عناصر الخطبة
1/ الإشادة بقرارات وأعطيات الملك سلمان بن عبد العزيز 2/ وقفات مهمة مع قرارات وأعطيات الملك سليمان بن عبد العزيز 3/ الأحداث التي تمر بها أمة الإسلاماقتباس
شهدت البلاد تغييرات في المناصب والوظائف، ذهب فيها أناس، وجاء آخرون، وهذه سنة الحياة يجب أن يتقبلها الجميع، كما يجب أن نُقَدِّر فرحة الناس بذهاب من لم يكن له أثر إيجابي على أمور دينهم ودنياهم, وأعجب ممن يصادر فرحهم بإعفاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق الدُّجى والصباح، ومسبِّب الهدى والصلاح، ومقدِّر الغموم والأفراح, عزَّ فارتفع، وفرَّق وجمع، ووصل وقطع، وحرَّم وأباح, مَلَكَ وقدَّر، وطوى ونشر، وخلق البشر، وفَطَر الأشباح.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده مدبر الكون، وفالق الإصباح, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من أطاعه رشد, ومن اتبع هديه نال الرشاد والفلاح.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان في كل الأراضي والبطاح.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: بعد أن هدأت عاصفة التغيير في البلاد, وخاض الناس فيها وماجوا بما يعنيهم وما لا يعنيهم, وبما يدركون وما لا يدركون, وبعد أن عشنا أياماً شهدت فيها البلاد تغييرات وتعيينات, ومكرمات وأعطيات, بعد أن هدأت هذه الأمور أقف اليوم لأذكّر عدة وقفات, بعيدة عن التحليل والسياسة, وبرية من المداهنة والشماتة, وقفاتٍ لا ينتظمها عِقدٌ إلا أنها حول أحداث بلادنا ومتغيراتها, جعل الله ما حلّ بنا سبب خير وتمكين, وجعل عاقبتها صلاح الدنيا والدين.
فأول الوقفات -يا كرام-: دماءٌ مسلمةٌ تراق على أرض الشام وغيرها, نحزن -والله- مع كل قطرة منها, وأحداث في اليمنِ والشامِ، وغيرها، تعصف وتخوض, تتطلب من المسلمين تحقيق رسالة الجسد الواحد، بالدعاء، والعطاء، والتفاعل الإيجابي، تحقيقاً لقول الحق: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة: 71].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
مشاهد مؤلمة ومحزنة، تذكِّرنا بما نعيشه في هذه البلاد من أمن ورخاء، واجتماع كلمة، ووحدة صف، وتآلف بين الراعي والرعية, حيث ينتقل الحكم من سلف إلى خلف، بطمأنينة واستتباب حال, فلا إراقة دماء، ولا اضطرابات ولا نزاعات، والله إن المنصف لينظر إلى هذا على أنه نعمة تستحق الشكر من الله، مسدي النعم وموفيها, وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ...) [آل عمران: 103].
والنعم إذا ما شكرت وإلا فقد تزول, وشكرها يكون بالمحافظة على أسباب دوامها, من الالتزام بطاعة الله، واجتناب نواهيه, والتمسك بهدي الله وشريعته.
وإن الناس حين يحمدون أمرهم, ويفرحون باجتماع كلمتهم على ولي أمرهم، فإنما ذلك لأنهم يريدون أمور الدين والدنيا تستقيم, وإن كان المؤمل والمنتظر أكبر من ذلك, من نصرة للمسلمين, ومن تفريج للمكروبين, ومن قطع لدابر المفسدين, وإن أملنا بالله كبيراً, ونظن بولي الأمر خيراً, قال الإمام الماورديُّ -رحمه الله-: "لا بُدَّ للناسِ من سُلطانٍ قاهرٍ، تأتلِفُ برُمَّته الأهوِيةُ المُختلِفة، وتجتمِعُ بهَيبَتِه القلوبُ المُتفرِّقة، وتُكفُّ بسَطوَته الأيدي المُتغالِبة، وتُقمَعُ مع خوفِه النفوسُ المُتعانِدة والمُتعادِية؛ لأن في طبائِع الناس من حبِّ المُغالَبَة والقهرِ لمن عانَدُوه ما لا ينكَفُّون عنه إلا بمانعٍ قويٍّ ورادِعٍ ملِيّ.
وينبغي في غمرة كل هذا أن تعلم أن الأمن لزيمُ الإيمان, فلا أمن تامٌ ولا استقرار حقٌ إلا مع الإيمان, فإن حققناه في نفوسنا, وعلى أفرادنا وجماعتنا, فآمنا, واجتمعت كلمتنا, وقمنا بأوامر ربنا, فنحن من الأمن قريبون, وإلا فلربما يزول منا بتقصيرنا, ومَنْ حولنا من ديارٍ شاهدة, جمع الله شملهم وحقق لهم أمنهم.
وثانياً: عمت الناسَ فرحةٌ غامرة بما أمر به ولي الأمر من أعطيات مالية, وصارت هي مجالُ حديثهم, وأُنس مَجالسهم وذلك أمرٌ لا يُلام الناس عليه, فتلك طبيعة البشرِ صالِحهم وطالحهم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...) [آل عمران: 14].
والصحابة رغم جلالة قدرهم, وقوة إيمانهم, لمّا علموا بقدوم مال من البحرين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافوه في صلاة الفجر، فلما رآهم صلوا معه تبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بمال من البحرين؟" قالوا: نعم, قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم"، فليس لنا لوم الناس على ما جبلهم الله عليه, وقمن بالمرء أن يقدّم من ماله شكراً لربه صدقة, فالمسلمون اليوم بأمس الحاجة, والفقراءُ والمعوزونَ في خارج البلاد وداخلها لهم عليك حق, والمال مال الله فقدم لنفسك ما تنير به دربك وقبرك, وغبن أن تُساقَ لك الأموالُ ثم تضَعُها في مالا ينفعك, أو فيما يلحقُكَ وزرُه ومَغَبَّتُه.
وثالثاً: شهدت البلاد تغييرات في المناصب والوظائف، ذهب فيها أناس، وجاء آخرون، وهذه سنة الحياة يجب أن يتقبلها الجميع، كما يجب أن نُقَدِّر فرحة الناس بذهاب من لم يكن له أثر إيجابي على أمور دينهم ودنياهم, وأعجب ممن يصادر فرحهم بإعفاء مسؤول, كانوا يؤملون منه بحكم منصبه أكثر مما عمل, ولكن الذي لا يصح من المسلم ولا يليق بأخلاق من جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوته هو أن تتحول هذه التغييرات إلى مجال للشماتة والسبّ والذمّ، والتجني على الأشخاص في أعراضهم وديانتهم، فالمسلم عفيف اللسان يراقب الله في كل ما يفعل أو يقول ويتذكر أنه: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
ويستشعر وقوفَه بين يدي الله حين يسألُه عن القطمير والفتيل، وكلُ كلمةٍ لا يسرّك أن تلقى الله بها فدعها, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.
ورابعاً: من منهج المسلم -أيها المسلم- أن يحتفظ لأهل المعروف بمعروفهم, ويشكرَ أهل الفضل على فضلهم, ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ومع يقيننا بأن الفضل في أمور العباد كلها لله -سبحانه-, إلا أن العبد يكون سبباً في بذل خير, أو رد عادية وشرّ, وحينها فخلق المسلم حين يناله نصيبه من أوامر ولي الأمر أن يبادل ذلك بالشكر والدعاء.
وحين يَرِدُ الحديثُ عن ولي الأمر, وحاكم البلد, فإن علماء المسلمين لهم منهج تجاه ولاة المسلمين, يمليه عليهم دينهم ومعتقدهم.
فأهل السنة يدعون لولاة أمرهم بالصلاح, كدعائهم لأنفسهم وأشد, ولا غرو فبصلاحهم صلاح المجتمع, وقولة الإمام أحمد شهيرة حين قال: "لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لأنه بصلاحه صلاح الأمة".
وقوله الآخر -رحمه الله-: وإني لأدعو له -أي الخليفة- بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار, والتأييد، وأرى له ذلك واجباً علي.
وأهل السنة يرون النصح لولاة أمرهم, فدعائهم لهم, وطاعتهم, لا تنافي النصح لهم عند وجود سببها, وهي مقتضى البيعة, والمؤمنون نصحة, والمنافقون غششة, فالمسلم يتقرب لله بالنصح لولي أمره, بالأسلوب الحسن الذي يبشّر ولا ينفر, وينفع ولا يضر، وإنه حينما يقع الخطأ ثم يسكت الناس, ويحجم القادر على البيان بقوله أو قلمه, سيتقدم أقوامٌ يقتاتون بدينهم, ويتزلفون بمداهنتهم, ومن نظر في حال السلف وجد أنهم أنصحَ الناس لولاة أمرهم, وهذا حقٌ لا خير في الناس إن لم يقولوه, ولا خير في المسؤول إن لم يقبله.
وأهل السنة يرون الطاعة في غير معصية الله, قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في الأمراء: "هم يَلون من أمورنا خمساً: الجمعةَ، والجماعةَ، والعيدَ، والثغورَ، والحدودَ, والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا, والله لما يُصلح الله بهم أكثر مما يُفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة".
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالته لأهل القصيم: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم, ما لم يأمروا بمعصية الله".
تلكم -يا كرام- شذرات يسيرة من عبارات السلف تجاه من تولى هذا المنصب الخطير, عبارات متزنة, لا تغيرها الدنيا ولا يؤثر عليها الجفاء, أو العطايا؛ لأنها نابعة من عقيدة, والعقيدة باقية ما بقي الإسلام في ولي الأمر, ولقد كان يغني عنها كلها قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو أصدق الخليقة قيلاً: "َمنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي".
وقول الصحابي وهم أتم الأمة عقلاً, وأشرفهم تديناً: "بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ".
والأثرة، هي استئثار طائفة من أهل الشأن بالحكم والمال العام وإيثار قومٍ دون قوم.
فاللهم أصلح الراعي والرعية, واجمع الكلمة على الدين.
الخطبة الثانية:
خامس الوقفات -يا كرام-: من تأمل في الأيام الماضية يتجلى له طرفٌ يسيرٌ من معنى قول المولى: (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة: 3]، فبالأمس قوم كانوا ملء السمع والبصر, حديثهم يملأ الأسماع, يضرب لهم الناس ألف حساب, واليوم قد انتهى كل هذا, فصار مسؤولُ الأمسِ فردَ اليوم, وهذا نحمد الله عليه أولاً أن ليس في بلادنا من يثور لأجل إبعادٍ من منصب, ومن يُكدِّرُ الأمنَ لأجل إزاحةٍ من ولاية, وأهم من هذا أن فيه عبرةً أيضا لكل أحدٍ أن مناصب الدنيا إلى زوال, وأن كراسيها إلى اضمحلال, ولا يبقى للمرء إلا عمله الصالح, وذكره الحسن.
وإن مرارة مفارقة أي منصبٍ ساعةً تعادل سعادته به سنوات, هذا نقوله لكل من تسنم منصباً ولو صغر, عليه أن يعلم أنه سينزل منه يوماً, ولن يبقى له منه شيء, وقد ذُكر أن ابن أكثم حين تولى القضاء بكى أهله, ولكنهم حين اعتادوا حياة القضاة، وانفتاح النعم، حينما ترك القضاء بكى أهله أيضاً, حزنا على ترك المنصب, وقد صدق صلى الله عليه وسلم وأبدع في وصفه للمناصب، حيث قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة"، بئست الفاطمة حين تتركونها بعزلٍ ونحوه.
أجل؛ ما أحسن الوظيفة عند التمتعِ بنفوذها, ولكن بئست هي الفاطمة, فما أشق تركها عند الكثيرين, وما أشد ضررها على صاحبها يوم القيامة إن لم يقم بحقها, ولئن كان تركُ أيِ منصبٍ فيه مشقة على النفس في الدنيا, فإن الأهم منه أن يتذكر من تولى أي منصب عن المسلمين, ومن تسنم أي وظيفة وعملٍ صغر أو كبر أنه سقف يوماً عند ربه, وسيسائله مولاه عما عمل, وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطاً، فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة".
وبعد -أيها المسلمون-: فمسكين من يركن إلى منصب وكرسي, فلو بقيت لغيرك لما وصلت إليك.
مسكين من يركن إلى دنيا، فلقد ملكها الزعماء والخلفاء, ثم مضوا لقبورهم فرادى, وسيأتون الرحمن عبادى, وسيقفون يوم القيامة عراة فرادى.
مسكينٌ من غرّته الدنيا فنسي ساعة الرحيل, وليلة القبر, وسؤال الأملاك, ووقفة الحساب, وتطاير الصحف, ومرّ الصراط.
تَاللَّهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ *** أَلْفًا مِنَ الْأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ *** مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ
لَا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ *** كَلَّا وَلَا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي *** بِنُزُولِ أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
مسكين أيما مسكين، ومغبون غاية الغبن, من باع باقياً بفان, ودائماً بزائل, وقصوراً بخِرَب, ونعيماً بلا كدر، بدنياً ملئية بالغصص والكدر, ومن باع الآخرة الباقية بالدنيا الفانية.
فاللهم وفقنا لأخذ الأهبة، وأحي قلوبنا من الرقدة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم