وإن الله لمع المحسنين

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ معاني الإحسان 2/ مقامات المُحسنين 3/ تأملات في سورة يوسف ووصف يوسف عليه السلام بالإحسان 4/ الإحسان في حياة الأنبياء 5/ الافتقار إلى الله لبّ العبودية 6/ الثقة واليقين برب العالمين.

اقتباس

كلُّ شيءٍ خاشعٌ لهُ، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به، من تكلَّم سمعَ نُطقَه، ومنْ سكتَ عَلمَ سِرَّه، ومن عاشَ فعليه رزقُه، ومن ماتَ فإليه مُنقلبُه، لا ينقصُ سلطانُه بالمعصيَّةِ، ولا يزيدُ ملكُه بالطَّاعةِ، ولا يستغني عنهُ من تولى عن أمرِه، السِّرُ عندَهُ علانيةٌ، والغَيبُ عندَه شهادةٌ، فسبحانَه من ربٍّ ما أعظمَ شَأنُه!! من كانَ اللهُ معه هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ .. وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمْنَاً .. فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ .. وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ .. وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ .. بِاللَّهِ .. تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ .. فَلَا حَزَنَ مَعَ اللَّهِ وَلَا هَمَّ .. وَلَا شَقَاءَ مَعَ اللَّهِ وَلَا غَمَّ .. هيَ مَعِيَّةُ الحِفْظِ للْعَبْدِ وَالحِيَاطَةِ وَالنُصْرِةِ .. فما أجملَها من آيةٍ .. (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]..

 

أَمَّا بَعْدُ: فسألَ رسولُ السَّماءِ رسولَ الأرضِ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ- عن الإحسانِ، فأجابَه بقولِه: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" .. فأخبرَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أن مَرتبةَ الإحسانِ على درجتينِ، وأن للمُحسنينَ في الإحسانِ مَقامينِ مُتفاوتينِ:

 

مقامُ المشاهدةِ: أن تَعبدَ اللهَ كأنك تراه، وهو أن يَعملَ العبدُ كأنَّه يُشاهدُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- بقلبِه، فيتنوَّرُ القلبُ بالإيمانِ حتى يَصيرَ الغَيبُ كالعَيانِ، فمن عَبدَ اللهَ -عزَّ وجلَّ- على استحضارِ قربِه منه، وإقبالِه عليه، وأنه بينَ يديه كأنه يراه، أوجبَ له ذلك الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتَّعظيمَ.

 

ومقامُ الإخلاصِ والمراقبةِ: وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مُشاهدةِ اللهِ إياه واطِّلاعِه عليه وقُربِه منه، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عملِه وعملَ عليه فهو مخلصٌ للهِ -تعالى-؛ لأن استحضارَه ذلك في عملِه يمنعُه من الالتفاتِ إلى غيرِ اللهِ .. وهذا المقامُ إذا حقَّقَه العبدُ سَهُلَ عليه الوصولُ إلى المقامِ الأوَّلِ.

 

فيا أيُّها المُحسنُ .. ما هو الإحساسُ الذي يُخالجُ مشاعرَكَ عندما تقرأُ قولَه -تعالى-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]؟ .. بل ما هو أثرُ الآيةِ على قلبِكَ وجوارحِكَ وعملِكَ؟ .. هل تعلم ما معنى أن يكونَ اللهُ -تعالى- معكَ إذا كُنتَ مُحسناً؟ .. إنها واللهِ مما (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23]..

 

إن كانَ اللهُ -سبحانَه معكَ- .. فمعكَ العزيزُ الذي لا يُغالبُ .. ومعكَ الحيُّ الذي لا يموتُ .. ومعكَ القيومُ الذي لا ينامُ .. ومعك القُوَّةُ التي لا تُهزمُ .. ومعكَ الكريمُ الذي لا تنقصُ خزائنُه .. فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ ؟ .. مَنْ تخافُ وأنتَ معك الذي لا مانعَ لما أعطى ولا مُعطيَ لما منعَ، ولا رادَّ لأمرِه.

 

مالكُ الأملاكِ، ومُدبِّرُ الأفلاكِ، علاَّمُ الغيوبِ، وغفَّارُ الذنوبِ، وستَّارُ العيوبِ، ومُقلبُ القلوبِ، ربُّ الأربابِ، ومُنزِلُ الكِتابِ، ومُجري السَّحابِ، وهازمُ الأحزابِ، سَريعُ الحسابِ.

 

كلُّ شيءٍ خاشعٌ لهُ، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به، من تكلَّم سمعَ نُطقَه، ومنْ سكتَ عَلمَ سِرَّه، ومن عاشَ فعليه رزقُه، ومن ماتَ فإليه مُنقلبُه، لا ينقصُ سلطانُه بالمعصيَّةِ، ولا يزيدُ ملكُه بالطَّاعةِ، ولا يستغني عنهُ من تولى عن أمرِه، السِّرُ عندَهُ علانيةٌ، والغَيبُ عندَه شهادةٌ، فسبحانَه من ربٍّ ما أعظمَ شَأنُه.

 

من كانَ اللهُ معه هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ .. وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمْنَاً .. فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ .. وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ .. وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ .. بِاللَّهِ .. تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ .. فَلَا حَزَنَ مَعَ اللَّهِ وَلَا هَمَّ .. وَلَا شَقَاءَ مَعَ اللَّهِ وَلَا غَمَّ .. هيَ مَعِيَّةُ الحِفْظِ للْعَبْدِ وَالحِيَاطَةِ وَالنُصْرِةِ .. فما أجملَها من آيةٍ .. (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

 

رافقَ وصفُ الإحسانِ يوسفَ -عليه السَّلامُ- في كلِّ أحوالِه .. وهو شابٌ كما قالَ سبحانَه: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 84].. وحينَ كانَ في السِّجنِ: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 36] .. ولمَّا أصبحَ وزيراً للدَّولةِ: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 78] ..

 

ولذلكَ كانَ اللهُ -تعالى- معه في كلِّ الأوقاتِ .. وأعانَه في اجتيازِ المصاعبِ والأَزماتِ .. فألقاهُ إخوانُه في غَيَابَةِ الْجُبِّ مقهوراً .. فأخرجَه اللهُ -تعالى- إلى قصرِ العزيزِ منصوراً .. (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] .. فأنجاهُ ربُّه –سُبحانَه- وقالَ: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].. وأدخلوهُ ظُلماً في السِّجنِ أسيراً .. فأخرجَه اللهُ -تعالى- عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ وزيراً .. وبعدَ أن قالوا: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) [يوسف: 9].. هاهم بعدَ سنينَ يعترفونَ بخطأِهم الكبيرِ: (قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)[يوسف: 91] ..

 

 لقد كانَ يوسفُ مُحسناً صابراً .. فكانَ اللهُ -تعالى- معَهُ حافظاً ناصراً .. (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 56] .. فما أعظمَ الإحسانِ .. وكيفَ يرتقي بالإنسانِ.

 

(سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 120- 121] .. كانتْ عائلةُ موسى -عليه السَّلامُ- عائلةَ الإحسانِ .. ولذلكَ قالَ اللهُ -تعالى- لأمِّه لمَّا خافتْ من جُنودِ فرعونَ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) [القصص: 7].. وسبحانَ اللهِ .. هل تكونُ النجاةُ في إلقاءِ هذا الطِّفلِ الرَّضيعِ في البحرِ؟ .. الجوابُ: نعم، فإذا كانَ اللهُ -تعالى- هو الحافظُ .. فَالمَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمانُ .. ولذلكَ قالَ لها سبحانَه: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) .. بل تأتي بُشارتانِ مُتتابعتانِ: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7].. ثُمَّ يأتي الأمرُ إلى البحرِ: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)[طه: 39] ..

 

فهذا الطَّاغيةُ التي تخافينَ منه على الصَّغيرِ .. هو الذي من سيُربِّيه في قصرِه الكبيرِ .. وسيحميه وجنودُه بإرادةِ العزيزِ القديرِ .. ثمَّ يتحقَّقُ الوعدُ بالرُّجوعِ .. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)[طه: 40] ..

 

فلا إلهَ إلا اللهُ .. تُلقيه في اليَمِّ خوفاً عليه من فرعونَ ذي الفَسادِ .. فيرجعُ إليها بأمرِه وتحتَ حِراسةِ الأجنادِ .. ثُمَّ تدورُ الأيامُ ويخرجُ فرعونُ وجنودُه في أَثَرِه ليقتلَه ومن معه من بني إسرائيلَ .. (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61] .. فأجابَهم الذينَ يعلمُ عاقبةَ الإحسانِ: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) .. فجاءَ الفرجُ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) .. وكانتْ النَّتيجةُ الحتميَّةُ: (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: الآيات من 60- 66].. فأيُّ تفسيرٍ يحتاجُ بعدَ ذلكَ لقولِه -عزَّ وجلَّ-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

 

كانَ إبراهيمُ -عليه السَّلامُ- كثيرَ الإحسانِ .. فأصبحَ في حفظِ اللهِ -تعالى- مُصانٌ .. يجتمعُ عليه القومُ جميعاً .. (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) .. فجمعوا له أخشاباً كثيرةً .. وأشعلوا ناراً كبيرةً .. فكانَ لها شَررٌ عظيمٌ ولهبٌ مُرتفعٌ .. لم تُوقدْ قط نارٌ مثلُها .. وحيثُ أنَّ اللهُ -تعالى- مع إبراهيمَ .. جاءَ الأمرُ إلى النَّارِ، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) .. فما كانَ من النَّار إلا أن أطاعتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ .. والنتيجةُ (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 68- 70].

 

ابتلاهُ اللهُ -تعالى- بذبحِ ابنِه الوحيدِ .. الذي جاءَه على كِبرٍ فهو بِه سعيدٌ .. فقدِّمَ محبةَ اللهِ سبحانَه على محبَّةِ منَ سُواه .. (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 103- 110].

إنه الإحسانُ .. وما أدراكَ ما الإحسانُ .. (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) [الرحمن: 60].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ .. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ تمَّ نورُك فهديتَ فلكَ الحمدُ، وعَظمَ حلمُك فعفوتَ فلكَ الحمدُ، وبسطتَ يدَكَ فأعطيتَ فلكَ الحمد، وجهُك أكرمُ الوجوهِ، وجاهُك أعظمُ الجاهِ، وعطيَّتُك أفضلُ العطايا وأهناها، تُطاعُ فتشكرُ، وتُعصى فتغفرُ، وتُجيبُ المضطرَ، وتَكشفُ الضُّرَ، وتَشفي السُّقمَ، وتَغفرُ الذَّنبَ، وتَقبلُ التَّوبةَ، وتُجيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دعاكَ، أحقُّ من ذُكرَ، وأحقُّ من عُبدَ، وأنصرُ من ابتُغيَ، وأرأفُ من مَلَكَ، وأجودُ من سُئلَ، وأوسعَ مَن أعطى.

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّ الإحسانِ .. عَبِدَ اللهَ كأنَه يراهُ رأيَ عِيانٍ .. وعلى آلِه وصحبِه والأتباعِ بإحسانٍ ..

 

أما بعد:

خرجَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مُهاجراً، فخرجتْ قريشٌ خلفَه تُريدُ قتلَه، فاختبأَ هو وصاحبُه في الغارِ .. يقولُ أَنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" .. وصدقَ بأبي هو وأمي .. فهو الذي تلا علينا قولَه -تعالى-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

 

فمن كانَ اللهُ معهُ .. فمعهُ الملكُ الذي لا شريكَ له، والفَردُ الذي لا نِدَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه، أخذَ بالنَّواصي، وكتبَ الآثارَ، ونَسخَ الآجالَ، القلوبُ له مُفضيةٌ، والسِّرُ عندَه علانيةٌ، والأمرُ ما قضى، ولا مانعَ لما بسطَ، ولا باسطَ لما قَبضَ، ولا مُقرِّبَ لما باعدَ، ولا مُباعدَ لما قرَّبَ .. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِي الْمُلُوكَ: "وَيْحَكَ، تَأْتِي مَنْ يُغْلِقُ عَنْكَ بَابَهُ، وَيُظْهِرُ لَكَ فَقْرَهُ، وَيُوَارِي عَنْكَ غِنَاهُ، وَتَدَعُ مَنْ يَفْتَحُ لَكَ بَابَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَنِصْفَ النَّهَارِ، وَيُظْهِرُ لَكَ غِنَاهُ، وَيَقُولُ: ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ"؟!

 

اللهمَّ أنتَ الذي تَغفرُ الخطيئاتِ وتفرِّجُ الكُرباتِ، وتَقضي الحاجاتِ، وتَستجيبُ الدَّعواتِ وتَدفعُ البليَّاتِ، وترفعُ الدَّرجاتِ وتَسترُ العَوراتِ، وتَمحو الزَّلاتِ، إلهُ الأرضِ والسَّمواتِ .. شكا إليكَ يعقوبُ فخلَّصتَه من حُزنِه، ورَددتَ عليه بصرَه، وجمعتَ بينَه وبينَ ولدِه .. وناداكَ نوحٌ فنَجَّيتَه من كربِه، وناداكَ أيوبُ فكشفتَ ضُرَّه، وناداكَ يونسُ فنجَّيته من غمِّه، وناداكَ زكريا فوهبتَ له ولداً من صُلْبِه بعد يأسِ أهلِه وكِبرِ سنِّه، وأنقذتَ إبراهيمَ من نارِ عدوه، و أنجيتَ لوطاً من العذابِ النَّازلِ بقومِه..

 

 فإلى مَن نتوجهُ وأنتَ الموجودُ، ومن نَقصدُ وأنتَ المقصودُ، ومَن ذا الذي يُعطي وأنتَ صاحبُ الكرمِ والجودِ، ومن ذا الذي نَسألُ وأنت الربُّ المعبودُّ .. إلى من نشتكي وأنت العليمُ القادرُ؟، وبمن نَستنصرُ وأنتَ الوليُّ النَّاصرُ، وبمن نستعينُ وأنت القَويُّ القَاهرُ؟، ولمن نتوجهُ وأنتَ الكريمُ ذو العطاءِ الوافرِ؟!

 

اللهمَّ لكَ أسلمنا وبكَ آمنا وعليكَ توكلنا وإليك أنبنا وبك خاصمنا وإليك تحاكمنا، أصلحْ لنا شأنَنا كلَّه ولا تكلنا إلى أنفسِنا ولا إلى أحدٍ من خلقِك طَرفةَ عينٍ .. اللهمَّ كُنَّ للمسلمينَ المُستضعفينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.

 

 

 

المرفقات

الله لمع المحسنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات