وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2023-09-29 - 1445/03/14 2023-10-09 - 1445/03/24
عناصر الخطبة
1/أفضل الأماكن في الأرض 2/فضائل المسجد 3/تنظيم الإسلام للعلاقات بين المصلين في المسجد 4/حقوق عمار المساجد 5/أمور محظورة في المساجد 6/صيانة المساجد عن علائق الدنيا وحظوظها

اقتباس

في المسجد الكل بين يدي الله -تعالى- عبيد، والجميع لعطاء الله وكرمه فقير، فيجب أن تختفي الرتب العلمية، والانتماءات العرقية، ويذهب الجاه، وتزول الأرصدة والمكانة الاجتماعية...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: الأرض ومن عليها كلها لله -تعالى-، خلقاً واستحقاقاً، (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف: 128]، والله -سبحانه- يخلق ما يشاء ويختار، وقد فضَّل بعض البقاع على بعض، ومَايز بين الأماكن، ففي الحديث: "أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا"(رواه مسلم).

 

وقد أوحى الله -تعالى- إلى نبيه في سورة الجن جملة من الوحي، افتتحت بـ(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الجن: 1-2]، وأوحي إليه أيضاً (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18]، والإضافة هنا إضافة تشريف وتكريم، ورفعة ومكانة.

 

عباد الله: المساجد وبقاعها وأرضها خالصة لله -تعالى-، لا يشوبها شِرْك، ولا يُخالطها لغو، ولا يعتريها دَنس ولا نجس، فحين يضع المصلي أولَ قدمه في المسجد فهو في حرم الله -تعالى-، وفي بيتٍ من بيوته، يُقبل على الله -تعالى- بكُلّيته؛ بقلبه وجسده، وفكره وجوارحه، ففيها ومن فيها، يجب أن يكون لله -تعالى- خالصاً، ومن شوائب الدنيا وغثائها خالياً، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)[النور: 36]؛ قال الحسن البصري: "أي تُعظَّم ويُرْفَع شأنها"(المحرر الوجيز: 4/186).

 

فالسلام على المصلين والحديث معهم، وصلاة النافلة والفريضة، وقراءة القرآن، والذكر والتسبيح والدعاء، يجب أن تكون كلها لله -تعالى- وفي الله، لا رياء ولا سمعة، ولا محبة ثناء أو طلب إطراء، فضلاً عن لعاعةٍ دنيوية أو مصلحة شخصية، ففي المسجد الكل بين يدي الله -تعالى- عبيد، والجميع لعطاء الله وكرمه فقير، فيجب أن تختفي الرتب العلمية، والانتماءات العرقية، ويذهب الجاه، وتزول الأرصدة والمكانة الاجتماعية.

 

 ولذا أَحْكمت الشريعة العلاقات في المسجد، وَرَسَمت السياسات الشرعية؛ بُعداً عن النزاع، وحفظاً لكرامة المكان، فحدَّدت من أحق الناس بالإمامة، وأولى الناس بالأذان، بل وفي وقوف المصلين وصفوفهم في الصلاة، لتكون تلك البيوتُ خالصةً لله -تعالى- وفي الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18].

 

عباد الله: إن للمساجد عُمّاراً، وفيها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وقد حفظ الله -تعالى- لرواد المساجد وعُمَّاره حقوقهم، فجاء الأمر الرباني بالتطهر وأخذ الزينة عند كل مسجد (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]؛ بُعداً عن التلوث البصري، وحفظاً عن إيذاء المصلين بلبسٍ أو رائحةٍ، أو أدنى مضايقة، فتُنَزَّه المساجد عن الروائح الكريهة، والأقوال السيئة، والمشاحنات الشخصية، وتصفية حسابات دنيوية، فالمساجد أعلى وأكرم وأجل وأعظم.

 

 سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صوت رجل في المسجد، فقال: ما هذا الصوت! أتدري أين أنت؟! فكل من آذى جيرانه في المسجد، بأن يكون ذَرِب اللسان سليطاً، أو كان ذا رائحة قبيحة، أو عاهة مؤذية، فإن الملائكة تتأذى منه، وقد أفتى بعض العلماء بإخراجه من المسجد، وفي الحديث: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"(رواه مسلم: 564).

 

 كل هذا لتستقرَ النفوس وتهدأَ القلوب، وتُقبلَ على عبادتها وصلاتها ودعائها بطمأنينة وسكينة، حتى لا يَقَطَع حبلَ وَصْلِها، ووصلَ عبادتها، كلمةٌ نابية، أو رائحة مؤذيةٌ، أو تصرف شائن (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18].

 

عباد الله: إن كان في الدنيا جنة تَستروِح فيها النفوس، وتطمئن فيها القلوب، فهي المساجد وبيوت الله -تعالى-، ذاق طعمها مَن تردَّد عليها ومكث فيها، وعرف قَدرها من حال دونه ودونها عارض صحي أو مانع جسدي، قال أبو الدرداء: لتكن المساجد مجلسك، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -عز وجل- ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن والجواز على الصراط يوم القيامة"(رواه البزار بإسناد صحيح).

 

ولا غرو فهي ومن فيها كله لله -تعالى- وفي الله، فلن تعدم دعوةً صادقة أو ابتسامةً عابرة، أو محبةً خالصة، أو تذكيراً بالله والدار الآخرة، قال أبو إدريس الخولاني: "المساجد مجالس الكرام من الناس"(رواه أبو نعيم في الحلية: 5/123).

 

ولذا فلا يعمل فيها غيرُ الصلوات والأذكار وقراءة القرآن، وفي الحديث: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن"(رواه مسلم: 285).

 

 ولا بأس بحديث عابر، وكلام مرسل في الدنيا وسواها مما هو مباح ولا إثم فيه؛ فقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أصحابه يتحدثون بالمسجد وهو معهم ويقرهم على ذلك، فعن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟. قال: نعم، كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم -صلى الله عليه وسلم-"(رواه مسلم).

 

ولكن ينبغي أن لا يشغل من حوله من المصلين أو التالين للقرآن أو المشتغلين بالعلم، ويجتنب الأقوال أو الأفعال المحرمة.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن كانت المساجد لله -تعالى- خالصة، فإنها تُصان عن كل علائق الدنيا وحظوظها كالبيع والشراء، وإنشاد الضالة، وطلب مفقود، فقد سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً ينشد عن جمله الأحمر فقال: "لا وجدتَ، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له"(رواه مسلم: 569).

 

كما ينهى عن رفع الصوت في المسجد وإحداث اللغو فيه، خاصة سؤال المصلين لرفع فاقة أو دفع حاجة، فإن كان السائل مضطراً لحاجته، وانتفاءِ ما يزيل عوزره، فيسعه الجلوسَ مؤخرة المسجد، ولا يجهر بمسألته جهراً يضر بالمصلين، ويقطع عليهم ذكرهم، أو يشوش عليهم عبادتهم..

 

وإن مما عمت به البلوى وكثرت منه الشكوى ما يصدُر من أجهزةِ الجوَّال من مقاطعَ غنائِيَّةٍ ونغماتٍ موسيقيِّةٍ؛ فقد آذت أيَّما إيذاءٍ، و عَلى كلِّ مسلم يخشى ربَّه أن لا يدنِّسَ بيوتَ الله بهذه النَّغَمات المحرَّمةِ والأجراس الشيطانيَّة، واللهُ -تعالى- يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].

 

وبعدُ عباد الله: حَرِيّ بكلّ مُصَلٍّ استشعار حرمة المكان، وعِظَم هذا البيوت، فيُقبل عليها بقلبه قبل بدنه، وروحه قبل جسده، ومَن تهاون في ارتيادها، وتكاسل عن غشيانها، فقد حرَم نفسه روح الدنيا وجنتها، وخيرها وحلاوتها...

 

هذا وصلوا وسلموا على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا.doc

وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات