والعافين عن الناس

عبدالله بن عمر السحيباني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/بعض صنوف الأذى في الحياة 2/الحث على العفو وفضله 3/مواقف فريدة في عفو النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/بعض الوسائل المعينة على العفو

اقتباس

العفو عن الناس دليل كمال الرجولة والمروءة، وعنوان سلامة الصدر من الغش والحقد والحسد والضغينة، والانتصار للنفس والتشفي والانتقام دليل ضعف النفس، وحب الذات والغلظة والفضاضة، وقسوة القلب، وضيق العطن؛ فالمنتقم...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكريم الودود، والملك المعبود، المعروف بالعفو والكرم والجود، أحمده سبحانه على ما اتصف به من صفات الجلال والإكرام، وأشكره على ما أسداه من جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-؛ فإن التقوى سعادةٌ في الدنيا وفلاح في الأخرى.

 

أيها الإخوة: إن كل أحد منا في حياته الاجتماعية يتعرض ولا بد لإساءات متكررة متنوعة، واصطدام وخصام ممن حوله؛ فهذا يرمي كلمة نابية حمقاء، وذاك يبدي شراً وسوءاً، وآخر يطعن في عرض، ورابع يلمز بنظرات كشرر النار المحرقة، وخامس يقابلك بجبين عبوس مكفهر مظلم، يتنوع الأذى على الإنسان ويكثر بحسب كثرة المخالطة، وفي الحديث الصحيح: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

 

وفي بعض الأذى جروح غائرة عميقة كعمق البحار، لكن الناس يتفاوَتون في الصبر والتحمل، وفي مكارِم الأخلاقِ ومقاماتِ الإحسان.

 

ولقد جعل ديننا مقام العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة من أفضل الأخلاق، حتى قال بعضهم: "العفو عن الناس أفضل أخلاق أهلِ الدنيا والآخرة".

 

وحث الدين على إحسان الظن، وطيب النفس، وسلامة الصدر، وقبول الاعتذار ممن أخطأ، وإقالة العثرات، وكظم الغيظ في آيات كثيرة، وأحاديث مشهورة؛ ذلكم أن دينكم دين عظيم يربي المسلمين على الترفع عن العداوات والضغائن والصفات الرذيلة.

 

ولقد جعل الله -تعالى- خلق العفو من صفات المؤمنين المتقين، فقال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133-134].

 

العفو عن الناس أقرب إلى التقوى: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[البقرة: 237].

 

العفو عن الناس ومغفرة أخطائهم سبيل أهل الإيمان والصلاح: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37].

 

وهو دليل العقل والحلم والهدوء ورباطة الجأش والشجاعة: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى: 43].

 

العفو والصفح سبب لمغفرة المولى ورحمته، ألم يقل الله -سبحانه-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النور: 22]؟ ألم يقل: (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[التغابن: 14]، ألم يقل سبحانه: (إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)[النساء: 149]؟

 

وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب بسند جيد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".

 

أيها الإخوة: ربما أفنى الإنسان عمره طالباً لمغفرة الله ورحمته فها هي المغفرة من الله والعفو تأتيك بأسهل طريق، فمن أحب أن يغفر الله له فليغفر للناس، ومن أحب أن يعفو الله عنه فليعف عن الناس، والجزاء من جنس العمل.

 

العفو عن الناس إحسان والله يحب المحسنين: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة: 13]، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134].

 

العَفو عن الناس توفيق وحظ يهبه الله لمن يشاء: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34-35].

 

لا يبلُغُ المَجـدَ أقوامٌ وإن كرُمُـوا *** حتى يذِلُّوا وإن عَـزُّوا لأقـوامِ

ويُشتمـوا فترَى الألوانَ مُسفـرةً *** لا صَفحَ ذُلٍّ ولكن صفح أحلام

 

جاء رجلٌ إلى النبي فقال: "يا رسولَ الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمَت، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصمَت، فلمّا كان في الثالثة قال: "اعفُ عنه كلَّ يومٍ سبعين مرّة"(أخرجه أبو داود والتّرمذيّ بسند صحيح).

 

العفو عن الناس دليل كمال الرجولة والمروءة، وعنوان سلامة الصدر من الغش والحقد والحسد والضغينة، والانتصار للنفس والتشفي والانتقام دليل ضعف النفس، وحب الذات والغلظة والفضاضة، وقسوة القلب وضيق العطن، فالمنتقم عدو عقله، يغضب لأتفه سبب، ويجلب لنفسه العداوات والكدر، والاضطراب والقلق، بل والوهن في جسده وقد قيل: "في إغضائِك راحةُ أَعضائِك".

 

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ *** أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ *** لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ

وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ *** كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ

النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ *** وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ

 

إن العفو عن الناس شيمة العقلاء، ولذلك فهي ترفع الإنسان في الدنيا والآخرة، ألم يقل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه"(رواه مسلم)؟

 

العفو عن الناس عند المقدرة إنما يفعله من آثار الآخرة على الفانية، وعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة خير وأبقى، وأن ما عند الله أعظم أجرا: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى: 40].

 

ويكون العفو واجباً في حق من له حق كالقرابة والجيران، فإن استدامة المشاحنة مع هؤلاء قد تؤدي إلى الظلم في الهجر والقطيعة المحرمة.

 

أيها الإخوة: أما نبينا وإمامنا -صلوات الله وسلامه عليه- فقد كان مثالاً وقدوة في تسامحه وعفوه، وغض طرفه عمن أخطأ في حق، عن ابن مسعود قال: "كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(متفق عليه).

 

ولما خاض مِسطح بن أثاثة فيما خاض فيه من حادثة الإفك، وأنزل الله براءة عائشة -رضي الله عنها، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق على مسطح لقرابته وفقره، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النـور: 22] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا"(رواه البخاري ومسلم).

 

الله أكبر بهذا -والله- سبق أبو بكر الصديق أمة محمد، هذا رجل يتكلم ويخوض في عرضه، ثم هو يعفو عنه ويسامحه، بل وينفق عليه، ويحلف أن لا يقطع النفقة عنه، كل ذلك رجاء لما عند الله، ومحبة لعفو الله ورحمته، إنها نماذج من القلوب الطاهرة الصافية التي تربت على الدين الحق، ولامست آيات القرآن قلوبهم قبل آذانهم.

 

ونظرت إلى ما عند الله، وعلمت أنه خير وأبقى، قال الحسن بنُ علي -رضي الله تعالى عنهما-: "لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه"، وقال جعفرُ الصادِق -رحمه الله-: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة".

 

سامحْ أخاك إذا خَلَطْ *** منه الإِصَابةَ بالغَلَطْ

وتَجَافَ عن تَعْنِيفِهِ *** إنْ زاغ يوماً أو قَسَطْ

واعْلَمْ بأنَّك إن طَلَبْـ *** ـتَ مُهذَّباً رُمْتَ الشَّطَطْ

ولو انْتَقَدْتَ بني الزَّمَا *** نِ وَجَدْتَ أكْثَرَهُمْ سَقَط

مَنْ ذَا الذي ما سَاءَ قَطْ *** ومَنْ له الحُسْنَى فَقَطْ

 

جعلني الله وإيّاكم من أهلِ العفوِ والإحسان والصفح والغفران، وعفا عنا جميعًا بمنّه وكرمه وهو العفو الغفور الكريم المنان.

 

أقول ما تسمعون...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أخي الكريم: هل تريد ما يعينك على العفو عن الناس؟

 

تذكر دائماً تفريطك وتقصيرك في جنب الله -تعالى-، تذكر كثرة ذنوبك، وتذكر ستر الله عليك، ومحبتك لعفوه عنك ومغفرته لك، تذكر أن الجزاء من جنس العمل: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النـور: 22].

 

بل تذكر أن أجرك عند العفو على الله الكريم -سبحانه-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى: 40]، وفي هذا ما يهيج على العفو، ويرغب فيه.

 

أخي المبارك: إنه ينبغي لكل أحد أن يكون له نصيب من العمل بهذه الهدايات، وأن لا يكون نصيبه السماع وإقامة الحجة عليه، فالله -سبحانه- أنزل هذا القرآن موعظة وذكرى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].

 

وأمرنا الله -سبحانه- بمجاهدة أنفسنا، ووعدنا العون والهداية: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].

 

فالنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وهي ميالة للانتقام ومحبة للانتصار، لا يسلم من شر نفسه إلا من سلمه الله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35].

 

المرفقات

والعافين عن الناس

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات