عناصر الخطبة
1/أهمية الدين والثبات عليه وحرص الأعداء على فتنة العبد عن دينه 2/كيف يقي الإنسان نفسه وأهله من مضلات الفتن ودعاتها؟اقتباس
فلا تُعطي أذنك لكل ناعق، ولا تُصغِي لكلِّ مُشكِّك، واغلق عنك بابَ الفتن، وفرِّ منها فراركَ من الأسد، واعلم بإنَّ السلامةَ لا يعدلها شيء، وتأمَّل قولَ ربك -جلَّ وعلا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد: فإنَّ خيرَ الكلام كلامُ الله -تعالى-، وخير الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر ضلالة في النار الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ...
معاشر المؤمنين الكرام: لا شكَّ أنَّ أغلى وأعزَّ ما لدى المسلمِ دينهُ وعقيدتهُ وإيمانه، إذ بها ينالُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَالْخُلْدَ فِي الْجَنَّان، وبدونها فمآلهُ الضلالُ والخسران، والخلودُ في النيران، وأعداءُ الملِّةِ والدين أشدَّ ما يكونون حِرصاً على فتنة المسلمِ وصدِّهِ عن دينه، وجعلهِ يضلُ ويكفر، قال تعالى: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ)، وقال تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)، وقال جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، وقال تعالى: ( وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وغيرها من الآيات كثير، كما أنَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا وحذرنا بأنَّ هذه الأمّةَ ستتعرضُ لمحنٍ وابتلاءاتٍ شديدةٍ، وفتنٍ كقطع الليلِ المظلمِ، يلتبسُ فيها الحقُّ بالباطل، ويضِلُ بسببها خلقٌ كثيرٌ؛ ففي البخاري ومُسلم قال عليه الصلاة والسلام: "يكونُ في آخرِ الزمانِ فِتَنٌ كقِطَعِ الَّليلِ المظلِمِ، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا"، وفي رواية: "يبيعُ أقوامٌ دينَهم بعرَضٍ منَ الدنيا قليلٍ".
وصحَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- حذَّر أمته من دُعاة الفتن؛ فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يكونُ دُعاةٌ على أبوابِ جَهنَّمَ، مَن أجابَهم إليها قَذفُوه فيها، قلتُ: يا رسولَ اللهِ! صِفْهم لنا، قال: هم قومٌ مِن جِلدتِنا، يَتكلَّمونَ بألْسنتِنا، قلت: فما تأمُرني إنْ أدركتُ ذلِك؟ قال: الْزَمْ جماعةَ المُسلِمينَ وإمامَهم، فإنْ لم يكُنْ لهم جَماعةٌ ولا إمامٌ؛ فاعتزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كلَّها، ولو أنْ تَعضَّ بأصلِ شَجرةٍ حتَّى يُدركَكَ الموتُ وأنتَ كذلِك".
دعاةٌ على أبواب جنهم، يتلبسون بلباس أهل العلم، ويتطفلون على موائد الإفتاء، ويتجرؤون على التحليل والتحريم، ويجيبون عن مسائلَ لو عُرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.
دعاةٌ على أبواب جنهم، همهم في الليل والنهار، تشكِّيكُ المسلمَ في مُسلمات دينهِ، فمرةً يطعنونَ في وجوب الحجاب، ومرةً في تعدد الزوجات، ومرةً في حُرمة الربا، ومرةً في حُرمة الخمر، ومرةً في البخاري وصحيحه، ومرةً في عدالة الصحابة، ومرةً في صحة أحاديثِ الأحاد، ومرةً في السنة ودِلالتها، ولم يتركوا شيئاً إلا شكَّكوا فيه، حتى الشهور الهجرية لم تسلم من تشكيكهم فيها.
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته *** ولكنه سهمٌ وثاني وعاشرُ
ولن يتوقفوا أخزاهم الله؛ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، وقال تعالى: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا).
فماذا يَفْعل المسلم؛ ليحمي نفسهُ وأبناءهُ وأسرتهُ من طوفان الفتن الجارفِ؟ في صحيح الامام مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إلَّا كانَ حَقًّا عليه أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ علَى خَيْرِ ما يَعْلَمُهُ لهمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ ما يَعْلَمُهُ لهمْ، وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِه جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الفِتْنَةُ فيَقولُ المُؤْمِنُ: هذِه مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الفِتْنَةُ، فيَقولُ المُؤْمِنُ: هذِه هذِه، فمَن أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهو يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إلى النَّاسِ الَّذي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ"، الحديث.
وجاء في الحديث الصحيح، عن المقداد بن عمر -رضي الله عنه-، قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ"، قالها ثلاثاً ..
والسؤالُ هنا: كيفَ يسلمُ المسلمُ من مُضلات الفتن، وينالُ هذه السعادةَ الغالية؟ والجوابُ: أنَّ هناك أعمالاً عظيمةً، وأسباباً قويمةً، بها يتقي المسلمُ الفتنَ، ويسلمَ من شرها وخطرها بإذن الله وفضله.
وإنَّ من أهم ذلك -يا عباد الله- التقوى؛ فالله -تعالى- يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)؛ أي: يجعلَ لهُ نجاةً وسلامةً من كلِّ فتنةٍ وشرٍّ، والتقوى كما يُعرِّفها العلماء: هي العملُ بطاعة اللهِ على نورٍ من الله رجاءً في رحمة الله، وتركُ معصيةِ اللهِ على نورٍ من الله خوفاً من عذاب الله، ذلك أنَّ التقوى تُثمرُ سلامةَ القلبِ وصلاحِه، ومن ثمَّ فلا تضرهُ الفتنُ، كما جاء في الحديث الصحيح.
ومن أعظم أسبابِ السلامةِ من الفتن: العنايةُ بكتاب الله -جلَّ وعلا-؛ فهو المخرجُ من كلِّ فتنة، والعاصم من كلِّ ضلالة؛ فمن أرادَ الهداية والثباتَ على الحق، والسَّلامةَ من كلِّ فتنة، والرفعةَ في الدنيا والآخرة، فعليه أن يقويِّ علاقتهُ بالقرآن الكريم، قراءةً وتعلماً وتدبُّرًا وامتثالاً: قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وكذلك فعلى المسلم أن يتعلّمَ السنةَ ويطبقها، ففي الحديث الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: "وأنَّهُ من يَعِش منكُم فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكُم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين، عَضُّوا علَيها بالنَّواجذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ".
ومن أعظم أسبابِ السَّلامةِ من الفتن، صِدقُ اللجوء لله والدُّعاء والتَّضرع والتَّعوذ، فاللهُ -جلَّ وعلا- يقول: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)، وفي صحيح الإمامِ مسلم، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابة: "تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ، قالوا: نَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ".
وبلغ من شدة حرصِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على سلامة أمته، أن يأمرَهم أن يتعوذَوا بالله من الفتن في كل صلاةٍ يصلونها؛ ففي صحيح الامام مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ مِن أَرْبَعٍ، يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ".
وجاء في أثرٍ صحيح عن الصحابي الجليلِ حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: "ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا ينجو فيه إلا من دعاء الله كدعاء الغريق".
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
ومن الأسباب المهمةِ للسَّلامةِ من الفتن، التأني في الأمور، والتحلِّي بالرَّوية والتؤدة، والصبرِ والتثبت وعدم الاستعجال، فإنَّ العجلةَ والتَّسرع لا يأتيانِ بخير، قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إنها ستكون أمورٌ مُشتبهات فعليكم بالتُؤدة؛ فإنك أن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ).
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى..
أما بعد فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).
معاشر المؤمنين الكرام: ذكرنا في الخطبة الأولى أربعةٌ من أسباب السلامةِ من الفتن، وهي التقوى، والعنايةُ بكتاب الله، والتعوذُ والدعاء، والتأني وعدمُ الاستعجال، وبقي معنا سببان..
الأولُ منهما: هو الرجوع إلى العلماء الربانيين، والفقهاء الراسخين، وفي كتاب الله -تعالى- توجيهٌ كريمٌ بهذا، قال تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، والذكرُ هو القرآنُ والسنة، وأهله هم العلماء الربانيين، والفقهاء الراسخين، قال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما أخذوا عن أكابرهم، فإذا أخذوا عن الأصاغرِ هلكوا"، وقال الامام ابنِ سِيرِينَ -رحمه اللهُ-: "إِنَّ هَذَا العِلمِ دِينٌ، فَانظُرُوا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم".
إذا علم هذا، فليس كلُّ من لبس عباءةً، أو نال شهادةً، أو أمّ مسجداً أو ألف كتاباً، أو نمق كلاماً؛ يحقُّ له أن يُفتي وأن يحلِّلَ ويحرِّم؛ ففي صحيح الامام مُسلم، قال عليه الصلاة والسلام: "سيكونُ في آخرِ الزمانِ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي يُحَدِّثُونَكُم بما لم تسمعوا بِه أنتم ولَا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم"، وفي روايةٍ صحيحة: "يكونُ في آخرِ الزمانِ دجَّالون كذَّابون، يأتونكم من الأحاديثِ بما لم تسمَعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلُّونَكم ولا يَفتِنونكم".
وفي الحديث المتفق عليه قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الحلالَ بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات، لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".
وأما السبب الأخيرُ من أسباب السَّلامةِ من الفتن: فهو البُعدُ عن مواطنِ الفتنِ ومظانها قدرَ الاستطاعة؛ فاللهُ -جلَّ وعلا- يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، وفي صحيح البخاري ومُسلم، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشِي، والماشِي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَن تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، فمَن وجَدَ مِنْها مَلْجَأً، أوْ مَعاذًا، فَلْيَعُذْ بهِ".
وفي حديث الدجال، قال -صلى الله عليه وسلم- مُرشداً ومحذراً: "من سمِع بالدَّجَّالِ فلينْأَ عنه، فواللهِ إنَّ الرَّجلَ ليأتيهِ وهو يحسَبُ أنَّه مؤمنٌ، فيتبعُه ممَّا يبعثُ به من الشُّبهاتِ"، وكان الحسنُ البصري -رحمه الله- يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم، وكان ابن طاووسٍ إذا جاءهُ أحدٌ منهم أدخلَ اصبعيهِ في أُذنيه، حتى لا يسمعَ من كلامه شيئاً، قال الامام الذهبي: أكثرُ أئمةِ السلفِ على هذا التحذيرِ يرونَ أنَّ القلوبَ ضعيفةٌ، وأنَّ الشُّبهَ خطَّافةٌ، ولا غرابةَ فلقد قالَ اللهُ عن الصحابة: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).
ألا فاتقي اللهَ -أُخيَّ المسلم-، وكُن على يقينٍ من صحة دينك، وسلامةِ منهجك؛ ففي الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ هذا الدِّينَ يُسرٌ ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلَّا غلَبه"؛ فلا تُعطي أذنك لكل ناعق، ولا تُصغِي لكلِّ مُشكِّك، واغلق عنك بابَ الفتن، وفرِّ منها فراركَ من الأسد، واعلم بإنَّ السلامةَ لا يعدلها شيء، وتأمَّل قولَ ربك -جلَّ وعلا-: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وقوله تبارك وتعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ...
اللهم صل على محمد ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم