هل تبحث عن راحة البال؟

زيد بن مسفر البحري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ مفهوم القناعة 2/ ثمراتها 3/ السبيل إليها 4/ حاجتنا لها 5/ قناعة النبي الكريم وزهده 6/ صور من قناعة السلف الصالح

اقتباس

يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "لا يكمل غنى القلب إلا بغنىً آخر، ألا وهو غنى النفس... أَنْ يقلّل من حظوظ النفس، وأن يدع المراءاة".

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا عباد الله، تحدثنا في الجمعة قبل الماضية عن الطمع، فما هو علاج الطمع؟ علاج الطمع جوابه في كلمة واحدة: "القناعة"، وورد حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو: "القناعة كنز لا يفنى"، لكنه ضعيف جدا، فلا يعول عليه، وإن كان معناه صحيحا، فـالقناعة كنز لا يفنى، تُرى، ما هي القناعة؟.

 

القناعة: أن ترضى بما تسهَّل لك من أمور الدنيا، وألا تحرص على السعي وراءها، وأن تقنع وتقهر نفسك على ذلك؛ ولذا، لما سئل بعض الحكماء: ما هي القناعة؟ قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"، فإذا رضيت بما لديك وانقطعت أمانيك فهذه هي القناعة.

 

ولذا مدح الله -عز وجل- أقواما هم فقراء، ومع ذلك قال -عز وجل- عنهم: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) [البقرة:273]، مع حاجتهم إلى السؤال، لا يسألون الناس لقناعتهم، بل إذا رآهم الرائي ظن أنهم أغنياء، ولذا أمر الله -عز وجل- من كان وليا لليتيم وكان غنيا ألا يأخذ من ماله شيئا ولو كان يقوم على ماله: (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:6].

 

"قد أفلح" هذا خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، "قد أفلح"، ما هو الفلاح؟ هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، و(قد) هنا للتحقيق، بل قال النحاة: إن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي دلت على القرب، فدل على أن هؤلاء المذكورين في هذا الحديث قد أفلحوا وهم في فلاح، قال -صلى الله عليه وسلم- "قد أفلح"، مَن؟ "مَن أسلم، ورُزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه".

 

وعند الترمذي، من حديث فَضَالة بن عبيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن نوعا من هذا الفلاح، قال: "طوبى"، و"طوبى" قيل: هي اسم للجنة، وقيل: اسم شجرة في الجنة، "طوبى لمن هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع".

 

إذاً؛ لما طابت نفوسهم بهذه القناعة قنَّع الله -عز وجل- حالهم في الآخرة فرزقهم طوبى، ولذا من لم يقنع لن يغتني أبدا، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، ماذا قال؟ قال: "ليس الغنى غنى العَرَض"، أي عرض الدنيا، "ولكن الغنى غنى النفس".

 

تصور لو أن إنسانا لديه أموال كثيرة ويحرص على أن يزيد هذا المال، ما اقتنع؛ لأنه يشعر في نفسه أنه في حاجة وفقر، ولذا  لا يكون الإنسان قنوعا إلا إذا شكر الله -عز وجل- على حالته وعلى ما هو فيه من العيش، النبي -صلى الله عليه وسلم-... أوصى أبا هريرة -رضي الله عنه- بوصايا ...، قال: "يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس"، موضع الشاهد: "وكن قنعا تكن أشكر الناس".

 

وسبب بلائنا أننا ننظر إلى الغير مع أن لدينا خيرا عظيما، لكن بعضنا ينظر إلى ما في يد الآخرين فلا يقنع بما لديه، ومن ثمَّ لا يشكر هذه النعمة التي بين يديه، والتي حُرم منها أناس آخرون، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، واللفظ لمسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم"، لِمَ؟ "فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم"، عندك نعمة، إذا رأيت ما في يد الغير ولم تقنع بما في يدك لم تشكر الله -عز وجل- وحقرت هذه النعمة.

 

يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "لا يكمل غنى القلب إلا بغنىً آخر، ألا وهو غنى النفس... أن يقلل من حظوظ النفس، وأن يدع المراءاة".

 

ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري من حديث عمرو بن تغلب، أعطى قوما عطية وترك آخرين، فمن تُرِك كأنه عتب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إني أعطي قوما لما أخاف من ظَلعهم"، يعني من اعوجاجهم عن الطريق المستقيم، "لِما أخاف من ظلعهم وجزعهم، وإني أدع أقواما لما أعلم في قلوبهم من الخير والغنى"، نسأل الله -عز وجل- أن يملأ قلوبنا غنى وخيرا. "وإني أدع أقواما لما أعلم في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب"، قال عمرو: "ما أحببت أن لي بكلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- حُمْر النعم"، وهي الإبل الحمراء النفسية عند العرب.

 

وإن أعظم الأولياء ... من كان قنعا، قال -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ"، يعني قليل المال، "ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاع ربه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نفض يده"، مبينا أن هذا الرجل مغمور في الناس لا يُعرف مع أنه عند الله له قدر عظيم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "عُجِّلت منيته، قلَّت بواكيه، قلَّ تراثه"،  ثم ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر هذا الحديث مثلا يقتدى ويتأسى به، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن ربي عرض عليّ بطحاء مكة أن تكون ذهبا، فقلت: لا يا ربي، أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جُعت يا ربي تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت شكرتك ربي وحمدتك".

 

ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الحاكم  كان يدعو ربه أن يقنّعه، ونحن بحاجة إلى أن ندعو الله -عز وجل- ليل نهار، صباح مساء، أن يقنع نفوسنا، ولا سيما في هذا الزمن الذي تناظر الناس فيه بعضهم إلى بعض فيما في أيديهم، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الحاكم كان يقول: "اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه"، لم؟ لأن من قنع لم يَلْهُ قلبه عن طاعة الله -عز وجل-...

 

النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "ما طلعت شمس يوم قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان ويسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإن ما قلَّ وكفى خيرٌ من ما كثر وألهى، وما غربت شمس يوم إلا وبجنبتيها ملكان يقولان: اللهم عجِّل لمنفقٍ خلفا، وعجِّل لممسك تلفا".

 

ولذا كان رزق النبي -صلى الله عليه وسلم- كفافا، بل قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا"، وقال كما في الصحيحين: "اللهم ارزق آل محمد قوتا"، القوت: ما يقتات به الإنسان بقدر الحاجة، وهذا هو الكفاف.

 

فما هو عيش النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ لنضرب بعض الأمثلة وبعض النماذج حتى نقنِّع أنفسنا، وحتى ندرك ونعلم أننا بخير وفي خير، والله ما جاء مع هذا الدين من خير فإنه خير عظيم... تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين لعروة بن الزبير -رضي الله عنهما-: "ابن أختي، إنا آل محمد لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ما يوقد في بيت آل محمد نار"، في جميع بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم-! قال: يا أُماه! ما طعامكم؟ قالت: "الأسودان: التمر، والماء"، مع أن هذا التمر لا يرغب فيه أجيالنا في مثل هذه السنين، ولذا تقول -رضي الله عنها- كما في الصحيحين: "ما أكل آل محمد في يوم أكلتين إلا كانت إحداهما تمرا"، لا يمكن! التمر وجبة أساسية في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقلة ما في يديه! صلوات ربي وسلامه عليه! "ما أكل آل محمد في يوم أكلتين إلا كانت إحداهما تمرا".

 

وتقول -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري: "كان فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- من أَدَم"، يعني من جلد، حشوه من ماذا؟ من قطن؟ لا والله! من ليف! "كان فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- من أدم حشوه ليف".

 

يقف أنس ابن مالك على خبازه، كما في صحيح البخاري، وكان حوله أصحابه، فقال أنس -رضي الله عنه-: "كلوا، والله ما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغيفا مُرَقَّقا حتى لحق بربه"، ما رآه! ماذا نقول لأنفسنا؟ ولذا تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: "لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت في يوم مرتين"، خبز وزيت، ما هو هذا الزيت؟ أين موائدنا؟ أين أطعمتنا؟ أين أشربتنا؟ أين قناعة نفوسنا؟ يقول أنس -رضي الله عنه- كما عند البخاري: "ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خِوان حتى لحق بربه"، الخوان مثل الطاولة، يعني: ما أكل على شيء مرتفع عن الأرض أبدا، ما أكل إلا على الأرض -صلى الله عليه وسلم-.

 

وتقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير"، الشعير ليس الدقيق ولا البر، "ما شبع آل محمد -صلوات ربي وسلام عليه- من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبض".

 

وقد صدق الشاعر حينما قال:

   والنفس راغبة إذا رَغَّبتها *** وإذا تُرد إلى قليل تقنع

 

أبو حازم كتب إليه وال من الولاة: ارفع إليّ حوائجك، فقال: "قد رفعت حوائجي إلى ربي، فما أعطاني منها قبلتُ، وما أمسك عني قنعت".

 

سالم، أبوه من؟ عبد الله، جده من؟ عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، يصادفه أحد الخلفاء وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا سالم سلني، فقال: "إني أستحيي من الله أن أسأل غيره وأنا في بيته"، فلما خرج قال هذا الوالي: سلني يا سالم، فقال سالم: "أسألك من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟"، قال: من حوائج الدنيا فإن حوائج الآخرة لا أملكها، فقال سالم -رحمه الله-: "والله! ما سألت حوائج الدنيا ممن يملكها وهو الله، فكيف أسألها ممن لا يملكها!"

 

نسأل الله -عز وجل- أن يقنع قلوبنا...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا عباد الله، محمد بن واسع، وهو أحد التابعين -رحمه الله- كان يبل الخبز اليابس بالماء، فكان يقول لأحد أصحابه: "من وجد هذا فقنع به لم يحتج إلى أحد أبدا".

 

وقال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس هما الحسود"، نعم والله! دائما في هم وقلق؛ لأنه يرى ما في أيدي الآخرين ولا يستطيع أن ينال مثله، ولذا صدق الشاعر حينما قال:

 إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يلق في ظلها هَمَّاً يؤرقه

 

قال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس هما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص على طمع، وأعظمهم ندامة العالم المفرط".

 

فهل يُخْلِدنَّ ابني هشام غناهما *** وما يجمعان من مئينَ ومن ألف؟

يقولان نستغني ووالله ما الغنى *** من المال إلا ما يُعف وما ويكفي

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- اختصرها كما عند ابن ماجة: "ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما أيدي الناس يحبَّك الناس".

 

الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أحد علماء اللغة، توفي سنة مائة وسبعين، وهو الذي أنشأ وألف علم العروض، وله باع طويل في هذا، المهم أن والي الأهواز واسمه سليمان عرض عليه أن يؤدب وأن يعلم أبناءه، فأخرج الخليل بن أحمد الفراهيدي خبزا يابسا وقال: متى ما وجدت هذا فلا حاجة لي في سليمان ولا في ملكه، ثم أنشد قائلا:

 أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مال

 شحا بنفسي أني لا أرى أحدا *** يموت هزلا ولا يبقى على حال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** وقبل ذاك الغنى في النفس لا في المال

 

نسأل الله -عز وجل- أن ينظف قلوبنا...

 

 

 

المرفقات

تبحث عن راحة البال؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات