يُكتب لك، ولعل الله صرفه عنك؛ ليبقى تعلقُك به لا بجهدك، ولعله؛ رحمك إذْ لو وُسّع عليك رزقك لبغيت، كما قال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].

 

الوقفة الثانية: تذكر هذه القاعدة القرآنية: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].

 

كم من الناس من صار ضيقُ الحال عليه سبباً في رجوعه إلى الله، وسبباً في مراجعة حاله التي كانت مبنيّة على التبذير وسوء التدبير! فإن الواقع يشهد من عددٍ غير قليل من الناس مَن جعلوا من الكماليات حاجيات، ومن الحاجيات ضروريات، بل إن بعض الناس الذين يطرقون أبوابَ المحسنين ليسألوا زكاة أموالهم، لو فتّشتَ في أحوال بعضهم لوجدتهم ممن أصابتهم هذه الحمى! فلعل مثل هذه القرارات تُعيد الأمر إلى نصابه، وأن يكون هناك عقلٌ راشد في التواصي بالتخفّف من الكماليات والمظاهر: السفر إلى الخارج، والإسراف في الولائم والمناسبات، التفاخر في الأثاث والمقتنيات والسيارات، والمبالغة في الملابس والعطورات، وتَطلّبُ الماركات –لا سيما عند النساء- وغشيان المطاعم والأسواق لحاجة ولغير حاجة.

 

ولهذا السبب، ولسوء التدبير من هؤلاء؛ فلا تستغرب أن تجد موظفاً له عشرون سنة لم يستطع بناء بيت مناسب له، وراتبه جيد، وأسرته صغيرة، والسبب الأكبر هو ما ذكرنا.

 

الوقفة الثالثة: فكّر في الموجود: إن كنتَ ممن نقص راتبُه، أو قلّ مالُه، فتفكّر فيما أبقى اللهُ لك، وتذكر أن هناك فئاماً من الناس ليس لهم راتبٌ أصلاً! تفكر في نعمة الإسلام والسنة، نعمة الرزق والعافية والأمن وغيرها، هل أنتَ ممن يخرج إلى المستشفى ليأخذ جرعة الكيماوي بسبب مرض السرطان؟ هل أنت ممن يتردد كلَّ أسبوع مرتين أو أكثر لغسيل الكلى؟ هل أنت ممن يخاف أن يمسّيه أو يصبّحه قصفُ الطائرات، أو قذائفُ المدافع، التي تدك البيوت على أهلها؟ يمسي الرجلُ ولا يدري أيصبح أم يُدفن في بيته؟ بينما أنت آمنٌ مطمئنٌ في بيتك مع أولادك.

 

لا تظنّن أن هذا يُقال تخديراً لك، أو فرحاً بما تمّ، لكن العاقل ينظر إلى هذه التغيرات وفق منظار الشرع والعقل، ويعلم أنه حين يتفكر في النِّعم التي يتقلب فيها وفقَدَها غيره؛ فإنه يعود بأعظم غنيمة، وهي الرضا عن الله، ويعلم أن هذا النقص من جملة المصائب التي أمر الله عبادَه عند وقوعها بالصبر والاسترجاع، قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157]، فاسترجِع واحتسِب، وقلْها بيقين، وابذل الأسباب، فإذا فعلتَ فسترى الخيرَ من رب العالمين.

 

الوقفة الرابعة: عليك بأسباب كثرة الرزق الشرعية: ومن أيسرها على من يسرها الله عليه: التوبة والاستغفار، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، أوصى نوح قومه فقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:10-12]، وكذلك أوصى هود قومه فقال: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]، قال ابن عباس: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق؛ وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن, ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق".

 

وشكا رجلٌ إلى الحسن البصري -رحمه الله- الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رجل آخر الفقر، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رجلٌ آخر جفافَ بستانه، فقال له: استغفر الله، وقال له رجل: ادع الله أن يرزقني ولدا! فقال له: استغفر الله! فقيل له: يا أبا سعيد! أوَكلما شكا إليك رجلٌ من هؤلاء قلت: استغفر الله؟ قال: ما قلت ذلك من عندي، فإن الله -تعالى- يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:10-12].

 

ومن أسباب الرزق الشرعية: تقوى الله -عز وجل-؛ بأن يفعل العبدُ ما أُمر به، وأن يجتنب ما نُهي عنه، استمع -إن كنت تحب زيادة رزقك- إلى قول الرزاق -عز وجل-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، "أي: من جهة لا تخطر بباله".

 

ومن أسباب الرزق الشرعية: قوة التوكل، وصلة الرحم، والصدقة ولو باليسير، ونصوصُ الوحيين والواقع كلها شاهدةٌ بأثر هذه الأسباب في استجلاب الرزق، وحلول البركة فيه، ولكن لا يَنال هذا إلا الموقنون.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: الوقفة الخامسة: رسالة إلى العابثين بالمال العام: من المعلوم أن من أعظم المهام المسنَدة إلى وليّ الأمر -وفقه الله- ضبط المال العام، ليديره بما يحقِّق مصلحةَ المسلمين، ويختار لذلك من الموظفين مَن يعينه على تنميته والمحافظة عليه، وقطع الطريق على المتحايلين باسم الدولة لمصلحة أنفسهم.

 

فالواجب على كل مسؤولٍ أو موظفٍ -مهما صغرت مرتبته- إذا أُسند إليه عملٌ فيه حقوقٌ مالية أن يقوم به على أكمل وجهٍ ممكن، وأن يحذر من التحايل على الأخذ من بيت المال بأي صورةٍ كانت، وإلا فالنار! قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة"، ومعنى يتخوضون: يتصرفون في مال المسلمين بغير حق، فهؤلاء النار تنتظرهم.

 

ولما بعث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَ اللتبية عاملًا على الصدقة، جاء بهدايا تخصّه، فقال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "ما بالُ عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أُهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه، حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده! لا ينال أحدٌ منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر"، واليعار: هو صوت الشاة إذا ارتفع، يقول الراوي: ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم، هل بلغت؟ اللهم، هل بلغت؟".

 

ولقد ضرب السلفُ في هذا أروعَ الأمثلة وأعجبها، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تقرقر بطنه وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان قد حرم عليها السمن، قال: فنقر بطنه بإصبعه وقال: "تَقرقر! إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس"، وذكروا أن عمر بن عبد العزيز كان يسهر في مصالح المسلمين على ضوء السراج مع بعض عماله، فعرضت حاجة له فأطفأ السراج حتى لا ينتفع بضوئه في مصالحه الشخصية.

 

فأين أولئك الذين تجرؤوا وخاضوا في مال الله بغير حقٍّ وصاروا يتحايلون عليه بأدنى الحيَل ويرون ذلك شطارة أو ذكاء ودهاء؟! كمن يأخذ انتداباً وهو جالس في بيته! أو يُصرف له انتدابُ شهر وهو لم يذهب إلا أسبوعين أو ثلاثة، ومن يأخذ خارجَ الدوام دون دوام، أو يداوم بعض الوقت ويأخذ الأجرَ كاملا، أو من ينتفع بالمال العام في أموره الشخصية من السيارات والأجهزة وغيرها، خارج حدود الأنظمة.

 

ألا فليتق الله من سبقت منه سابقة، وليبادر بالتوبة، ومن التوبة: رد ما أخذه وإبراء ذمته، وقد وضعتْ الدولة حساباً خاصًا في أحد المصارف باسم (صندوق إبراء الذمة) يودِع فيه من أراد إبراء ذمته دون مساءلة.

 

وختاماً: ومع هذا الحدث، هذه حقائق قرآنية لا تتغير ولا تتبدل:

 

الحقيقة الأولى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:66]، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون) [الأعراف:96].

 

الحقيقة الثانية: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

 

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تعلّق قلوبنا بأحد غيرك، واجعلنا من أغنى خلقك بك، ومن أفقر عبادك إليك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا...

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا...

 

 

المرفقات

مع القرارات الاقتصادية الأخيرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات