وانتصف الشهر

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-23 - 1432/03/20
التصنيفات: التربية رمضان
عناصر الخطبة
1/ ضرورة اغتنام بقية الشهر 2/ جهاد الليل بالقيام وجهاد النهار بالصيام 3/ لماذا نخسر رمضان؟! 4/ الغفلة عن النية وعدم احتساب الأجر 5/ إهمال الصلوات الخمس 6/ السهر 7/ كثرة الأكل في رمضان 8/ كثرة النوم والخمول والكسل 9/ التسويف

اقتباس

إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا -عز وجل- ويباعدنا عن عذابه، ولنستيقظ من غفلتنا، ولنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات...

 

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: فإن شهر رمضان قد انتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟! وهل فينا من قام فيه بما عرف؟! وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟! أيها المحسن فيما مضى منه: دم على طاعتك وإحسانك، وأيها المسيء: وبخ نفسك على التفريط ولمها، إذا خسرنا في هذا الشهر متى نربح؟! وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد فمتى سنبرح؟!

فلنستدرك باقي الشهر -عباد الله- فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، نعم إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟! أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها فيما لا يعود علينا بكبير فائدة، بل قد يباعدنا عن الله تعالى وعن مرضاته، ويقربنا مما يسخطه والعياذ بالله؟!

فالعجب لنا، نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع أوقاتنا فيما لا يزيدنا إلا بعدًا عن الله، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضمنا دخول الجنات، إلى متى نرضى بالنـزول في منازل الهوان؟! هل مضى من أيامنا يوم صالح سلمنا فيه من المعاصي والآثام؟! تالله لقد سبق المتقون الرابحون، ونحن راضون بالخسران، أعيننا مطلقة في الحرام وألسنتنا منبسطة في الآثام، ولأقدامنا على الذنوب إقدام، ونغفل أن الكل مثبت عند الملك الديّان.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".

عباد الله: إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا -عز وجل- ويباعدنا عن عذابه، ولنستيقظ من غفلتنا، ولنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات، ولنتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". وقوله أيضًا: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".

فمن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار، فما عليه إلا استغلال وقته وصحته وماله في هذا الشهر المبارك خاصة، في طاعة الله تعالى والتقرب إليه، فلعل الواحد منا يكون هذا الشهر آخر رمضان يعيشه، فيكون ممّن أعتق فيه من النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

فاتقوا الله -عباد الله- واجتهدوا في الأعمال الصالحة في بقية شهركم، وكم من الناس حتى يومنا هذا لم يستفد من شهر رمضان، قد ضيع نهاره في النوم ولياليه في السهَر المحرّم، حتى متى يعيش الإنسان للذاته وشهواته، وحتى متى يسير في طريق النار ومع ركب إبليس؟! ألا ينـزجر هذا المسكين، ألا يصحو من سبات الغفلة وضياع العمر؟! أما يعلم المفرط في الطاعة أن شهر رمضان شهر مليء بأسباب المغفرة، فمن فرّط في هذه الأسباب كان محرومًا غاية الحرمان.

فيا من تريد العتق من النار ومغفرة الذنوب ورضا الرحمن: ينبغي لك أن تأتي بأسباب توجب لك الرحمة والمغفرة والعتق من النار، من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإطعامهم والصدقة والاستغفار وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وقد ورد في الترمذي وغيره بسند صحيح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة". ماذا فات من فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟!

أيها المسلمون: اعلموا أن المؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين، ووفى بحقوقهما وصبر عليهما، وفي أجره بغير حساب، وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان".

فيا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، ويا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، أيا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان: كيف ترجو من خصمك الشفاعة؟! يا من تكاسلت عن القيام بواجب الطاعة في أول الشهر: لا تكن من المحرومين، ففي الوقت فسحة وفي الشهر بقية، هل لك الآن أن تبادر وتستقبل بقية الشهر أم تزيد أن تكون من المحرومين؟!

أيها العبد الفقير إلى ربك: لو عرفت قدر نفسك ما أمرضتها بالمعاصي؛ لأنك أنت المختار من المخلوقات ولك أعدت الجنة، إن اتقيت وعملت صالحًا، فهي إنما أعدت للمتقين، فكيف ترضى أن تكون من أتباع إبليس، وأن تكون معه في النار غدًا من جملة أتباعه، وإنما طرد اللعين عن الجنة من أجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، ثم بعد ذلك ترضى لنفسك أن تكون من حزبه، وإنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19].

تنصف الشهر وا لهفاه وانهمرا *** واختص بالفوز بالجنات من حزما
وأصحب الغافل المسكين منكسرا *** مثلي فيا ويحه يا عظيم ما حرما
من فاته الزرع في وقت النذار فما *** تراه يحصد إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شهره وبحبل الله معتصما

فيا قوم: آلا خاطبٌ في هذا الشهر إلى الرحمن؟! ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟! ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان؟!

أيها المسلمون: ما أشبه الليلة بالبارحة! بالأمس كنا نستقبل رمضان، وها نحن نودع أسبوعين كاملين مضيا بما فيهما من الطاعات والأعمال الصالحة من صيام وقيام وتلاوة قرآن، وها هي أيامه الجميلة ولياليه الطاهرة تمشي الهوينا لكي تطوي علينا هذا الشهر المبارك.

أيها المسلمون: إنه -والله- من العجيب أن نرى أناسًا ليس لهم همّ في هذه الدنيا إلا تضييع الأوقات في اللهو والغفلة، تمر عليهم المواسم والفرص ولا يحرصون على استغلالها في طاعة الله، انظروا مثلاً للناس في صلاة العشاء، يملؤون المسجد، حتى إذا فرغوا من صلاة العشاء خرجوا من المسجد بحيث إنهم لا يفكرون مجرد تفكير يتبعه عمل في صلاة التراويح، ويحرمون أنفسهم أجر مغفرة الذنوب، وكأن الدنيا فائتة وسوف تذهب عليهم؛ فلماذا العجلة إذًا؟!

والبعض يفرط أصلاً في صلاة الجماعة حتى في رمضان، وهذا يعرّض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، والبعض لا يصون صومه عن الكذب والغيبة والنميمة والغش وسماع الأغاني والموسيقى وغير ذلك من الأعمال التي تخدش أجر الصوم؛ قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".

فنسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًّا...

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: إن لشهر رمضان طعمًا خاصًّا وحديثًا يجلي القلوب ومحبة خاصة، وشعورًا غريبًا لا يشعر به إلا المحبون الراغبون في هذا الشهر وما فيه من الخير العظيم، وكأني بأولئك المؤمنين يطلقون العبرات والزفرات والدعوات، لعلهم أن يكونوا من عتقاء هذا الشهر، وممن يمتن الله عليهم بصيامه وقيامه، إن قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحنّ، ومن ألم فراقه تئنّ.

وما ضاع من أيامنا هل يقوَّم *** فهيهاتَ والأزمانُ كيف تقوم
ويومٌ بأرواحٍ يباع ويشترى *** وأيام وقت لا تسام بدرهم

لماذا نخسر رمضان؟! كلنا بحاجة إلى أن يسأل نفسه: لماذا نخسر رمضان؟! ألم نعلم فضائله ومزاياه؟! ألم نعلم أنه شهر عظيم، شهر التوبة والمغفرة ومحو السيئات، وشهر العتق من النيران، موسم الخيرات، وفرصة لا تعوض، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، فما بالنا، أحقًّا من خسر رمضان يجهل هذه الفضائل أم يتجاهل؟!

إن الخسارة في هذا الشهر تتفاوت من إنسان لآخر، فهناك من كسب أرباحًا طائلة لا تعد ولا تحصى في هذا الشهر، ووالله إنه لهو السعيد، فليشكر الله فإنه فضل من الله ومنة: (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسرِينَ) [البقرة: 64]، وهناك من خسر خسرانًا مبينًا: (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَـانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً) [النساء: 119]، وهناك من كان بَينَ بَين، فتارة يخسر وتارة يربح: (وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 102].

كيف يُخسر رمضان؟! وما هي أسباب خسرانه؟!

أولاً: الغفلة عن النية وعدم احتساب الأجر: فاعلم أنك ما تركت الطعام والشراب وابتعدت عن المعاصي والشهوات إلا لله وحده؛ طلبًا لرضاه واستجابة لأمره، لا يهمنّك أحد من الناس علم أم لم يعلم، فصومك لله وخوفك لله، ولهذه المعاني الجميلة قال الله في الحديث القدسي: "إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي". إذًا فالصيام عبادة خفية بينك وبين الله، لا يعلم بها إلا الله، فقد تشرب وتأكل لا يعلم بك أحد من الناس، ولكن (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، فمن صام بهذه المعاني وجد حلاوة الصيام وشعر بلذة رمضان فأقدم على الأعمال الصالحة أيما إقدام.

ثانيًا: من أسباب خسران رمضان: إهمال الصلوات الخمس: وتأخيرها عن وقتها وأداؤها بكسل وخمول، وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات، فكيف يرجى منه النوافل، بل كيف يرجى منه استغلال رمضان، ربما صلى الرجل في آخر الوقت، ينقر الصلاة نقر الغراب، فكيف لمن كان هذا حاله أن يستغل رمضان في طاعة الله والفوز فيه، بل هذا يُخشى على صيامه أن لا يقبل والعياذ بالله.

ثالثًا: من الأسباب: السهر: وهو من أعظم خسارة رمضان، وكيف يرجى لمن سهر طوال الليل أن يفوز برمضان، والسهر -عباد الله- مكروه إن كان على مباح، فكيف بمن سهر على حرام؟! وأكثر الناس اليوم يجلسون طوال الليل مع الأقارب أو مع الأصحاب، وتذهب الساعات بالقيل والقال وتتبع القنوات الفضائية، وربما جلسوا حتى وقت السحر لم يقرؤوا حرفًا من كتاب الله، أليست خسارة أن تضيع هذه الساعات الطوال من رمضان في كل ليلة بمثل هذا؟!

رابعًا: كثرة الأكل في رمضان: وهذا فيه من الخسارة ما الله به عليم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". رواه الترمذي.

خامسًا: كثرة النوم والخمول والكسل: وهو حصيلة أكيدة لكثرة الأكل والسهر، ولو نام العبد في الليل ساعات لجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله ويقرأ القرآن، وأصبح طوال نهاره طيب النفس نشيط.

سادسًا: التسويف: وقد قطع هذا المرض أعمارنا حتى في أفضل الأيام والشهور، حتى ونحن نعلم أننا قد لا ندرك رمضانًا آخر، حتى ونحن نعلم أن رمضان شهر المغفرة والتوبة، حتى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وزيادة، لم تسلم من التسويف، فلا حول ولا قوة إلا بالله. خذ مثالاً على التسويف في رمضان: قراءة القرآن: يريد الرجل أن يقرأ بعد صلاة الفجر ولكنه متعب من السهر، ثم بعد الظهر ولكنه مرهق من العمل، ثم بعد العصر ولكنه يشترى حاجيات البيت، وربما في الليل لكنه مع الأقارب أو مع الرفاق، وهكذا فينسلخ رمضان ولم يستطع أن يختم المصحف ولو مرة واحدة، فمسكين هذا العبد، لذلك كان التسويف من أعظم أسباب خسارة رمضان، إنه لمن الخسارة والحرمان أن تمر هذه الليالي المباركة على الإنسان وهو يسرح ومرح.

قل للذي ألِف الذنوب وأجرما *** وغدا على زلاته متندمًا
لا تيأسن واطلب كريمًا دائمًا *** يولي الجميل تفضلاً وتكرمًا
يا أيها العبد المسيء إلى متى *** تفني زمانك في عسى ولربما؟!
بادر إلى مولاك يا من عمره *** قد ضاع في عصيانه وتصرما

فاللهم أرنا الحق حقًّا ورزقنا اتباعه...
 

 

 

  

المرفقات

الشهر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات