وقفات حول غلاء الأسعار

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تكفل الله بالرزق 2/ وقفات حول غلاء الأسعار

اقتباس

إننا في هذه الأيام نعيش هلعا من البعض مع بعض التغيرات في الأسعار، ولا يلام الناس في ذلك؛ فارتفاع الأسعار بشكل عام فيه ضرر على الخلق، وزعزعة للاقتصاد العام، ومنازعة للناس في أرزاقهم، وإنما اللوم على من غلا في المسألة، وجعل الفقر بين عينيه، وكأنه متوكل على.. ومتى ما أسرف الناس وبددوا النعم، ولم يعرفوا حقها ابتلاهم الله بالغلاء في الأسعار...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله الذي خلق الخلق، ويسر لهم أسباب المعيشة، وسهل لهم طرق الحياة، وجعل بعض الناس لبعض سُخريا، ابتلاء لهم كما قال سبحانه (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزخرف:32]، والتسخير هو العمل والإيجار؛ فالفقير يعمل عند الغني، والغني يعطي الفقير مقابل عمله، وتدوم الحياة على هذا المنوال.

 

عباد الله: لم القلق في الحياة، وقد تكفل الله بتدبيرها، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ..." كل هذا وأنت في بطن أمك.

 

إننا في هذه الأيام نعيش هلعا من البعض مع بعض التغيرات في الأسعار، ولا يلام الناس في ذلك؛ فارتفاع الأسعار بشكل عام فيه ضرر على الخلق، وزعزعة للاقتصاد العام، ومنازعة للناس في أرزاقهم، وإنما اللوم على من غلا في المسألة، وجعل الفقر بين عينيه، وكأنه متوكل على الراتب ولم يتوكل على الله، ولنا في هذه الأحداث عدة وقفات بإذن الله:

الأولى: أن الله تكفل برزق الخلق ولم يجعله بيديهم؛ فالرزق في السماء وليس في الأرض، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22]؛ فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين قال سبحانه (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) [فاطر:2] وذكرنا الحديث المبيّن أن رزق العبد قد حُدد وكتب له وهو في بطن أمه؛ فلا يزاد فيه ولا ينقص، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها.

 

والله والله أيمان مكررة *** ثلاثة عن يمين بعد ثانيها

لو أن في صخرة صماء ململمة *** في البحر راسية ملس نواحيها

رزقاً لعبد براها الله لانفلقت *** حتى تؤدي إليه كل ما فيها

أو كان فوق طباق السبع مسلكها *** لسهل الله في المرقى مراقيها

حتى ينال الذي في اللوح خُط له *** فإن أتته وإلا سوف يأتيها

 

الثانية: أن الناس متحابُّون ما لم يطمع بعضهم لما في أيدي بعض، أخرج ابن ماجه وغيره بسند حسن من حديث أبي العباس سهل بن سعدٍ الساعدي -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".

 

قال الشافعي رحمه الله:

ومَن يَذُقِ الدنيا فإني طعِمْتُها *** وسيق إليَّ عَذْبها وعذابها

فلم أرَها إلا غرورًا وباطلًا كما*** لاح في ظَهرِ الفلاة سرابها

وما هي إلا جيفةٌ مستحيلةٌ *** عليها كلابٌ هَمُّهنَّ اجتذابها

فإن تجتنِبْها كنتَ سِلْمًا لأهلها *** وإن تجتذِبْها نازعَتْك كلابها

 

الثالثة: أن الأزمات تسفر عن أخلاق الرجال؛ ففي مسألة رفع أسعار الوقود، وفرض الضريبة على السلع تكشّفت أخلاق بعض الناس؛ فمنهم الطَّمِع الذي يسعى لاقتناص الفرص في جمع المال، ولم ينظر لحرام أو حلال، ولا نحتاج لضرب الأمثلة فكلكم يعلم ذلك، ومنهم الشهم العفيف، الذي شارك الناس أحزانهم، وخفف عليهم ولو خسر هو بعض الشيء، والناس مأمورون بالتراحم فيما بينهم، حتى في البيع والشراء، أخرج البخاري في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى".

 

أخرج البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟، قال: ما أعلم، قيل له: انظر، فقال: ما أعلم شيئا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة".

 

وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".

 

رحمة الخلق عند المعاملات من أفضل العبادات التي يغفل عنها كثير من الخلق.

 

اللهم ربنا هب لنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك أقول قولى...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: لا نزال في الوقفات تجاه المتغيرات في الساحة هذه الأيام.

 

الرابعة: بما أن الله هو الرازق لخلقه فهو المتحكم في الأسعار وارتفاعها، وهذا مرتبط بطاعتنا لله؛ فمن أطاع الله كما أمره رزقه الله كما وعده، أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث  أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر فسعِّر لنا فقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، إني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال".

 

ومتى ما أسرف الناس وبددوا النعم، ولم يعرفوا حقها ابتلاهم الله بالغلاء في الأسعار، قال تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"؛ فالله يذيق الناس عاقبة الإسراف؛ ليعرفوا قيمة النعمة التي كانوا فيها.

 

الخامسة: ليست الأهمية في رخص المواد، وإنما الأهمية في البركة؛ فمتى طرح الله البركة في المال نفع وأشبع وسد العوز، ومتى نزعت البركة من المال، تبدد ولم ينفع ولم يسد العوز؛ فسلوا الله البركة في كل شيء، أخرج البخاري وغيره من حديث مجاهد قال: إن أبا هريرة كان يقول: ألله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "يا أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق"، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: "أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي"، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة! كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "يا أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم"، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، فقال: "أبا هر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت"، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعد فاشرب"، فقعدت فشربت، فقال: "اشرب"، فشربت؛ فما زال يقول اشرب حتى قلت لا -والذي بعثك بالحق- ما أجد له مسلكا، قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.

 

وقصص البركة كثيرة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما نزعت البركة بمثل الإسراف، والمعصية.

 

السادسة: التحذير من البخل؛ فالشيطان يأمر العبد بالبخل ويخوفه الفقر، والله يعد العبد مغفرة منه وفضلا؛ فعلى العبد أن ينفق بلا إسراف، ولا تقتير؛ كما قال سبحانه: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء:29].

 

غير أن العبد عليه أن يقلل من الانغماس في شراء الكماليات التي لا تجدي خصوصا في هذه الأيام؛ فلينفق العبد على الضروريات، وشيئا من المباحات وحذاري من الإسراف والمباهات.

 

السابعة: على العبد أن يلزم طاعة ربه ويكثر من الاستغفار؛ فإن الاستغفار يجلب الرزق كما قال سبحانه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12].

 

الثامنة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخش على أمته الفقر، بل خشي عليهم انفتاح الدنيا عليهم؛ كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن عوف الأنصاري وهو حليف لبني عامر بن لؤي وكان شهد بدرا أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، وقال: "أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا، ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".

 

اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك...

المرفقات

وقفات حول غلاء الأسعار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات