وأُخر شامخات

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/قصة المرأة التي تصرع 2/نماذج من شموخ المؤمنات في زماننا 3/نصائح إلى المفرطات في حجابهن 4/وصية للنساء بالثبات أمام الفتن.

اقتباس

وتنقل لنا الكاميرات صور الشموخ في زمن الانكسار, تنبعث حتى من بين الأنقاض وفي أجواء الخوف والجوع, مشاهد لنساء حافظن على تمسكهن بمبادئهن، فلم تكن لتهزهن الإغراءات, ولا تغيرهن الدعايات, ولا...

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام, وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام, وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الورى وخير الأنام, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي العقول والأفهام, وسلم تسليما.

 

أما بعد: فاتقوا الله ربكم وراقبوه في سركم وجهركم؛ إنه بما تعملون خبير.

 

إلى الماضي القديم أنقلكم حيث أمة سوداء لونها, لكنها بيضاء في مبادئها, بيضاء في رسوخها, بيضاء في ثباتها واعتزازها بدينها, تأتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشكو إليه ذلك المرض الذي أقض مضجعها, وهو الصرع؛ فيخيرها -صلى الله عليه وسلم- بين الدعاء لها بالشفاء, وبين الصبر ودخول الجنة؛ فتختار الصبر على الألم!, وتقول: "بل أصبر يا رسول الله!", ولكن, ولكن ماذا أيتها الأمة المؤمنة؟! إنه الأمر الذي هو أمر من ألم البدن, وأقسى من لأواء الصرع, "ولكني يا رسول الله! أتكشف, فادع الله أن لا أتكشف", فدعا لها, فما أعظم الإيمان بالمبادئ!, والذي يجعل المرء يقدم مرارة الألم على خسارة الدين.

 

إلى الماضي القريب ومن  البلد الشيوعي السابق يوغسلافيا, تُحدث فتاة مسلمة قائلة: عندما غزانا المد الشيوعي كنت حينها صبية في العاشرة, وكنت أرتدي الحجاب دون غطاء الوجه، وكانت أمي تغطي وجهها مع سائر بدنها, وكنا قبل هذا الغزو نعيش في أمان على كل شيء، وبعده تغيرت أحوالنا فما كانت أمي تنام إلا في حجابها؛ خوفاً من أن يداهم الحراس الكفرة بيوتنا في ساعة من الليل.

 

وكان أول عمل قام به الشيوعيون هو هتك الستر، فقد هدموا الجدر الفاصلة بين منزل ومنزل, وأبوا أن ترتفع أكثر من متر واحد, فكنت أنا وأمي لا نستطيع أن نظهر في فناء الدار إلا ونحن متحجبات, وما اكتفى الشيوعيون بذلك بل إنهم فرضوا على كل من تغطي وجهها أن تحمل صورة تبرزها في هويتها, فماذا كان موقف هذه المرأة المسلمة؟!.

 

تقول ابنتها: عندما أبلغونا بذلك، يومها ما رأيت أمي تبكي كبكائها تلك الليلة وهي تردد: كيف سأكشف وجهي أمام المصور؟! وكيف أطيق أن يستمتع الكفرة بالنظر إلى صورتي؟! ماذا أفعل؟ أنقذوني من هذا الموقف.

 

وبينما نحن في حيرة من أمرنا وقد تألمنا لبكائها وحرقتها إذ قام والدي وأحضر بين يديه فحماً أسود، وقال: خذي يا أم فلان! ولا تجزعي، قالت: وماذا أنا فاعلة به؟! قال: اصبغي به وجهك وقنعيه بالسواد؛ فلا تبدو ملامح وجهك حين تكشفين أمام المصور, وستظهر الصورة قاتمة.

 

فأخذته والدتي منه على مضض وهي غير مقتنعة بكفايته، فلما لطخت به وجهها وقنعته به اختفت كل معالم جمالها؛ فانفرجت أساريرها, ولازلت أحتفظ من يومها بتلك الصورة الرائعة لأمي, بقناع من الفحم الأسود, تقف شاهدة لأمي وأبي أمام الله يوم القيامة في غيرتهما على دينه.

 

وإلى صورة أخرى يرويها داعية فيقول: كنت في رحلة دعوية إلى بنجلاديش مع فريق طبي, أقام مخيماً لعلاج أمراض العيون, فتقدم إلى الطبيب شيخ وقور ومعه زوجته بتردد وارتباك, ولما أراد الطبيب المعالج أن يقترب منها؛ فإذا بها تبكي وترتجف من الخوف, فظن الطبيب أنها تتألم من المرض, فسأل زوجها عن ذلك, فقال -وهو يغالب دموعه-: "إنها لا تبكي من الألم، بل تبكي لأنها ستضطر أن تكشف وجهها لرجل أجنبي, لم تنم ليلة البارحة من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيراً: أو ترضى لي أن أكشف وجهي؟ وما قبلت أن تأتي للعلاج إلا بعد أن أقسمت لها أيمانا مغلظة بأن الله -تعالى- أباح لها ذلك عند الاضطرار"؛ (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)[البقرة: 173].

 

أجريت لها العملية بنجاح، وعاد إليها بصرها بفضل الله -تعالى-، حدث عنها زوجها أنها قالت: "لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي ولا يمسني رجل أجنبي: قراءة القرآن, وخدمتي لك ولأولادك".

 

وما زال مسلسل الشموخ وصور العزة تترى, وله بقية.

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ, وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: إلى الحاضر المعاصر أنقلكم حيث تقام مسابقة في اندونيسيا يشارك فيها الآلاف, ويأتي دور فتاة محجبة منقبة, فيطلب منها القائمون على المسابقة كشف وجهها فتأبى وهم يصرون, فخيروها بين الكشف أو الانسحاب, ففكرت ثم قدرت ثم نطق الإيمان والحياء, وجلجلت القاعة بصوت الثبات والشموخ يصدح: "لا أستطيع, لا أستطيع", وتعلن انسحابها لتهتز البلاد بعدها بقضيتها, ويتتابع أهل الشهامة في تكريمها, ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه!.

 

قالوا لها: فكي النقاب *** كي تقرئي آي الكتاب

ودعي التشدد والتزمت  *** والغلو والاكتئاب

قالت لهم وشموخها *** بحجابها بلغ السحاب

الله قد أمر النساء *** المؤمنات بالاحتجاب

أضربن بالخمر التي *** فوق الرؤوس على الرقاب

 

هكذا هكذا يكون الثبات, لم تمزق حجابها المغريات, قدمت درسها لكل فتاة, ففقهنّه أيتها الفتيات!.

 

وما تزال نماذج الثبات والشموخ والاعتزاز بالهوية تسطرها فئة من نساء بلدي الطاهر, ونساء مسلمات في بلاد شتى, وتنقل لنا الكاميرات صور الشموخ في زمن الانكسار, تنبعث حتى من بين الأنقاض وفي أجواء الخوف والجوع, مشاهد لنساء حافظن على تمسكهن بمبادئهن، فلم تكن لتهزهن الإغراءات, ولا تغيرهن الدعايات, ولا تفتنهن الأموال والشهادات، فئة طيبة تنافس في كل ميدان من ميادين العلم والعمل, وتتبوأ أسمى المراتب وأعلى المناصب, وتظل تحرص أشد الحرص على أن يتسم لباسها بالحشمة والستر, فلله درهن, ما أحسن صنيعهن! وما أحلى طريقهن!.

 

نماذج في الاعتزاز بالحجاب والتمسك بغطاء الوجه, رغم الحملات الماكرة, والدعايات المضللة, والإغراءات الفاتنة, نرسلها لفتيات من بلدي وللأسف يتباهين بنزع الحجاب, تشهد المقاهي والمطاعم والحدائق والأسواق ووسائل التواصل على ضعف إيمانهن, وقلة الوازع الديني لديهن, يرين في الحجاب قيدا, وفي كمال الاحتشام حرجا, مشاهد لقلة من فتياتنا زهدن في إرادة الله, وخضعن لإرادة دعاة الشهوات؛ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].

 

لكم يتفطر القلب أسى وحزناً على أولئك الفتيات الزهراوات اللاتي طاشت بهن الأهواء, وأسلمن أنفسهم بكل غفلة وبلاهة لكل ناعق!, فيا ليتَهن يَعين خططَ الماكرين، وترتيبات المخادعين؛ فيحفظنَ حياءهنَّ، ويلتزمن بستر ربهنَّ عليهنَّ، مِن قَبلِ أن يُجرحنَ جرحًا لا تُذهِبُ الأيَّام أثرَه، لَيْتَهنَّ يَرْعَين نعمةَ الله عليهنَّ، مِن قَبلِ أن يبتلين بما ابتليت به المرأة الغربيَّة والمستغربة، حين كشفتْ وجهها؛ توالت تنازلاتها فصارت إلى ما تعلمون.

 

ليت الشاردات عن صراط الله, المولعات بثناء الناس, الغافلات عن رب الناس, يتذكرن أنهن مفتاح الأمن الأخلاقي؛ فبالستر والحياء تفتح أبوابه, وبالتهتك والعري توصد أبوابه, وتنفتح على الأمة أبواب الشرور  والمحن؛ "إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".

 

إنها سنة جارية: من كشفت اليوم عن وجهها؛ فستكشف غدا عما سواه, وللشيطان خطوات, فلا تتبعوا خطوات الشيطان؛ إنه لكم عدو مبين.

 

ويا أيتها الثابتات في زمن النكوص والانهيار, أيتها الشامخات في زمن الانكسار, الثبات الثبات, والصبر الصبر أمام أمواج الإغراءات والضغوطات, وفتنة السقوط والنكوص على الأعقاب, فأنتن في أيام الصبر للمتمسك فيهن أجر خمسين من صحابة رسول الله.

 

فهنيئا لمن ثبتت يوم أن قل المعين, واشتد كيد العابثين, وإنما الصبر عند الصدمة الأولى, ويوم يقوم الناس لرب العالمين؛ يحمد القوم السرى, ويقال للثابتين: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 24].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المرفقات

وأُخر شامخات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات