وانتصف الشهر فهل نزيد بالعمل.. والعشر الأواخر

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ رمضان شهر القرآن 2/ فضل البكاء من خشية الله 3/ حالُ السلفِ الصالح مع القرآن في رمضان 4/ بكاء وخَشيةُ النبي الكريم وأصحابه5/ الطريق إلى رقة القلب 6/ العشرُ وليلةُ القدرِ والهدْيُ النبوي لاغتنامها

اقتباس

شهر رمضان قد انتصف، فمَن منا حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ مَن مِنَّا قام في هذا الشهر بِحَقِّه الذي عرف؟ مَن منَّا عزم قبل غلْقِ أبواب الجنة أن يبنيَ له فيها غرفاً من فوقها غُرَف؟ ألا إِنَّ شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكُلُّ شهرٍ عسى أن يكون منه خلَف، وأما شهر رمضان؛ فمِن أين لكم منه خلَف؟ ..

 

 

 

 

أيها الإخوة: شهرُ رمضان المبارك شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، في هذا الشهر تُقبِل نفوس المؤمنين على الطاعة، وترقُّ قلوبهم للموعظة، وشُرِعَت فيه صلاة التراويح ليسمع المؤمنون آيات كتاب الله فيه، ولسماع القرآن فيها تأثير كبير على النفس يختلف عن غيرها، خصوصاً إذا كانت التلاوة بصوت جميل متأثرٍ بما يتلوه فيها. 

وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: لِكثرة قراءة القرآن في رمضان مَزِيَّةٌ خاصَّة، وكان جبريل يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيداً وتثبيتاً.

وكان السلف الصالح -رضي الله عنهم- يُكْثِرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، وكان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان مالك -رحمه الله- إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس، العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف. اهـ.

أيها الأحبة: وشهر رمضان فرصة سانحة للَّحاق بركب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأبرار، الذين كان لهم من عبادة الله وخشيته والإنابة إليه أوفر الحظ والنصيب؛ وتبرز هذه الخشية في بكائهم من خشية الله، وهو أفضل البكاء وأصدقه، وأقوى دليل على القلوب الوجلة الخائفة. قال الله -تعالى- مثنياً على الباكين من خشيته: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:109].

وقال: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). [المائدة:83]، إلى أن قال: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:85].

وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمتصفين بالبكاء من خشية الله أعظم المنازل، ورتب لهم به أوفر الأجور، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قالَ: قال رسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ"، وذكر منهم: "ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" رواه البخاري ومسلم.

وعنه -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ" رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" رواه الترمذي، وصححه الألباني.

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ" رواه الترمذي، وصححه الألباني.

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" رواه الترمذي وصححه الألباني.

أيها الأحبة: إذا كان هذا فضل البكاء من خشية الله، فما حال سلفنا الصالح وإياه؟ لقد كان لهم في هذا الشأن القدح المعلى، وقصب السبق، ولهم فيه جميل الذكر، وحميدُ السمعة، ومقامهم يُشَيَّعُ بالحمد، ويُذَيَّلُ بالثناء، يَجْمُلُ في المجالس ذِكْرُه، ويَطيبُ في المحافلِ نشره، ويخلَّدُ في الصحائف حمده.

وسأذكر في عجالة من شأنهم شأناً، ومن فضلهم فضلاً، فخير مَن تعبد لله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عنه عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه-: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ". قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: "إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا). قَالَ: "حَسْبُكَ الآنَ!" فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" رواه البخاري ومسلم.

وكان -عليه الصلاة والسلام- يبكي في صلاة الليل، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ من البكاء". المرجل: القِدر الذي يغلي فيه الماء. رواه الترمذي في مختصر الشمائل، والبيهقي، وصححه الألباني.

وعن عبيد بن عمير -رضي الله عنه- أنه قال لعائشة -رضي الله عنها-: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فسكتَت، ثم قالت: لما كان ليلةٌ من الليالي قال: "يا عائشة، ذريني أتعبدُ الليلةَ لربي"، قلتُ: والله إني أحبُّ قربَك، وأحبُّ ما يسُرُّك! قالت: فقام فتطهرَ، ثم قام يصلي.

قالت: فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجْرَهُ. قالت: وكان جالساً فلم يزلْ يَبْكي -صلى الله عليه وسلم- حتى بَلَّ لِحْيَتًهُ. قالت: ثم بكى حتى بل الأرض.

فجاءَ بلالٌ يُؤْذِنُهُ بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي؟ وقد غفرَ اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: "أفلا أكونُ عبداً شَكورا؟ لقد نزلت عليَّ الليلَةَ آيةٌ، ويلٌ لمَنْ قرأَها ولم يتفكر فيها! (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران:190] رواه ابن حبان، وحسنه الألباني.

وكان بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- من جنس ضحكه، فلم يكن بشهيقٍ ورفعِ صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، فقد كانت عيناه تدمعان حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز.

أيها الإخوة: أما أصحابه -رضوان الله عليهم-: فيحدثنا عنهم أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- فيقُولَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ؛ فَخَطَبَ فَقَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرّ،ِ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا!".

قَالَ: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. رواه مسلم. والخنين صوت البكاء.

وعن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رضي الله عنه- قال: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني.

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ". قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ؛ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ. رواه البخاري. أسيف: من الأسف، وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب، سريع البكاء.

وعَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنهمَا- أَنَّهُ: ابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَتَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ويَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. رواه البيهقي في شعب الإيمان.

وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-، فَاسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَعَسَلٌ فَأَدْنَاهُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ نَحَّاهُ وَبَكَى حَتَّى بَكَى أَصْحَابُهُ فَسَكَتُوا وَمَا سَكَتَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟.

قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَأَيْتُهُ يَدْفَعُ عَنْهُ شَيْئًا لَمْ أُبْصِرْ أَحَدًا مَعَهُ، وهوَ يَقُولُ بِيَدِهِ: إِلَيْكِ عَنْيِ! إِلَيْكِ عَنْيِ! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الَّذِي تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ وَلَا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا؟ قَالَ: "هَذِهِ الدُّنْيَا تَمَثَّلَتْ لِي، وَحَنَتْ ظَهْرَهَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَيْكِ عَنِّي! فَقَالَتْ: أَمَا وَاللهِ لَئِنْ نَجَوْتَ مِنِّي لَا يَنْجُو مِنِّي مَنْ بَعْدَكَ"، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَخَشِيتُ أَنْ تَلْحَقَنِي، هَذَا الَّذِي أَبْكَانِي" رواه البيهقي بالشعب، والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وصلى عمر بالناس يوماً صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأ، حتى إذا بلغ: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84] بكى حتى انقطع فركع.

وعن عَبْد اللهِ بْن شَدَّادِ قال: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَأُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ قَالَ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف:86] رواه البيهقي في شعب الإيمان.

وهذا عمر بن الخطاب كان في وجهه خطان أسودان من البكاء؛ وكان عثمان -رضي الله عنه- إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته. وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه؛ فما بعده أشد منه".

وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيتُ منظراً قط إلاّ والقبر أفظع منه" حسن هذه الألفاظ الألباني.

وهذا علي بن أبي طالب: لما رأى الناس في آخر حياته انصرفوا إلى الدنيا صلى الفجر وجلس حزيناً مطرقاً؛ فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وبدأ يبكى؛ ويذكر أصحاب رسول الله وعبادتهم. وما رُئِي بعدها مبتسما حتى لحق بربه.

أيها الأحبة: ما الطريق إلى رقة القلب؟ ذكر أهل العلم طرقاً كثيرة، أذكر منها: قراءة القرآن بتدبر، قراءة يتواطأ فيها القلب مع اللسان، مع اختيار الوقت المناسب، والمكان المناسب؛ وهذا له أعظم الأثر في جلب البكاء من خشية الله.

قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "البكاء مستحب مع قراءة القرآن وعندها، وطريقة تحصيله أن يحضر قلبه بأن يتأملَ ما فيه من التهديدِ والوعيدِ الشديدِ، والمواثيقِ والعهودِ، ثم يتأملَ تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزنٌ وبكاءٌ كما يحضر أرباب القلوب الصافية فلْيَبْكِ على فَقْدِه، فإن ذلك أعظم المصائب!".

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: شهر رمضان قد انتصف، فمَن منا حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ مَن مِنَّا قام في هذا الشهر بِحَقِّه الذي عرف؟ مَن منَّا عزم قبل غلْقِ أبواب الجنة أن يبنيَ له فيها غرفاً من فوقها غُرَف؟ ألا إِنَّ شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكُلُّ شهرٍ عسى أن يكون منه خلَف، وأما شهر رمضان؛ فمِن أين لكم منه خلَف؟.

تَنَصَّفَ الشهرُ وا لهفاهُ وانهدما *** واختصَّ بالفوزِ بالجناتِ مَن خَدَمَا
وأصبحَ الغافلُ المسكينُ منكَسِرَاً *** مِثْلِي فيا ويحَهُ! يا عُظْمَ ما حُرما
من فاته الزرعُ في وقت البذارِ فما *** تراه يحصدُ إلا الهمَ والندما
طوبي لمن كانت التقوى بضاعتَه *** في شهرِه وبحبلِ اللهِ مُعْتَصِمَا

أحبتي: هاهي العشر الأواخر من شهرنا قد أقبلت، عشر فضّلها الله وخصها بليلة القدر، ليلة كثيرة الخيرات، شريفة القدر، عميقة الفضل، متنوعة البركات، قد فخّم الله شأنها، وعظم مقدارها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]، أي: تعادل مِن فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمةِ الضعيفةِ القوة والقوى، بليلةٍ يكون العمل فيها يقابلُ ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمَّرٍ عمُرًا طويلا، نيفًا وثمانين سنة.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:4-5].
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)، أي: يكثر نزولهم فيها (مِنْ كُلِّ أَمْر * سَلامٌ هِيَ) أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي: مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.

وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.

ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف، ويُكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر.

أيها الأحبة: سوق التقرب إلى الله في هذه الأيام قد راجت، وأبواب عطائه قد فتحت، فهلَّا وَلَجْنَا، ولبابه قرَعنا، ومن هموم الدنيا تجردنا، وللكسل والخمول طرحنا، ولعظيم جوده تعرَّضْنا؟!.

اللهم وفقنا لاستثمار الأوقات، وأعِذْنا من العجز والكسل، وأعِنَّا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك...

 

 

 

 

 

المرفقات

الشهر فهل نزيد بالعمل.. والعشر الأواخر1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات