عناصر الخطبة
1/مواعظ الحياة البليغة وعبرها النافعة 2/دعوة القرآن الكريم إلى التأمل في الكون 3/من مشاهد الوعظ النبوية الخالدة.اقتباس
لقد دعا القرآن الكريم إلى إعمال النظر في هذا الكون؛ لكي يعتبر الناظر بما يشاهد فيصلح معتقده وعمله بالنظر إلى تلك العِبر؛ فقد أمر الله -تعالى- بالنظر إلى ما في السماوات والأرض لمعرفة عظمة الخالق واستحقاقه العبودية وحده.. فتأملوا معي -رحمكم الله- في هذا المشهد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده على نعم تترى، وآلاء لا أدرك لها حصرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله واحد، ورب شاهد، ونحن له مسلمون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، وخيرة المتدبرين، وأعظم المتفكرين في خلق رب العالمين، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته المهتدين، وسلم تسليما، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70 - 71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن هذه الحياة بما فيها موعظة بليغة للمتعظين، وعِبرة نافعة للمعتبرين، مواعظها الناطقة ومواعظها الصامتة. وعلى الإنسان إذا أراد الاتعاظ أن يسير في هذه الحياة على مركب التأمل فيما يرى ويسمع ويلاقي، وأن لا يمر على مشاهد الدنيا مرور غافل غير معتبر.
المسلم العاقل ينظر إلى الحياة نظرة اعتبار وادكار؛ فيستفيد من ناطقها ومن صامتها موعظة تسوقه إلى الخير و تحجزه عن الشر. إنه يتجاوز نظرُه المظاهرَ إلى أعماق المشاهدَات فيرى عِبراً ترقق قلبه وتدمِع عينَه، وتخصِب فكره وتشرح صدره. أما من كان معرضًا عن العمل بالإسلام غارقًا في لهو الدنيا، تائهاً عقله في سكرة شهواتها؛ فإنه ينظر إلى مشاهد الحياة بمنظار شهواته واهتماماته نظرة دنيوية قاصرة أو مشوهة.
عباد الله: لقد دعا القرآن الكريم إلى إعمال النظر في هذا الكون؛ لكي يعتبر الناظر بما يشاهد فيصلح معتقده وعمله بالنظر إلى تلك العِبر؛ فقد أمر الله -تعالى- بالنظر إلى ما في السماوات والأرض لمعرفة عظمة الخالق واستحقاقه العبودية وحده، فقال: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)[يونس:101].
وأمر -عز وجل- بالنظر إلى الأرض كيف أنبت الله نباتها؛ فأخرج منه طعام الإنسان الذي يعيش به، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 99]، وقال: (لْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس: 24 - 32].
وأمر -تبارك وتعالى- بالنظر إلى مصارع المكذبين ونهاية الظالمين؛ حتى لا يسلك غيرهم طريقهم فيهلك كما هلكوا، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46]، وقال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الروم:9].
أيها المسلمون: إن الناظر في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد سلك مسالك متعددة في تعليمه الأمة ووعظه إياها؛ لأن الناس مختلفون في الطرق التي تؤثر فيهم، وإن من تلك الأساليب التي استعملها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التعليم والموعظة: الوعظ بالمشهد؛ فهناك مشاهد رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع بعض الصحابة في مواقف مختلفة فصدرت منه كلمات مضيئة من الوعظ والإرشاد صارت أبلغ من القول المجرد، وسنتناول اليوم -بعون الله- بعضًا من تلك المشاهد وما قال فيها رسول الله من بديع الموعظة والتعليم، ولتكون لنا تلك النظرة المتأملة الثاقبة طريقًا لسلوك النظرة نفسها في غيرها من مشاهد الحياة.
أيها الأحبة الكرام: جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه طارحة ولدها في النار"، قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (رواه مسلم).
فتأملوا معي -رحمكم الله- في هذا المشهد المؤثر كيف رحمة هذه الأم وعطفها وهي بين السبي؛ فقد فقدت رضيعها فاجتمع لبنها ليشاركها البحث عن وليدها، فتضررت باجتماع اللبن، فكانت ترضع من لقيت من الرضعاء، وهي في ذلك تسعى باحثة عن ولدها، فلما وجدته بعد عناء البحث ألصقت ثديها بفمه ناسية آلام البحث وأوجاع نفسها في ظل السبي؛ فكيف سيكون فرحها به وسرورها بلقائه؟
كثير من الناس وقتئذ شاهد هذا المشهد فرقّ للأم ورق للصبي ووقف عند ذلك، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقل الصحابة -رضي الله عنهم- والأمة كلها إلى عِبرة أعظم وأعظم.
فإذا كان الوالدان هما مثالَ الرحمة في هذه الحياة فهناك من هو أرحم منهما، إنه الله رب العالمين الذي أوصى الوالدين بأولادهم، فقال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)[النساء:11]، بل إنه أرحم بالإنسان من نفسه؛ ولذلك نهاه عن قتلها، قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء:29].
أيها الأخوة الفضلاء: مشهد آخر من مشاهد العبرة، رواه البخاري وغيره عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟" فقال: "رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله" قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مر رجل، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيك في هذا"، فقال: "يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" (رواه الترمذي).
فهذا مشهد آخر يجلّي لنا قيمة الإنسان عند الله، وقيمته عند الناس؛ فأما لدى أكثر الناس فقيمة الإنسان بمظهره ومستواه الدنيوي حالاً ومالاً ووظيفة؛ فإذا كان من الأغنياء أو ذوي الوظائف الرفيعة فهذا هو الذي يُجلّ ويحترم، وتكون له الهيبة والمكانة في العيون والقلوب، ولو كان من أكثر الناس عصياناً لله وبعداً عن الخُلق القويم، وأما إذا كان من الفقراء الهزلىْ الذين لا يملكون المال الكثير والجاه العريض ولا الوظيفة الراقية فليست له مهابة ولا تقدير ولا هيبة، ولو كان من أتقى الناس وأصلحهم.
قال ابن الأحنف:
يمشي الفقيرُ وكلُّ شيء ضده *** والناس تغلق دونه أبوابَها
وتراه مبغوضًا وليس بمذنب *** ويَرى العداوة لا يرى أسبابَها
حتى الكلابُ اذا رأت ذا ثروة *** خضعتْ لديه وحرّكت أذنابَها
وإذا رأت يومًا فقيراً عابراً *** نبحت عليه وكشّرت أنيابها
وقال آخر:
إن الدراهم في المواطن كلها *** تكسو الرجالَ مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة *** وهي السلاح لمن أراد قتالا
وقال آخر:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها *** فكلما انقلبت يومًا به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت *** يومًا عليه بما لا يشتهي وثبوا
هذا النظر المتباين هو نظر أكثر الناس إلى الناس، بحيث يُنزلون كل إنسان حسب ما يملك لا حسب ما يعمل من الخير أو الشر، وهنا أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المشهد أن يربي الأمة على أن يكون نظرها بمنظار التقوى. فالرجل الأول لما كان من أشراف الناس بماله وجاهه فهو ذو مكانة بينهم بذلك، فإن خطب امرأة لا ترد خطبته؛ طمعًا في ماله وحسن حاله، وإن شفع شفاعة قبلت شفاعته؛ رغبة فيما عنده أو رهبة مما عنده، وإن تكلّم سمعوا لقوله، لا لفصاحته وحسن كلامه، ولكن لمكانته وحسن دنياه، بخلاف الرجل الآخر؛ فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: إن قدر كل إنسان بما يحمله من الصلاح والهدى والخلق الحسن، وليس قدره بماله أو جاهه أو وظيفته، وأراد أن يبين كذلك أن صلاح الحياة تكون بأمثال الرجل الثاني. قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).
أيها الإخوة الكرام: مشهد آخر يذكره لنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال: "إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة"، وفي رواية لأحمد في المسند: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ غصنًا فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها".
إنه تقريب بديع لتكفير الذنوب بهذه الكلمات العظيمة: "سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، كلمات فيها تنزيه الله والثناء عليه، وتوحيده وتعظيمه. إن الذنوب -معاشر المسلمين- بذر سيء، إذا لم يتداركه المسلم بالكفارات والحسنات الماحيات نبت شجره، وأينع ثمره، واشتد عوده، وتفرّعت أغصانه، لكن الله -تعالى- قد رزق العبد ما ينفض به ورق تلك الشجرة السيئة قبل أن يلاقي ربه عند حصاد العمر ومحاسبة الزرّاع فيما زرعوا، هذه الأشياء النافضة هي هذه الأذكار النافعة، وغيرها من مكفرات الذنوب؛ فانظروا إلى هذا الأسلوب الرفيع القريب في بيان الذنوب والمكفرات لها، فهناك شجرة، وهناك أغصان، وهناك نفض، وهناك نافض، وهناك سقوط في النهاية، وثمت نكتة لطيفة في هذا التشبيه البديع ألا وهي أن بعض الأوراق قد تكون عنيدة؛ فتحتاج إلى أكثر من ضربة حتى تسقط، وكذلك هناك معاصٍ كبيرة تفتقر إلى أكثر من مكفِّر وإلى استمرار المحو حتى تغفر.
عباد الله: وجاء في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال سعد بن عبادة: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غَيْرَ مُصْفَحٍ، فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، وفي رواية لمسلم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور"، وعند أحمد بسند حسن، قال بعض الأنصار: "يا رسول الله، لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها؛ من شدة غيرته".
ففي هذا المشهد يبدو سعد رضي الله عنه رجلاً غيوراً غيرة شديدة حتى إنه لو وجد رجلاً مع زوجته على حال مكروهة لن ينتظر حتى يأتي بالشهود، بل سيباشر الفاعل بالقتل؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بين أن غيرة سعد صفة كمال، ثم بين أن هناك من هو أغير منه وهو رسول الله وهناك أغير من رسول الله وهو الله -تعالى-، وغيرة الله اقتضت أن يحرم الفواحش على الناس ما ظهر منها وما خفي.
إن الغيرة -معشر المسلمين- إذا تجذرت في أخلاق الإنسان ولازمته فهي درع حصينة له ولأسرته وللمجتمع من الفواحش، ولكن عندما تضعف الغيرة وينكسر بابها في شخصية المرء فإن العفة والنزاهة تبدأ بالتسلل والخروج من شخصيته لتلج مكانها الدياثةُ والرضا بالفاحشة.
أيها المسلمون: مشهد آخر يحكي لنا مثالاً من أمثلة عزة النفس، ويعطينا صورة مؤثرة من صور تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحسن موعظته، عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر -رضي الله عنه- دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم -يا معشر المسلمين- على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه؛ فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي".
فتأملوا في هذا المشهد كيف وعظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكيمًا، بل كيف وعظ الأمة كلها، وانظروا أيضًا كيف استفاد حكيم من هذه الموعظة البليغة حتى مات. لقد سأل حكيم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مالاً المرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ومن حسن تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يقل له: أكثرت علي، أو لن أعطيك بعد ذلك، أو قسا عليه في الخطاب ومنعه المال، وإنما أعطاه هذه الكلمات المضيئة التي أصبحت نبراسًا له في طريق العزة، وقيداً وعظيًا يحول بينه وبين استعطاء غيره.
لقد وضح له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النفوس البشرية بطبيعتها متعلقة بالمال، غير أنه بين له أن لأخذه طريقين: طريقًا مذمومًا، وطريقًا محموداً، فالطريق المذموم هو أخذه بطمع وجشع، والطريق المحمود هو أخذه من غير تطلع وشره.
وبين له كذلك العاقبة لأخذه بالطريق الأولى وهي أنه ينتِج قلةَ البركة، وعدمَ القناعة به، حتى ولو كثر ويكون كالذي يأكل ولكن لا يشبع مهما أكل.
ثم بين له -عليه الصلاة والسلام- أن الشرف للإنسان أن يكون معطيًا لا أن يكون سائلاً فقال: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
فانظروا أثر هذه الموعظة في نفس حكيم، لقد بلغت هذه الكلمات المشرقة العميقة منه مبلغًا عظيمًا، بحيث عاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن لا يأخذ من أحد بعده شيئًا لا بسؤال ولا بغيره حتى يموت فوفى بعهده -رضي الله عنه- حتى مات.
أيها الأخوة الأفاضل: جاء في الصحيحين عن عمرو بن عوف: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء؟". قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".
فانظروا -أيها الأحبة- إلى هذا المشهد الذي فيه: حضور مال كثير، ومجيء ناس للحصول عليه لحاجتهم، وموعظة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه.
إن في هذا المشهد درسًا تربويًا وإيمانيًا رائعًا صدر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد أراد -عليه الصلاة والسلام- أن يربي الناس على أن الفقر مع الطاعة ليس مصيبة، إنما المصيبة أن يكون هناك غنى ترافقه المعصية، الذي يجعل أهله يعيشون من أجل التنافس على الدنيا مع نسيانهم الآخرة.
هنا رأينا قدوم الناس فرحين من أجل المال فأعطاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئين: شيئًا لأيديهم وهو المال، وشيئًا لقلوبهم وأرواحهم وهو الموعظة التي تضمنت التحذير من التنافس على الدنيا؛ لأن التنافس عليها يوصل أهله إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
أيها المسلمون: فما زلنا في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقرأ مشاهد الموعظة والعبرة؛ لنجتني منها دروس الإرشاد في مسيرة حياتنا.
مشهد جديد، ولكن هذه المرة في سوق من الأسواق يدخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس على جانبيه، فمر بجدي أسك -صغير الأذنين- ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم"؟ فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم"؟ قالوا: "والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
إنه درس إيماني بليغ من هذه الصورة، يكشف فيه عن حقيقة الدنيا، وأنها لا تستحق التنافس فيها واللهث وراءها، واللهف على فواتها؛ لأنها لا تساوي عند الله -تعالى- جناح بعوضة. إنما الشيء الذي يستحق أن يتنافس فيه، ويبذل من أجله الغالي والرخيص هو الجنة التي كملت نعيمًا ولذة وبقاء، قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64].
معشر المسلمين: ومن المشاهد المؤثرة التي تجعل المسلم يتعلق بالجنة مهما لقي في الدنيا من النعيم والترف ما جاء عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرقة من حرير فجعل القوم يتداولونها بينهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من هذا"؟ فقالوا له: نعم، يا رسول الله، قال: "والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا".
لقد نقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأذهان من هذا المشهد في الدنيا إلى الآخرة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فإذا كانوا يعجبون من لين ذلك الثوب الحريري وحسنه ونعومته، فكيف لو لمسوا ما أعده الله لعباده المؤمنين في الجنة ومنهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه-؛ ففي هذا درس للمؤمن أن يكون تعلقه بالدار الآخرة فيما يحس ويشاهد ويسمع.
أيها المسلمون: وبعد هذا نقول: إن عصرنا الحاضر يزخر بكثير من المشاهد المؤثرة التي لو تأملها الناس لكانت لهم من أسباب الهداية والاستقامة والتعلق بدار البقاء والزهد في دار الفناء، بل لقد تعددت وسائل نقل تلك المشاهد ووسائل إضافة نكهة التأثير عليها، وإذا كانت مشاهد النصوص أقوى تأثيراً على من حضرها في العصور الخالية؛ فإن لدينا في العصر الحاضر وسيلة يمكنها حفظ الصورة ونقلها إلى مشاهدين آخرين؛ ففي هذا العصر صارت الصورة الثابتة أو المتحركة هي لغة العصر المعبرة عما يجري فيه، وربما تكون صورة واحدة أبلغ في التأثير من ألف كلمة.
إن الصورة المشاهدة تغير بعض المفاهيم الخاطئة، وتحرك الإنسان الواقف عن الخير للحركة إليه، وتثبّت ما كان في الأذهان بعد رؤيته بالعيان، كما جرى هذا لذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وكما جرى كذلك لخليل الله إبراهيم -عليه السلام- حينما انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة:259]، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة:260].
ولكن نقول: إنه ومع كثرة الصور المؤثرة في هذا العصر إلا أن الاتعاظ قليل، وإن حصل فهو عند بعض الناس تأثر آني سرعان ما يذهب، دو أن يحرك إلى عمل صالح. وبالمقابل فهناك من أثرت فيهم صورة العصر الحاضر الثابتة أو المتحركة فنقلتهم إلى خير كثير؛ نسأل الله أن ينفعنا بالمواعظ الصامتة والمواعظ الناطقة ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وصلوا وسلموا على القدوة المهداة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم