وإن كادوا ليستفزونك

عبد الرحمن بن صالح الدهش

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/تأملات في حادث نيوزيلاندا 2/عقوبات المعاندين للدين الصادين عنه 3/لا تحسبوه شرًّا لكم 4/كيف يتعامل المسلمون مع تلك الحوادث؟

اقتباس

وسُنَّة الله من استفز عباده من الأرض أنهم لن يلبثوا بعده آمنين في عزهم، ولن يلبثوا بعده مستقرين في اقتصادهم، ولن يلبثوا بعده متقدمين في صناعتهم وزراعتهم. وقل ما شئت مما تشمله الآية؛ فهي عامة في وعيدها، أكيدة في تهديدها...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله..

أما بعد: فكلمة أغنت عن كلمات، وسطر يكفي عن أسفار ومجلدات. ويقال أحيانًا: تغريدة بألف تغريدة، وتغني عن تغريدات. هذه بعض عبارات البشر حينما يعجب بعضهم بكلام بعض، وتكون كلمته في صميم الموضوع، ولامست جرحاً مؤلماً أو خللاً بادياً؛ فكيف بكلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؟!

(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء:82].

أيها الإخوة: بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومه سرّاً وجهاراً، ولم يقصر مشركو قريش والعربُ عموماً، وكذا من دار في فلكهم من اليهود وغيرهم في الوقوف في وجه هذه الدعوة، والكيد لأصحابها، بل والأذية الجسدية لطائفة من المستضعفين، وما أخبار المعذبين في دينهم والمفتونون في عقيدتهم عن أذهاننا ببعيد.

وكلمة "أَحَدٌ أَحَدٌ" التي أطلقها بلال -رضي الله عنه- تحت السياط وفي رمضاء مكة وقد وضع على صدره المثقل من الصخور، والحديد أصبحت رمزاً للصبر، والثبات على الحق تجاه كل معتدٍ ممن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

أيها الإخوة: غالب حديث الناس اليوم هو حول أحداث قتل عُزَّل في بيت من بيوت الله في أقصى الأرض -والأرض كلها لله- في يوم مبارك؛ يوم الجمعة الماضية، في شهر معظم شهر رجب عظَّمه أهل الجاهلية قبل الإسلام.

في حدث وثَّقه صاحبه ليكون شهيداً عليه، ويكون الناس شهداء عليه وكفى بالله شهيداً.

ولن أصف الحدث بعد أن شاهده العالم كله نقلاً مباشراً وأسفوا على مجرياته، وأنكر المنصفون ما حدث، وتكلموا كلٌّ على شاكلته، وقال ما قال بطريقته.

ودعك ممن غضَّ الطرف عنه، أو حوَّله عن مساره، أو باركه، واحتفى به، وهذا كله موجود ولا أسرار في هذا الوجود، ولكن لنا في منبرنا قراءة أخرى تأخذ جانباً مهمّاً منه وتجعل مرتكزها آية محكمة وهي سنة ماضية؛ فلله في خلقه سنن وأحكام (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50].

ينظر المتعصبون لمن خالفهم في توجههم سواء كان تعصبهم لدين أو عِرْق أو لون بشرة؛ كتعصب البيض ضد السود على مستوى العالم، ينظر كل هؤلاء لمن خالفهم على أنهم طائفة أقل منهم، وأن بقاءهم إلى جانبهم يشكِّل مزاحمة لهم في لقمة عيشهم، وفي الهواء الذي هم أحق باستنشاقه من غيرهم.

والغاية تبرر الوسيلة عند هؤلاء. ولذا قامت الخلافات والخصومات والحروب عبر التاريخ التي دافعها تعصب طائفة تجاه أخرى، وتم تهجير أناس من بلادهم، وإخراجهم من ديارهم ولو لزم الأمر التصفية الجسدية فهو أسهل طريق وأكثر نتاجاً، وأنكى في المخالف. فأُبِيدَتْ أُمَمٌ وقُتِلَتْ شعوبٌ بالآلاف، بل بعشرات ومئات الآلاف؛ إرضاء للنزعة العنصرية، والتاريخ يتكرر ويعيده الله فهو لا يعيد نفسه.

والمنافقون الأولون لهم سَبق في هذه الدناءة سجَّلها القرآن حينما (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)[المنافقون:7]، وسبق المنافقين في المدينة المشركون في مكة؛ قال الله -تعالى-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا)[الإسراء:76]؛ فقد بلغ مِن بُغضهم لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم ما كادوا معه أن يخرجوه من الأرض، ويُجْلُوه منها.

فما الفرق بين أولئك وبين مَن ينظر إلى المسلمين في بلاد الغرب من متعصبي الطوائف من يهود أو نصارى أو غيرهم ينظرون إليهم على أنهم هَمَج من البشر وغزاة في أرضهم ومتمكنون من خيراتهم؟!

ولذا بدَت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، حتى استحكم العمى وطغى العدوان (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[إبراهيم:13]، (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[الأعراف:88]؛ فالمنطق واحد، وقد تعددت أداة التنفيذ والمنطلق.

وإذا عظم الحدث عظم من الله الإحداث. وإذا أوغل الباغي فإنما يُوغِل في عقوبة يستجرها على نفسه وقارعة تصيبهم بما صنعوا أو تحل قريباً من ديارهم. وإن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، فكيف توعد الله المستفزين نبيه -صلى الله عليه وسلم-؟ الساعين في إخراجه من أرضه؟ وأي عقوبة يسجلها القرآن لو فعلوا ذلك؟

رزقني الله الفهم في كتابه والبصيرة في آياته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله..

أما بعد: فأي عقوبة يسجلها القرآن لو فعلوا ذلك؟ وقبل ذلك تذكر أن ما توعد الله به أعداء رسله أنه وعيد أيضاً لأعداء أتباع الرسل الذين لم يعادوهم إلا لاتباعهم والسير على طريقهم، تأمل معي قول الله -تعالى-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء:76]؛ فسنة الله أن لا يُبقي أعداءه لو أخرجوا نبيه، ألا يبقيهم من بعده إلا قليلاً؛ فإخراج الرسول من قومه شرارة نهاية الأمة المتسلطة والرؤوس الكافرة فلن يلبثوا بعده إلا قليلاً. فما أن أُخرج -عليه الصلاة والسلام- من مكة وأصحابه حتى بدأ النصر يلوح (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)[التوبة:40]؛ فاستدرجهم الله في غزوة بدر حتى برز الذين كفروا إلى مضاجعهم؛ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب من بعدهم ومن أُعْجِب بنهجهم، والله عليم بذات الصدور.

وصدق الله العظيم (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء:76]، وسُنَّة الله من استفز عباده من الأرض أنهم لن يلبثوا بعده آمنين في عزهم، ولن يلبثوا بعده مستقرين في اقتصادهم، ولن يلبثوا بعده متقدمين في صناعتهم وزراعتهم. وقل ما شئت مما تشمله الآية؛ فهي عامة في وعيدها، أكيدة في تهديدها، (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد:11].

شاهدنا من هذه الآية فألاً عظيمًا؛ أن الله -تعالى- سيُعْلِي كلمته، ويفتح بهذا الحدث آذاناً صمّاً وأعيناً عمياً، وقاعدتنا في هذا (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)[النور:11]، وليعلم القاصي والداني أن التعايش السلمي الذي عاشتها الطوائف المخالفة في الدولة الإسلامية الأولى في الدولة النبوية، وسارت عليه الدولة الإسلامية المتمثلة للإسلام بحقه؛ تعجز عنه الدولة المتعصبة وإن ادعت حضارة، وتضيق به النفوس المنغلقة وإن ادعت تقدُّماً ونضارة، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف:21].

وإننا في هذا المقام؛ نسأل الله أن يرحم المقتولين في هذا الحدث الأليم، وأن يجعلهم شهداء في عليين، وأن يجبر بمصيبهم كل من أصيب بهم وأن يحسن عزاء المسلمين في كل مكان.

كما نسأل الله -تعالى- أن يوفِّق المسلمين في البلاد الغربية وغيرها لضبط النفس والحكمة في التعامل مع الحدث، وألا يستجرهم شياطين الإنسان والجن إلى مواقف تضرهم أو تسوق ضرراً على غيرهم. فالمسلمون أحوج ما يكونون لإثبات صدق رسالتهم، وعظمة دينهم، وبُعدهم عما يُلْصَق به من إرهاب أو عنف، فالحدث على قسوته هو في صالح المسلمين؛ إن شاء الله.

 فنسأل الله أن يوفِّق المسلمين قادة وعلماء ودعاة وشعوباً للاستفادة منه، وقطع الطرق على كل مبغض مرتزق فيه، والله غالب على أمره، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.

فالله انصر كتابك وسنة نبيك..

المرفقات

وإن كادوا ليستفزونك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات