وعلى الله فتوكلوا

ناصر بن محمد الأحمد

2011-07-19 - 1432/08/18
عناصر الخطبة
1/ حاجتنا للتوكل في هذا العصر 2/ التوكل في الكتاب والسنة 3/ مفهوم التوكل 4/ دور التوكل في الصبر والثبات 5/ أعظم الناس توكلاً أعرفهم بالله 6/ التوكل سبب للنصر 7/ آثار التوكل وثمراته 8/ أقسام المتوكلين 9/ صور من التوكل

اقتباس

التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان ومن فيها وما عليها والدول وكل ما تملك، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه. التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلّق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، لا إله إلا هو، إنه صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضارّ ..

 

 

 

 

 

أما بعد: إن الأوضاع التي يعيشها المسلمون عمومًا والدعاة خصوصًا بالذات في هذه الفترة الحرجة قد تُضعف ثقة البعض بالله -عز وجل- في بعض الجوانب؛ لذا كان لزامًا التذكير ببعض مراتب الدين ومثبّتات اليقين من خلال نصوص القرآن وأنوار السنة وسيرة سلف هذه الأمة، لعلها تكون الترْيَاق الذي يتنفّس من خلاله المؤمن وهو يصارع الشرّ المتمثّل في دول وأشخاص وهيئات ومؤسسات ولجان عالمية ومحلية.

لقد اتفق اليهود والنصارى على ضرب الإسلام والمسلمين في كل مجال ومكان، فصار الجميع بحاجة إلى التوكّل على الله لا على غيره، توكّلاً حقيقيًّا يُعيننا ويرفع عنّا، توكّلاً يُخالج شِغاف قلوبنا، فنوقن من خلاله ضعف وهزال ما يملكه الغرب من قوة مادية؛ لأنهم اعتمدوا عليها، ونحن اعتمادنا على جبار السماوات والأرض.

أيها المسلمون: لقد جاء الأمر بالتوكل في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة ومناسبات متكاثرة، بل لقد جعله شرطًا للإسلام والإيمان، فقال سبحانه: (إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس:84]، وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، وقال عن أنبيائه ورسله: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) [إبراهيم:12]، وقال لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ) [النمل:79]، وقال عن أصحابه: (لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]، وقال عن أوليائه: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4]، وقال في صفات المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]، وقال في جزاء المتوكلين: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا) [الطلاق:3]. إنها نصوص -معاشر الأحبة- لو تفكرنا فيها ووقفنا عندها لصغر في أعيننا وقلوبنا كل ما ليس من الإسلام في شيء.

أيها المسلمون: إنني أذكر بهذا الموضوع المهم في هذه الظروف الحَرِجَة والمرحلة الحاسمة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، حيث تداعت عليها أمم الكفر من كل حَدَبٍ وصَوْب، بل حصل الظلم والبغي والعدوان الغاشم من قتل للمدنيين وترويع للنساء والأطفال والآمنين دون رعاية لحقوق الإنسان التي يدّعون، ولا للقوانين والأعراف الدولية التي يزعمون.

أيها المؤمنون: إن الله -جل وتعالى- لم يخاطب بالتوكل في كتابه إلاّ خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه، لم يخاطب بالتوكل العامة من الناس؛ لأن التوكل من أصعب المنازل على العامة، فهم لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم، ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة، فهم في رِقّ الأسباب يعيشون، فيصعب عليهم الخروج عنها.

التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان ومن فيها وما عليها والدول وكل ما تملك، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.

التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلّق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، لا إله إلا هو، إنه صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضارّ، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.

التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب.

المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية، ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كل خير سبيلاً"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".

التوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.

التوكل الذي يَقوى الإنسان به ضَرْبٌ من الثقة بالله، يُنعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونًا ولا أملاً.

التوكل غذاء الجهاد الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالم الطغاة وبغي المستبدّين كما بيّنه الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 12].

التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصمّمة، وليس العجز والكسل.

أيها المسلمون: إن توكل المجاهدين في ساحاتهم والدعاة في ميادينهم والمربّين في محاضنهم لا ينافي الأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هم العاملون كما قال سبحانه: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58، 59]، وإمام المتوكلين نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء، وقال: "من يحرسنا الليلة؟!"، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: "اعقلها وتوكل"، وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه لوط: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) [هود:81]، ونادى أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء:71]، وجاء أمر الله بالتوكل بعد التحرّز واستفراغ الوسع حين قال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].

المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا، إن تعسّر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسّر له كل شيء فبتيسير الله.

المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهًا إلى عمله ومهنته، وإلى دعوته وجهاده، تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزِلَّ أو أُزَلّ، أو أَضِل أو أُضَل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَل أو يُجهل علي". وقد كان من ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون". ومن قال: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله" يقال له حينئذٍ: كُفيت ووقيت وهُديت، وتنحّى عنه الشيطان. وفي التنزيل العزيز: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99].

أخي المؤمن، ثمة موطن من مواطن العمل لا يكون على وجهه ولا تتحقق غايته إلا حينما يكون التوكل لله هو عموده، إنه موطن الصبر والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها، وهو الذي يحمل عبأه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح، فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم، ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان، وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعض العلماء والدعاة والمجاهدين والمصلحين أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه، ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] أجابهما جلّ وعلا: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:46]، إنه الشعور الكبير والعميق بمعية الله وعنايته، ذلكم هو المؤنس في الموحِشَات والمشجع في الرّهَبَات.

وهذا هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول: نظرت أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!". قال الله عنهما: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]، وحينما قال الذين كفروا لرسلهم: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)، هذه المقولة التي تتردد عبر التاريخ، ويُوَاجه بها أهل الدعوة المخلصون في كل زمان ومكان، جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب -عليه السلام- بقوله تعالى: (قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 89]. هذا هو المجد الشامخ الذي لا يحظى به إلا نفر من المؤمنين المتوكلين، (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الملك:29].

أيها المسلمون: من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء.

إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة، إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطّالون، لن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه، والله يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) [الزمر:36، 37]، هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله.

وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون"، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]".

أيها المسلمون: إن التوكل على الله من أعظم أسباب النصر على الأعداء، إذا تحقق التوكل في القلب فلا يحزنه بعد ذلك الفقر والإقلال، ولا تزلزله الفتنة والإعصار، حين يُبنى التوكل على معرفة الله وأسمائه وصفاته، حين يعلم العبد يقينًا أن الله هو المحيي والمميت الحي القيوم علام الغيوب العزيز الجبار، الواحد القهار، له خزائن السموات والأرض بيده الخير وإليه يرجع الأمر كله، حين يعلم: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام:17]، إذا استقرت هذه المعاني امتلأ القلب بإجلال الله ومحبته وتعظيمه، وانقطعت العلائق الأرضية، ولم يبق اعتماد على أي مخلوق أو أية دولة أو جهة، عندئذٍ ينشرح الصدر وتسكن النفس ويطمئن القلب والفؤاد إلى الله تعالى.

ولا يلزم من التوكل أن لا يُصاب العالم أو المجاهد أو الداعية بأذى، فقُدُوات الأمة في هذا الباب أصابهم ما أصابهم، ولم يخدش ذلك في توكلهم، ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحيى بن زكريا وقتل الخلفاء الثلاثة والحسين وابن الزبير وابن جبير؟! وقد ضُرِب أبو حنيفة وحُبِس ومات بالسجن، وجُرّد مالك وضُرِب بالسياط، وجُذِبت يده حتى انخلعت من كتفه، وضُرِب الإمام أحمد حتى أُغمِي عليه، وقُطِع من لحمه وهو حي، وأُمِر بصلب سفيان فاختفى، ومات البويطي مسجونًا في قيوده، ونُفِي البخاري من بلده، وسُجِن شيخ الإسلام ابن تيمية ومات في سجنه، وفُعِل ما فعل بتلميذه ابن القيم وكان قبل ذلك قد سُجِن مع شيخه، وأُخرِج الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إلى المقبرة، وأُمر الجند أن يطلقوا عليه الرصاص جميعًا فمزّقوا جسمه، وفاضت روحه إلى ربه، ونُكّل بأئمة الدعوة المباركة، وطُعِن في نواياهم، وأُسيء بهم الظن، ونُسبِت إليهم النقائص، وهم صابرون محتسبون.

كذا المعالي إذا ما رمت تدركها *** فاعبر إليها على جسر من التعب

أيها المسلمون: إن للتوكل على الله آثارًا حميدة، ولذة عجيبة، لا يجدها إلا الخُلّص من عباد الله، وجدها إبراهيم -عليه السلام- عندما ألقي في النار، فتوكل عليه فصارت بردًا وسلامًا، ووجدها يوسف -عليه السلام- عندما ألقي في الجُبّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، ووجدها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأسًا من كل من سواه، منقطعًا عن كل شبهة في قوة، قاصدًا باب الله دون الأبواب كلها.

لو استقرت هذه الحقيقة في قلب المسلم استقرارًا صحيحًا لصمد كالطود أمام الأحداث وأمام الأشخاص وأمام القوى والقيم والاعتبارات، ولو تضافر عليه الإنس والجن بكل ما يملكون من طائرات ودبابات وصواريخ وعابرات القارات، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].

أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.

 

 

الخطبة الثانية:
 

أما بعد:

إن الله ملاذنا فبه نلوذ، وهو معاذنا فبه نعوذ، به نعتصم ونلتجئ ونستعين، وعليه وحده نتوكل، (قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:38].

أيها العلماء، أيها المجاهدون، أيها الدعاة، أيها المصلحون: فوضوا أموركم إليه: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44].

أيها المسلمون: عند اشتداد الكروب، وتفاقم الخطوب، يتجلى إيمان المؤمنين، وفي خضم الحوادث وثنايا الكوارث يبرز صدق المتقين وزيف المنافقين وهوى المنحرفين، عند حلول الفتن وحصول المحن يظهر توجّه المتوكلين وتضييع المتواكلين؛ لأن الأحداث والمدلهمّات والشدائد والملمّات معايير دقيقة ومقاييس منضبطة لسَبْر أغوار الرجال وإظهارهم على حقائقهم، والموفق المُلهَم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله معتصمًا به، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101].

أيها المسلمون: المتوكلون على الله أنواع وأقسام: فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان به ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وإقامة شرعه وهداية خلقه، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وإصلاحها، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل على الله في أمر يناله منه، من رزق أو عافية أو زوجة أو ولد.

وأفضل التوكل التوكل في الواجب، وهو واجب الخلق وواجب النفس، وأوسع التوكل وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو رفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض.

لنقف وقفة تأمل من نبي الله هود -عليه السلام-، قال الله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].

إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر، رجل واحد، لم يؤمن معه إلاّ قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة ومادية في زمانهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128-130]، هؤلاء هم الذين واجههم هود -عليه السلام-، في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه، وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة وهم قومه، وتحدّاهم أن يكيدوه بلا إمهال، وأن يفعلوا ما في وسعهم، فلا يباليهم بحال. لقد وقف هود -عليه السلام- هذه الوقفة لأنه يجد الفهم كل الفهم لمعنى التوكل في أبهى صوره، ويوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتبطرين إنما هم من الدواب، وهو مستيقن أنه ما من دابة إلاّ وربه آخذ بناصيتها.

إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا هذه الحقيقة في نفوسهم على هذا النحو، حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه والتدمير على أعدائه في صورة من الصور التي قد تخطر أو لا تخطر على البال، وما ذلك على الله بعزيز.

قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يتحدث عن همم الصحابة -رضي الله عنهم- في التوكل: "فحال النبي –صلى الله عليه وسلم- وحال أصحابه محكّ الأحوال وميزانها، بها يُعلم صحيحها من سقيمها، فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم مَن بَعدهم، فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب، وأن يُعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحِّده جميع العباد، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد، فَمَلؤوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانًا، وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان، وهبّت رياح روح نَسَمَاتِ التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينًا وإيمانًا".

فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكون توكلنا عليه في نصرة دينه وإعلاء كلمته وهداية خلقه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

الله فتوكلوا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات