عناصر الخطبة
1/ حكمة ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم 2/ مشاهد من ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم 3/ صنيع أعداء الدعوة في كل زمان ومكان مع حملتها ودعاتها 4/ مفاسد تشويه صورة الدعوة والإساءة إلى الداعية 5/ خطورة المشهد الإعلامي المضلل ضد دعوة الحق. 6/ الثقة واليقين بنصر الله لدينه.اقتباس
إن أعداء الدعوة قد يكونون من الأقارب وممن الأصل فيهم مناصرة الدعاة، ولكنهم للأسف هم من يسيء إلى الدعوة، ويحرّض ضد الدعاة، والأشد نكاية حينما يكون مسعاهم وممشاهم من أجل تشويه صورة الدعوة والإساءة إلى الداعية، والطعن بدعوته وقيمه وأفكاره الصادقة. وهذا ما يلاقيه الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان. نعم، يا عباد الله، هكذا ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بإعلام الغواية ضد ما جاء به من الهداية، وهكذا يبتلى أتباعه من بعده. ولك أن تتصور معي هذا المشهد الإعلامي المضلل ضد دعوة الحق...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، وبعد:
رغم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جاء إلى الناس حاملا لهم الهداية والرحمة والخلق إلا إنه قد واجَه منهم ابتلاءات عظيمة لا تطيقها الجبال الراسيات. ابتلاءات جسام بدأت تنهش به -صلى الله عليه وسلم- واستمرت حتى موته، وهي لم تنقطع عن أتباعه ولن تنقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكأن الرسالة التي أرادها الله أن تصل للجميع، أنني هكذا ابتليتك أيها النبي الكريم الحامل لدعوتي وديني، وهكذا أبتلي أتباعك ممن حملوا رسالتك.
نقف في هذه الخطبة على مشاهد من تلك الابتلاءات الجسام، فقط تلك التي حاول فيها أعداء الدعوة تشويه صورة دعوته والتشويش عليها، هي ذاتها مع كثير التفنن التي تصيب حَمَلة دعوته من بعده إلى يوم الدين.
نعم، يا عباد الله، هكذا ابتُلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بقيام أعداء الدعوة بالحيلولة بينه وبين الناس لئلا يستمعوا إليه ويلتقوا به ويسمعوا الحق منه، وهكذا يُبْتَلى أتباعه من بعده.
فقد أخرج أبو نُعيم في الدلائل أن الطُفيلَ بن عمرو الدَّوْسي- وكان رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً- لما قدم إلى مكة مشى إليه رجال من قريش، فقالوا له: يا طُفيل، إنَّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرّق جماعتنا، وإنّما قوله كالسحر، يفرِّق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلِّمْه ولا تسمع منه.
قال: حتى حشوت أذنيَّ حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً -قطنًا-؛ فَرَقاً من أن يبلغني من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً، فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن ولا أمراً أعدل منه. قال: فأسلمت".
وتأمل معي كيف سارع أعداء الدعوة إلى التقاط الرجل قبل أن يلتقي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف قاموا بتشويه حقيقة دعوته، ووصفها بالأوصاف المريعة حتى يحولوا بينه وبين حب الاستماع والتعرف على هذه الدعوة.
وهذا هو صنيع أعداء الدعوة في كل زمان ومكان مع حملتها ودعاتها؛ حيث يسعون للحيلولة بين الناس وبين الدعاة الصادقين حملة دين محمد -صلى الله عليه وسلم-. هو ما سطّره القرآن في حقّهم ومَنْ كان على شاكلتهم إلى يوم الدين. حينما قال ربنا العظيم في كتابه العظيم: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)[الأنعام: 26]، المراد أنهم "ينهون الناس عن اتباع الحق، وينأون عنه أي: ويبتعدون هم عنه. لا ينتفعون ولا يتركون أحدًا ينتفع".
فكم من الناس المثبورين من المسلمين أنفسهم يقف حجر عثرة ومعيقًا وسدًّا منيعًا في طريق الدعاة فلا يتركهم يعملون لدعوة الله، ولا هو بنفسه يخدم دين الله. وهذا من أقبح الخلق عند الله –تعالى-؛ لأنه ما تعبد الله بالدعوة إلى دينه وما ترك الدعاة إلى الله يعبّدون الخلق للخالق سبحانه.
نعم، يا عباد الله، هكذا ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بالتحذير الدعائي من دعوته وأفكاره، وهكذا يبتلى أتباعه من بعده. واستمع معي إلى هذا الموقف. يقول رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا". وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً يَقُولُ شَيْئاً وَهُوَ لاَ يَسْكُتُ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا"، إِلاَّ أَنَّ ورَاءَهُ رَجُلاً أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.
وهكذا فإن أعداء الدعوة قد يكونون من الأقارب وممن الأصل فيهم مناصرة الدعاة، ولكنهم للأسف هم من يسيء إلى الدعوة، ويحرّض ضد الدعاة، والأشد نكاية حينما يكون مسعاهم وممشاهم من أجل تشويه صورة الدعوة والإساءة إلى الداعية، والطعن بدعوته وقيمه وأفكاره الصادقة. وهذا ما يلاقيه الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.
نعم، يا عباد الله، هكذا ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بإعلام الغواية ضد ما جاء به من الهداية، وهكذا يبتلى أتباعه من بعده. ولك أن تتصور معي هذا المشهد الإعلامي الغوائي المضلل ضد دعوة الحق. عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [لقمان: 6].
وهكذا يصنع أعداء الدعوة في كل زمان ومكان بالعمل على إغراق الناس بعالم الغناء والرقص والمسابقات الطربية وغيرها؛ ليصرفوهم عن سماع الهدى واتباع الحق. وفي زماننا هذا كم شهدنا من قنوات فضائية تكلف الملايين وما وجدت إلا لنشر إعلام الغواية والفتنة والطرب والمسلسلات والأفلام؛ لتكون قوة صارفة للشباب وللفتيات عن الاستماع لدعوة الحق! وكم من فضائيات الفرق الضالة والمنحرفة التي فتحت لتصرف الناس عن طريق الهداية!
نعم، يا عباد الله، هكذا ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بالتآمر الجماعي على تشويه دعوته، وهكذا يبتلى أتباعه من بعده. أرجوك قف مع هذا الموقف المشين في محاولة أعداء الدعوة تشويه دعوة الهدى.
لما قرب موسم الحج، وعرفت قريش أنّ وفود العرب ستقدم عليهم، رأت أنه لابد من موقف موحد يقولونه للناس، في شأن دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوسهم، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في ذلك الموقف، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضًا، قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم.
قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر، ثم قال لهم: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته.
وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)[المدثر: 18- 26].
فكم يمكن أن ينزل الله في أعداء الدعوة في هذا الزمان الذين يصلون الليل بالنهار وهو يكيدون لدعوة القرآن ولحملة رسالة نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-. كم من اجتماعات ولقاءات وتشاورات يعقدها أعداء الدعوة للكيد بهذه الدعوة وبحملتها الصادقين المخلصين.
نعم، يا عباد الله، هكذا ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته، ابتلي بالإيذاء النفسي. وهكذا يبتلى أتباعه من بعده.
فقد رمى أعداء الدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأوصاف حاقدة، وسبوه بشتائم بغيضة، فوصفوه بالجنون، كما قال ربك عنهم: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)[الحجر: 6]، ووصفه بالسحر والكذب، كما قال ربك ذلك عنهم: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)[ص: 4]، وقد كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- همزَه ولمزَه. وفيه نزل: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة: 1].
نعم، لقد بلغ إيذاؤهم النفسي للنبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغا عظيما حتى قال له ربه في القرآن: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)[الحجر: 97]، وقال له سبحانه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)[الأنعام: 33].
وهذا ما يجده الدعاة وحَمَلة الدين والعلماء الصادقون من بعض الناس اليوم، يجدون منهم السب والقدح والشتم والطعن، وغير ذلك من الكلام المؤلم للنفس والجارح للمشاعر والكرامة، لا لشيء إنما لأنهم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
عباد الله، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحمل للناس وكذلك أتباعه- إلا حبّ الهداية وما قال لهم إلا: "أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا". فهذه كلماته وهذه كلمات أتباعه للناس إلى يوم القيامة، ومع ذلك فقد أُوذي نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حامل هذه الدعوة الأول، ومع ذلك أيضًا يؤذى أتباعه ممن حملوا أمانة الدعوة من بعده، يؤذون من قبل أراذل القوم ومن قبل طغاته وعتاته وصناديه من بني جلدتنا كما هو من الغرباء عنا.
أقول قولـي هـذا وأستـــغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: "هكذا ابتُلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تشويه دعوته وهكذا يُبتلى أتباعه"..
ويبقى قول ربك هو السنة التي لا تتبدل والفصل الذي لا ينازع: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)[الأنعام: 34]. ويبقى قول نبيك -صلى الله عليه وسلم- هو الطريق الثابت التي لا تميل، حينما سأله سعد: يا رسول الله: أيّ الناس أشد بلاء؟، قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" (رواه أحمد).
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم