عناصر الخطبة
1/تكالب الأعداء على أمة الإسلام 2/من مظاهر استهداف العدو لأمة الإسلام 3/العبرة بما أصاب فئام من الأمة بالفتن 4/العبرة بحفظ الله بلاد الحرمين بتطبيقها شرع الله 5/أهمية الحفاظ على أمن بلاد الحرميناقتباس
التكالُبُ على أمة الإسلام ودِيارِها لا يخفَى، مُخطَّطاتٌ تُحاكُ ضدَّ الأمة وشعوبِها، وقرارِها واستِقرارها، واجتِماع كلمتِها واستِقلالِها. بين عوامِل اليأس والإحباط والاستِعجال تعملُ الأيدي الخفيَّة لإضعافِ الأمة وتقطيعِها وتمزيقِها وتقسيمِها. ولقد استخدمَ هؤلاء الأعداء وسائلَ شتَّى لشقِّ الصفِّ، وإحداثِ الفتن، وزرع اليأس، ونَزع الثِّقَة.. ذلكم -عباد الله- أن مُشكِلات أبناء هذا العصر: ما تزخَرُ به...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله عمَّت رحمتُه كلَّ شيءٍ ووسِعَت، وذلَّت لعزَّته الرِّقاب وخضَعَت، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه تمَّت آلاؤُه على عباده وتتابَعَت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصةً أدَّخِرُها ليومٍ تذهلُ فيه كل مُرضعةٍ عما أرضعَت، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاهَدَ في الله حقَّ جهاده حتى انتشَرَت أعلامُ الملَّة وارتفَعَت، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى عِترتِه الطيبين الطاهرين بنسبِه شرُفَت، وعلى صحابتِه الغُرِّ الميامين على هديِه سارَت ولدينِه نشرَت، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما أشرَقَت شمسٌ وغرَبَت، وظهرَت نجومٌ وأفَلَت، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا الله -رحمكم الله-، فتقوى الله خيرُ زاد، وهي بتوفيق الله حارسٌ لا ينام، من استغنَى زانَتْه، ومن افتقَرَ صبَّرَتْه، ومن ابتُلِي حفِظَته.
يا عبد الله: اتَّبِع ولا تبتدِع، واقتدِ ولا تبتدِئ، لن يضِلَّ من تمسَّك بالأثر، وأن تكون تابِعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشرِّ؛ إن لم تنفع أخاكَ فلا تضُرَّه، وإن لم تُفرِحه فلا تغُمَّه، وإن لم تُثنِ عليه فلا تذُمَّه.
المرءُ لا يُعابُ بخَلْقِه وإنما يُعابُ بخُلُقِه، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التغابن:16].
معاشر المسلمين: في ابتِداءِ عامٍ وانتِهاءِ آخر يحسُنُ التأمُّل، ويُطلَبُ التدبُّر، ويُقرأُ ما يخُطُّه التاريخ.
إن وقفةَ الصدق مع النفس ومع الأمة تقتضِي المُصارَحَة في المُحاسَبَة ولو بغليظٍ من القول؛ فإن الدواء مُرٌّ. كيف هي عزَّةُ النفوس؟! وكيف هو اجتماعُ القلوب؟! وما هي أحوالُ الأمة؟!
معاشر الإخوة: التكالُبُ على أمة الإسلام ودِيارِها لا يخفَى، مُخطَّطاتٌ تُحاكُ ضدَّ الأمة وشعوبِها، وقرارِها واستِقرارها، واجتِماع كلمتِها واستِقلالِها. بين عوامِل اليأس والإحباط والاستِعجال تعملُ الأيدي الخفيَّة لإضعافِ الأمة وتقطيعِها وتمزيقِها وتقسيمِها.
ولقد استخدمَ هؤلاء الأعداء وسائلَ شتَّى لشقِّ الصفِّ، وإحداثِ الفتن، وزرع اليأس، ونَزع الثِّقَة .. ذلكم -عباد الله- أن مُشكِلات أبناء هذا العصر: ما تزخَرُ به وسائلُ الاتصال وأدوات التواصُل من سَيل المعلومات الهادِرِ المُتدفِّق، لا تمييزَ فيه بين مُحقٍّ ومُبطِل، ولا صادقٍ ولا كاذب، ولا غاشٍّ ولا ناصِح.
فسَرَيانُ المعلومات أسرعُ من النار في الهَشيم، مما يُوجِبُ أخذَ الحذَر والحَيطَة. ناهِيكُم عن المواقع المُنظَّمة التي تتفنَّنُ في تأليبِ الشعوب، ونشر الاضطِراب، وزرع الفتن.
معاشر الأحبَّة: إن من مظاهر استِهداف العدوِّ لأمة الإسلام وشعوبِها: هذا التوظيف السيِّئ لوسائل التواصُل والمواقِع، وبثَّ الشائِعات بأنواعها وألوانها، كاذِبِها ومغشُوشِها، والتهجُّم على البلاد ومُكتسَبَاتها ورموزِها وقياداتها، وهزَّ ثوابتِها، ونزعَ الثقةِ من رِجالاتِها، من العلماء الراسِخين، والسَّاسَة الصادِقين، والوطنيِّين المُخلِصين.
يتصيَّدون الأخطاء، وينشُرون العثَرات، ويغمِطون الحقوق، ويُخفُون الإنجازات. في مقالاتٍ وتغريداتٍ، وتعليقات غايتُها التأليب، وهدفُها التشويش، وكفَى بالمرء إثمًا أن يُرسِل وينشُر كلَّ ما وصلَ إليه من غير روِيَّةٍ ولا تثبُّت.
ثم ناهِيكم ببعضِ التعليقَات الساخِرة التي يُظنُّ أن المقصودَ بها مُجرَّد الإضحاك والتسلِية، وهي تعملُ عملَها في زعزعَة النفوس، وهزِّ القناعات، واضطِراب الرُّؤى.
ليعلَم أبناءُ العصر وبناتُه أن مثلَ هذه المقالات والتعليقات والتغريدات -وإن لبِسَ بعضُها لَبُوسَ الإضحاك والدُّعابة، أو التعليق العابِر- فهي أسرعُ الوسائل في التشويشِ على الفِكر، والتلبيسِ على الرؤية في حربٍ إعلاميَّةٍ ونفسيَّةٍ لتدمير النفوس، والنَّيل من المبادئ، والمِساس بالثوابِت، والسُّخرية من التقاليد الحسنة والعوائِد الكريمة.
ثم ناهِيكم بعد ذلك أن كثيرًا مما يتداوَلُه هؤلاء المُستهدَفون الأغرار لا يمَسُّ شأنَهم من قريبٍ ولا من بعيدٍ، فغالبُه في دوائِر أهل الشأن من العلماء والسَّاسَة والخُبراء والمُتخصِّصين.
وقد جاء في كتاب الله العزيز الإرشادُ للتعامُل مع مثلِ هذا، فقال -عزَّ شأنُه-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83]؛ فأين هؤلاء من هؤلاء؟!
معاشر المسلمين .. أبناء الإسلام: وإن أقربَ طريقٍ للمعرفة والإدراك: أخذُ العِبرة، وسُلوك مسالِك الاعتِبار، كما أرشدَ إلى ذلك القرآنُ الكريم في قولِه -عزَّ شأنُه-: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر:2]، وقولِه -جل وعلا-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف:111].
وهاتان -وفَّقكم الله وحفِظَكم- وقفتان، لعلَّ فيهما من الاعتِبار ما يُوقِظ، ومن التأمُّل ما يُذكِّر:
أما الأولى: فالنظرُ في أحوال إخواننا الذين ابتُلوا بهذه الفتن، فصارَت دِيارُهم مسرحًا لسفكِ الدماء، وتشريدِ الأُسَر، وضياع الثَّرَوات، واضطِرابِ الأحوال.
لقد ظنُّوا أن حياتَهم ستكون أفضلَ حالاً، وأكثرَ رخاءً، وأرغَدَ عيشًا، وما شغَبَ قومٌ على أهلِيهم ووُلاتهم إلا تجرَّعوا الوَيلات، ووقَعوا في المُوبِقات. لقد أدرَكوا وأدرَكتم أن في الفتن يُفقَدُ الأمن، وتُسفَكُ الدماء، وتُهتَكُ الأعراض، وترخُصُ الحياة.
نسألُ اللهَ أن يكشِفَ كربَهم، اللهم اكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم، واكبِت عدوَّهم، واحفَظهم، وأعِد إليهم اجتماعَهم وأمنَهم واستِقرارَهم، واجمع كلمتَهم على الحقِّ والهُدى، إنك سميعٌ مُجيب، اللهم وأبدِل خوفَهم أمنًا.
أما الوقفةُ الثانية: فهي مع هذه البلاد المُباركة، البلاد الطاهِرة: بلاد الحرمَين الشريفَين، أرض المُقدَّسات، أطهَر أرضٍ، وأشرَف البِقاع على وجهِ الدنيا، بلد التوحيد والوحدة، بلدٌ جمعَ الله شملَه، وأنعمَ الله على أهلِه والمُقيمين فيه، والوافِدين عليه، أغناهم من بعد عَيْلة، وجمعَهم من بعد فُرقة، وعلَّمَهم من بعد جهلٍ، والناسُ من حولِهم يُتخطَّفُون.
بلادٌ تُحكِّمُ شرعَ الله، وتُقامُ فيها حدودُ الله، الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر فيها قائِم .. مساجِدُها معمورة، وتُغلَقُ الأسواقُ من أجل إقامة الصلوات .. جعلَت الشريعةَ مِنهاجَها .. والحاكِمةَ على جميع أنظمتِها.
تُمنعُ فيها المُسكِرات، ويُعاقَبُ من يتعاطاها فضلاً عمَّن يُروِّجُها.
بلادٌ تحتضِنُ مُقدَّسات المُسلمين، وتتشرَّفُ برِعايتِها وخِدمتِها وخدمةِ قاصِديها، حُجَّاجًا وعُمَّارًا وزُوَّارًا.
ليس فيها كنائِسُ ولا معابِد .. ولا تُنكَّسُ رايتُها حين تُنكَّسُ الرايات .. فيها مولدُ المُصطفى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وفيها مبعثُه، ومُهاجَرُه، ومُتنزَّلُ وحي الله، وإليها يأرِزُ الإيمان .. استنارَت بالعقل والعلمِ والتوحيدِ وصفاءِ العقيدة.
كم تحقَّق فيها من النفع العظيم؛ من إحياء السنَّة، وإماتَة البِدعة، وبُعد الخُرافة، ومحو مظاهر التعلُّق بغير الله، والذي يصِلُ في بعضِ أحوالِه وصُورِه إلى الشركِ بالله.
نعم -حفِظَكم الله- إن أقربَ طريقٍ للمعرفة والإدراك أخذُ العِبرة، وسُلوك مسالِك الاعتِبار.
في هذه البلاد المُبارَكة، وفي هذه الوحدة المُبارَكة تم طيُّ فترةٍ زمنيَّةٍ سحيقة، تقادَمَت عهودُها، وتعاقَبَت قرونُها، وعانَت الجزيرةُ فيها من التشرذُم والفُرقةُ والخلاف والجهل والمرض، وضعف الدِّيانة، في قبائل مُتناحِرة، وإماراتٍ مُتناثِرة.
نعم، لقد كانت حدًّا فاصلاً بين فترتين وتأريخَين مُتبايِنَين .. وحدةٌ جامعة، وتوحيدٌ مُبارك أحدثَ تغييرًا شاملاً وهائِلاً، ليس في الجزيرة وحدَها، ولكن في أرجاء الدنيا كلّها، ولاسيَّما الأقطارُ المُحيطة والبلاد الإسلاميَّة؛ ليتبدَّدَ ظلامُ البِدع، وتزولَ الخُرافة، وتتلاشَى الانحِرافات العقديَّة.
توحيدٌ غيَّر وجهَ تاريخ البلاد، وقلَبَ موازِينَ القُوى، انتقلَت من حالة العُزلة والتهميش إلى حيويَّة التأثير والتغيير، والحُضور على الأرصِدة العالمية والإقليمية.
قبل هذه الوحدة المُبارَكة كانت البلادُ تعيشُ على هامِش التأريخ، بعيدةً عن التأثير والمُشاركة والتفاعُل، باستِثناءِ الحرمَين الشريفَين -زادَهما الله تشريفًا وتكريمًا ومهابةً وبرًّا-، لكن لم يكن الطريقُ إليهما آمنًا، ولا الوصولُ إليهما مُيسَّرًا.
في ذلك الزمن المُظلِم لم يكن من حُكَّامه من يستطيعُ أن يبسُطَ أمنًا، أو يجمعَ شملاً، أو يُوحِّد صفًّا، أو يحسِمَ نِزاعًا، أو يُقيمَ دينًا، أو ينشُر شرعًا؛ بل لم تستطِع الدول والخِلافات الإسلامية المُتعاقِبة بعد الخلافة الراشِدة، لم تستطِع تأمينَ طريق الحجِّ، وظلَّت مآسِي المُسلمين قُرونًا مُتطاوِلة، حتى أفتَى علماءُ المغارِبة بأن أهلَ جهاتهم قد سقطَ عنهم الحجُّ؛ لعدم أمن السبيل. فأخبارُ القتل والظلم والنَّهب والسَّلب تعتصِرُ منها القلوبُ ألَمًا، وتذرِفُ فيها العيونُ دمًا.
حتى منَحَ الله هذا الشرف شرفَ أمن الحَجيج وتأمين مسالِكِه، وشرفَ التوحيد والوحدة لهذه الدولة المُباركة. فكانت ولايتُها رحمة، وحُكمُها نعمة، فيأتي الحاجُّ والمُعتمِر والزائِر والوافِد محفُوفًا بالرعاية والخِدمة، مُجلَّلاً بالأمن والطُّمأنينة، ويعودُ مُودَّعًا بالسلامة والمُتعة. فطابَت الأيام، وسعُد الناس، فلله الحمدُ والمنَّة.
معاشر المسلمين .. أيها الشباب: إن هذه الدولة المُبارَكة لا تنزِعُ إلى لغةٍ تتميَّزُ بها، أو تاريخٍ تختصُّ به، أو عنصر سُكَّانيٍّ تعتمِدُ عليه، لقد انصهَرَت فيها كلُّ العُنصريَّات والقَبَليَّات والمذاهِب والمناطقيَّات، ليس إلا الإسلام جامِعًا، الإسلام منهجُها ونظامُها وعصبيَّتُها.
وإن أي غفلةٍ عن مُقوِّمات هذه الهويَّة للدولة أو إخلالٍ بها، أو تهاوُنٍ في المُحافظة عليها - والعجبُ ممن يُريدُ أن يُفرِّق بين الدين وهذه الدولة، ويظنُّ أن ما بينهما إنما هو حِلفٌ يمكنُ أن ينفَكَّ، أو يمكنُ الانفِكاكُ منه، وهذه غفلةٌ عن سُنن الله في التاريخ والأُمم والدول.
فهو عاملُ هدمٍ يظهرُ أثرُه بقدر حجمِه.
إن ما بين الدين وهذه الدولة هو عصبيَّةُ النشأة، وكل دولةٍ تنفَكُّ عن عصبيَّة نشأتها لا تقومُ لها بعد ذلك قائِمة. يشهَدُ لذلك تأريخ ما قبلَ قيام هذه الدعوة المُبارَكة بدولتِها المُبارَكة؛ فالالتِزامُ بالإسلام وتحكيمُه والدعوة إليه في هذه الدولة المُبارَكة ليس مُجرَّد وظيفة من وظائِفِها، أو نشاطٍ من نشاطاتها؛ بل هو رُوحُها وحياتُها وهدفُها ومنهجُها الذي يرتسِمُ في كل مناشِطِها وفعالياتها وأعمالها وأنظمتها. نصَّ على ذلك بوضوح: نظامُها الأساسيُّ.
معاشر الإخوة .. أيها الشباب: إن قومًا أنعمَ الله عليهم في بلدِهم بهذه المزايا والخصائِص، في هذه الأمة المُستقرَّة، والوحدة المُلتئِمة، والقيادة الجامِعة، والعيش الكريم، إن حقًّا عليهم أن يقدرُوا لهذه النعمة قدرَها، ويُحافِظوا عليها بكل ما أُوتوا من قوَّةٍ وحزمٍ، وعملٍ وعزمٍ.
الحَذَرَ الحَذَرَ، كونوا مُعتبِرين قبل أن تكونوا عِبرةً .. حَذَارِ ثم حَذَارِ أن تُبكَى هذه الأيام الزاهِرة .. حَذَارِ ثم حَذَارِ أن تُبكَى هذه الأيام الزاهِرة، والأمن الوارِف .. تعيشُون في بيوتِكم مع أولادِكم وأهلِيكم وأصدقائِكم وأرحامِكم وكل أهل بلدِكم والوافِدين إليكم، تغدُون وتروحُون في أعمالكم وبيوتِكم وأسواقِكم ومدارِسِكم وجامعاتِكم ومُتنزَّهاتكم وتنقُّلاتكم وأسفارِكم في أمان الله وحفظِه.
وازِنوا -حفِظَكم الله-، وازِنوا بين المصالِح: اتحاد الكلمة، وقيام الدين وشعائِره، ورصِّ الصفوف، ووحدة القيادة المُسلمة. إن الجامِعَ لذلك كلِّه عقيدةٌ وبيعةٌ، ولزومُ الجماعة، والسمعُ والطاعة، والرجوعُ لأهل العلمِ الراسِخين، مع النُّصح والشَّفَقة، وإظهار شعائِر الدين.
الارتِباطُ بهذه البلاد الطيبة المُبارَكة شعورٌ عميق، تخفقُ به القلوب، وشوقٌ دفَّاق تُعمَرُ به الأفئدة، وإلفٌ دافعٌ ترتبِطُ به المشاعِر.
قال صالحُ الدمشقيُّ لابنِه: "يا بنيَّ! إذا مرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سلِمَ فيها دينُك وجسمُك ومالُك وعيالُك، فأكثِر شُكرًا لله تعالى؛ فكم من مسلوبٍ دينُه، ومنزوعٍ مُلكُه، ومهتوكٍ سِترُه، ومقصومٍ ظهرُه، وأنت في عافيةٍ من الله وسترٍ وأمنٍ".
وأنتم -زادَكم الله إحسانًا-، انظرُوا الأحداث من حولِكم؛ لتعرِفوا نعمَ الله عليكم .. فاحمَدوا الله واشكرُوه، وادعُوا لإخوانِكم أن يُعجِّل الله فرَجَهم، وأن يُبدِلَ خوفَهم أمنًا، ويجمعَ كلمتَهم، ويرفعَ الضُرَّ والبأساءَ عنهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقولُ قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله المحمود على كل حال، أحمدُه -سبحانه- على مزيدِ الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والعزَّة والجلال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه ختمَ به النبوَّةَ والإرسال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى الصحبِ الأكرَمين والطيبين الآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الغدوُّ والآصال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
معاشر المسلمين: الأخطاءُ موجودة، والنقصُ حاصِل، لكن لا يجوز لأي عاقلٍ فضلاً عن مُسلمٍ ومُواطِنٍ مُخلِص أن يكون النقدُ والمُطالَبات على حسابِ سلامة البلاد وأمن الأوطان واجتِماع الكلمة. نعم، الكمالُ ليس مُدَّعَى، والأخطاء وارِدة؛ بل موجودة.
والمطلوبُ هو النُّصحُ والتناصُح والمُعالَجةُ بالحُسنى، وسلامةُ الصدور، والصدقُ في المُعالَجات، والعزمُ على الخير وتحصيلُه، ودفعُ الشرِّ وتفويتُه.
العدلُ مِعيارُ التقوى، ليس من النُّصح ولا من الإخلاصِ تصويرُ البلاد وكأنَّه لا خيرَ فيها، ليس من الدين ولا من النُّصح ولا من الإخلاصِ اقتِناصُ الفُرص لإشاعة الفوضَى، ونشر البلبَلة.
ليس مُخلِصًا من يهدِمُ ثوابِتَ بلدِه، وقِيم مُجتمعه باسمِ النقدِ وحُريَّة التعبير .. ليس صادِقًا ولا ناصِحًا ولا مُخلِصًا من يظنُّ أن هناك تعارُضًا بين الوطنيَّة والإسلام. ناهِيكم بالزعمِ بأن تحكيم الشريعة يُعطِّل مصالِح البلاد -عياذًا بالله-.
ومن الحِكَم: "إذا أردتَ أن تعرِف الرجلَ فانظُر كيف تمسُّكُه بإيمانِه، وتحنُّنه إلى أوطانِه، وتشوُّقُه إلى إخوانه، وارتِباطُه بما مضَى من زمانِه".
نعم، الأشدُّ نُصحًا، والأصدقُ إخلاصًا هو الأحرصُ على جمع أهلِه، وحفظِ مُنجَزات قومِه ومُكتسَبَات بلدِه. ولهذا قيل: "لا تصحَب إلا من يكتُمُ سرَّك، ويستُرُ عيبَك، وينشُر حسناتِك، ويطوِي سيئاتِك، فإن لم تجِده فلا تصحَب أحدًا".
وبعد -حفِظَكم الله، وأدامَ عليكم نعمَه وفضلَه وأمنَه-: فإن من أعظمِ أسباب استِقرار النفوس مُجاهَدة النفس في الطاعة، وحُسن العبادة، والدعاء والتضرُّع، والفقهَ في الدين، ومُصاحبَة أهل العلم الأخيار والصُّلَحاء، والنظر في منهج السَّلَف الصالِح وسِيَرهم، ولُزوم جماعة المُسلمين وإمامهم، في إيمانٍ بالله وثقةٍ به وتوكُّلٍ عليه واعتِمادٍ عليه.
تجتمعُ على ذلك القلوب، وتتشابَكُ الأيدي من كل أطيافِ المُجتمع وأطرافِه؛ لحفظِ البلاد وحفظِ أهلِنا، وشُكر نعمة الله علينا في دينِنا ووحدتنا وأمنِنا وكريم عيشِنا؛ فالجميعُ في سفينةٍ واحدةٍ، ينجون جميعًا، أو يغرَقون جميعًا. والقومُ إذا تفرَّقُوا فسَدوا وهلَكوا، وإذا اجتمَعوا صلَحوا وملَكُوا، فالجماعةُ رحمة، والفُرقةُ عذاب.
ألا فاتقوا الله -رحِمكم الله-، واعلَموا أن من الطاعة وحُسن العبادة، وشُكر النعمة المُبادَرَة إلى ما ندبَكم إليه نبيُّكم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- من صيام يوم عاشُوراء؛ فهذا يومُ نصرٍ وعزٍّ وشُكرٍ، ونحن أحقُّ بموسَى -عليه وعلى نبيِّنا وإخوانهم من النبيين والمُرسَلين أفضلُ الصلاة والتسليم-؛ ففي الحديث عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- كما في "صحيح مسلم": "ما علِمتُ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- صامَ يومًا يطلبُ فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- .. الحديث".
وفي "الصحيح" من حديث أبي قتادَة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "صومُ يوم عاشُوراء يُكفِّرُ السنةَ الماضِية".
فبادِروا -رحِمكم الله- إلى صيامِه، ومن كان صائِمًا فليصُم يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه؛ مُخالفةً لليهود، كما أرشدَ إلى ذلك نبيُّكم مُحمَّدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في مُحكم تنزيلِه، وهو الصادقُ في قِيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحقِّ والهُدى يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم واحقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهدى والسنة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمن والعدل والرخاء في ديارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتَنا وأمنَنا ووُلاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا، ورِجالَ أمننا، وقوَّاتنا ووحدَتنا واجتماعَ كلمتنا بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قويُّ يا عزيز.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، ويا غياثَ المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعَفين مظلومين في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، وفي أفريقيا الوسطى، قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان والتشريد والحصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبِهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددِك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كل مُمزَّق، واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)[الصافات:180-182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم