هذا القرآن (2)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/قصة إجابة القرآن عن الأسئلة التي كانت محيرة للدكتور جفري لانغ2/قصة تأثر شاب استرالي بالقرآن

اقتباس

مع مرور الزمن توطدت العلاقة بيني وبين العائلة المكونة من هذين الشابين وإخوتهما الصغار وأمهم، فكأنهم تبنوني بعد رحيلي عن عائلتي، ويبدو أن العائلة التي يتكلم عنها لم تكن متدينة، حيث يقول: لقد كانت علاقتي مع محمود وهو الابن الأكبر علاقة لهو ومرح طبيعية، فهو الذي عرفني على...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عندما انتقل الدكتور جيفري لانج إلى سان فرانسيسكو ليدرس الرياضيات في جامعتها، كان قد شحن كتبه من ولاية إنديانا عبر شركة قليلة التكاليف، فتأخر وصول الكتب، وكان ينتظر وصول الكتب بشغف؛ لأنه يهوى القراءة، وفي غمرة انشغاله بالتعرف على المدينة، التقى بشاب وفتاة عربيين مسلمين، يقول: ومما أدهشني أنني رأيت منهم عقلانية ولطفا، خلاف ما كنت أتصوره عن دين الإسلام، بأنه دين بربري متوحش..

 

ومع مرور الزمن توطدت العلاقة بيني وبين العائلة المكونة من هذين الشابين وإخوتهما الصغار وأمهم، فكأنهم تبنوني بعد رحيلي عن عائلتي، ويبدو أن العائلة التي يتكلم عنها لم تكن متدينة، حيث يقول: لقد كانت علاقتي مع محمود وهو الابن الأكبر علاقة لهو ومرح طبيعية، فهو الذي عرفني على بارات سان فرانسيسكو، ولذلك ارتحت لصحبته ولما رأيت أن العائلة ليست متدينة لم أمانع في أن أفتح الحديث معهم عن الدين، وفي إحدى النقاشات أو أحد النقاشات سألوني: ما هي عقيدتي؟ وهو سؤال غالبا ما كنت أتحاشاه مع غيرهم؛ لأنها مسألة شخصية، ولكن لإحساسي بالقرب منهم أجبتهم بصراحة: أنا لا أؤمن بالإله، يقول: فصعقوا وكأنما أخبرتهم أني مصاب بمرض السرطان، لماذا راحوا يسألوني ما السبب، فقلت لهم: إن الفساد والقتل المنتشر في الأرض لا يدل على وجود رب رحيم، كما علموني في الكنسية، واحتدم النقاش، يقول: وهم يذكرون أسبابا لوجود الإله، وأنا أضع أسبابا تخالفها..

 

وهكذا، وطال النقاش طويلا، حتى وصل الأمر أن ترجوني قائلين: جيف أرجوك أن تكف عن النقاش في الدين، هم يقولون هذا إنه لا يبدو مفيدا لك، ولا مفيدا لنا، فشعرت بالخجل؛ لأني أحرجتهم بأسئلة وحجج لا يملكون من المعرفة بدينهم ما يؤهلهم للنقاش، أو الرد عليها، يقول: ومرت الأيام وفي ذات يوم وأنا أدخل مكتبي في الجامعة، إذا بي أرى كتابا أخضر غريبا على طاولتي، فاقتربت منه، فإذا مكتوب عليه تفسير القرآن باللغة الإنجليزية، يقول: هناك شيء يجب أن تعرفه عن الملحد، لا تحاول دفع دينك إليه، فإن ذلك يغضبه، ولذلك غضبت بشدة، وظللت في مكتبي واقفا لفترة، وأنا أنظر إلى الكتاب، وربطت بينه وبين تلك العائلة المسلمة، أكيد هم الذين وضعوا هذا الكتاب، وأخذت أقول في نفسي: ماذا يعنون بهذا التصرف هل يجب أن أكون مسلما، حتى تستمر صداقتنا، هل يحاولون تبديل عقيدتي؟ ثم فكرت قليلا وقلت في نفسي: يجب أن أفكر بٍأسلوب عقلاني، لا عاطفي بالعائلة، أصلا ليست متدينة، فهم يعزموني على طعام الغداء في رمضان، يعني لا يصومون ولم أر أحدا منهم يصلي قط، فلا أظن يريدون أكثر من أن يقولوا: جيف نحن لا نعرف عن ديننا إلا اليسير، فهاك القرآن، فتعرف على ما سألت عنه بنفسك، فاعتبرته مجرد هدية، ووضعته على الرف، وقلت: لعلي أطلع عليه لاحقا، ومرت أسابيع ونسيت أمر هذا الكتاب، يقول: وتأخر وصول الكتب من ولايتي السابقة، وكنت قد قرأت جميع ما في بيتي من كتب بعضها مرتين، ما عدا ذلك الكتاب، وجلست ليلة ما أشعر بالملل ولا أجد شيئا أفعله، فإذا بي أرى ذلك الكتاب أمامي على الطاولة فتناولته، وقلت: لعلي أقرأ منه بعض الصفحات، وكنت قد قرأت عددا من الكتب الدينية من قبل، وأتوقع أسلوبها المعهود، ففتحت القرآن من بدايته، وبدأت أقرأ سورة الفاتحة وبدايتها صفات للإله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين)[الفاتحة: 1-4].

 

عبارات يقول: طبيعية معهودة في تعظيم الإله، فلما قرأت: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 5] تبين لي شيء فريد، لقد تحولت العبارات من كونها إنشائية خبرية إلى طلبيه، ووجدت نفسي أنا الذي لا أؤمن بالإله، أقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 5] فقلت في نفسي: يا له من كاتب ذكي خدعني؛ لأن أطلب الهداية من إله أصلا، لا أؤمن به، فزادني ذلك فضولا في الاستمرار، وبدأت أقرأ سورة البقرة: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى)[البقرة: 1-2].

 

هدى، فقلت: إن هذا الكاتب فعلا عبقري، لقد استطاع بداية أن يجعلني أدعو الإله بالهداية، وها هو الآن يبين لي سبيلها، إنه ذلك الكتاب، حتى يشدني إلى إكمال قراءته، إنه فعلا كاتب بارع، ومضيت أقرأ وأنا معجب بالأسلوب البديع المتناسق، فكانت الآيات اللاحقة تتحدث عن عدة أشياء، عن المعرضين، عمن في قلوبهم مرض، عن تشكيك هؤلاء بمثل الذي استوقد نارا، ثم دعوة الناس إلى عبادة الله الخالق، ثم مثال البعوضة، وفجأة إذ بالآيات تنقلني إلى مشهد خطاب الإله للملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة: 30].

 

يقول: إنه مشهد رهيب مهيب، الرب يخاطب الملائكة خطابا إليها، ويعلن إعلانا هاما، والملائكة يستمعون: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالت الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ)[البقرة: 30].

 

يقول عندما قرأت هذا المقطع: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ)[البقرة: 30]..

 

تجمدت في مكاني، كنت أظن أني الآن وقد أصبحت أستاذا جامعيا في بلاد بعيدة عن موطني، وأقترب من الثلاثين من العمر، أعتقد أني استطعت أن أفر من الماضي الحزين الذي عشته، كنت أظن أني استطعت أن أرمي بالماضي في الخلف، وأستقبل حياة جديدة، وإذ بهذه الآية تعود بي إلى ذلك الماضي سنوات وراء سنوات في أقل من لحظة واحدة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ)[البقرة: 30].

 

وبدأ شريط الذكريات يمر أمامي، أبي وهو ينهال بالضرب على والدتي، وهي تصرخ من الألم، والعصابات وهي تصول في حارتنا، إخوتي وهم سكارى من الخمور والمخدرات، القتل والفساد والعنف المنتشر بجميع ألوانه، فقلت في نفسي: هذا هو سؤالي الذي كنت وما زلت أردده سنين عديدة، هذا هو سؤالي الذي أجادل فيه كل من ناقشني في وجود الخالق، إذا كان الرب رحيما فلماذا يسمح بهذا الظلم والقتل والألم والفساد في الأرض، وأحسست بأن هذه العبارة أزاحت عني ثقلا عظيما كان يرهقني طوال حياتي، وشعرت كأن الكاتب حصرني وحيدا في زاوية، ثم وجه هذه العبارة لي وحدي، وقلت في نفسي: إن هذه العبارة كتبت من أجلي أنا، ثم تساءلت: أو يأتي هذا الكاتب بالجواب، ولما قرأت الجواب جواب الرد، قال لي: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 30].

 

غلبتني مشاعري وقلت في نفسي وأنا أخاطب إله أصلا، لا أقر بوجوده: هل تقصد أنك واثق مما أنت فاعل؟ كيف والقتل منتشر والكوارث والآلام تملأ الأرض؟! يقول: لقد كنت أعتقد في تلك اللحظة أن الكاتب قد أحضر هذا السؤال الصعب في بداية كتابه -طبعا هؤلاء النصارى في كتبهم هناك كاتب يكتب تحت الكتاب في الإصحاح الأول لوقا أو متى أو غير ذلك يكتب الكاتب فلان، فهو دائما يقول الكاتب؛ لأنه يعتقد أن رجلا هو الذي كتب هذا الكتاب- يقول: وإنه ينبغي أن يؤجل هذا السؤال الصعب حتى أقتنع بأدلته أولا: لماذا أحضر هذا السؤال في بداية كتابه، لكن جاءت الآية التالية التي أثار عجبي: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 31].

 

يقول: ها هو القرآن يتحدث عن العلم كما لا يتحدث عنه كتاب آخر، وأخذ البروفسور يتحدث عن نعمة الله على الإنسان بالعلم، وتحدث عن سورة العلق التي أكدت على العلم ونعمة العلم: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 5]. ثم قال: الله هنا يعلم آدم الأسماء كلها دون أن تدري الملائكة في سبيل رده على تساؤلهم، ثم يعرض تلك الأسماء على الملائكة، ويقول لهم: (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 31].

 

ليبين قصورهم عنه في العلم، وليعلموا أن تساؤلهم عن الحكمة من جعله الإنسان في الأرض لا تبلغه أفهامهم: (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون)[البقرة: 32-33].

 

يقول: فما استطاعت الملائكة أن تجاري الإنسان في معرفة الأسماء، لكن الذي شدني هنا هو قوله: (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 33] فقلت: الذي أبدوه واضح هو قولهم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) إلى آخر الآيات، لكن: ما الذي كانوا يكتمون؟ يقول: ففكرت قليلا، ثم أدركت وقلت طبعا: إنه وجه العملة الثاني إن كان في البشر من يقتل، ومن يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ففيهم أيضا من يوحد، ومن من يصلح، وفيهم من يشفق، وفيهم من يرحم، وفيهم من ينقذ، هذا ما لم تروه، يقول: وهذا ما لم أره أنا أيضا، هذا ما غاب عني، لقد كنت أنظر إلى جانب واحد فقط، جانب الشر دون أن أنظر إلى جانب الخير، وتبين لي أيضا من خلال القرآن أن وجود الشر هو الذي يميز الخير، ولا سبيل إلى معرفة الخير إلا بالتعرف على الشر، وأن أحد الطرفين الخير والشر يحفز الآخر.

 

لقد فتح القرآن عيني على أبعاد كانت غائبة عن حياتي كلها، إلى تلك اللحظة، وكلما قرأت تناقصت الحيرة، وازددت قناعة، وازدادت الصورة اكتمالا، وكلما أكملت صورة اشتقت لقراءة السورة التي تليها، حتى أكملت القرآن كله، بتفكر عميق في آياته، خلال شهرين، لقد كنت أقرأ القرآن في بيتي وفي المطعم، بل حتى وأنا أسير في طريقي إلى الجامعة، وأقرأه وأنا داخل الجامعة، وأقرأه وأنا في طريقي إلى مكتبي في الجامعة، حتى إن بعض زملائي الأساتذة كانوا يتعجبون، فيسألوني: جيف ما الذي تفعله؟ فأرد عليهم وأنا في ممر الجامعة والقرآن بين يدي: أقرأ، فيسألون: وماذا تقرأ؟ فأرد: أقرأ القرآن، فيقولون: جيف هل جننت هل أنت مجنون؟

 

وتابع البروفسور: بعد عدة أسابيع من قراءتي للقرآن أحسست أن ثمة خطابا إلي، موجه إلي، يدعوني للإيمان، يقول: ولا أخفيكم لقد كنت في لحظات قراءة معينة تنتابني أحاسيس لم أشعر بها من قبل، حتى إني لما قرأت سورة الضحى وبلغت قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) [الضحى: 3] تحرك قلبي بقوة، فلما بلغت قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) [الضحى: 7] ظللت أبكي بكاء طويلا متواصلا، ولقد قال الله -تعالى- في السورة ذاتها: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11] فها أنا ذا أتحدث بنعمة الله عليَّ أن هداني للإسلام.

 

أيها الإخوة: إن هذا القرآن فيه من الخير والهدى والنور ما لا يعمى عنه إلا الشقي.

 

أسأل الله لي ولكم ولأخينا البروفسور لانك، ولسائر الموحدين الثبات على الحق.

 

أقول قول هذا وأستغفر الله فاستغفروه، إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فإن للقرآن أثرا على الإنسان لا ينقطع منه العجب، الأمثلة كثيرة، وأختم بهذا المثال: رجل شاب استرالي نشأ بين أبوين مسيحيين في الأصل، لكن لا يؤمنان بالدين، ربياه على جحود الدين والإلحاد، وهكذا نشأ روبن ملحدا، حتى أصبح شابا في المرحلة الجامعية، يتحدث عن تجربته، فيقول: "مرت عليّ سنة عصيبة وأنا في الجامعة، افترقا فيها والدايّ، ومات أعز أصدقائي، ومات كلبي المخلص، فأحسست بحزن عميق، وفراغ مخيف، جعلني أراجع قيمة الحياة، وصارت في نفسي عدة تساؤلات: لماذا أنا موجود؟ هل هناك سر لا أعرفه؟ ما حقيقة الحياة التي أعيشها؟

 

وبدأت أبحث في الأديان المسيحية أولا بمذاهب أتباعها: الكاثوليك وتعرفت على أصدقاء مسحيين متدينين، وخرجت معهم في مخيم كنسي، لكني لم أقتنع بشيء من منطقهم، كنت أسألهم في المعتقد فلا أجد مرجعا ثابتا يجيبون فيه على أسئلتي، فكل قسيس يعبر تعبيرا خاصا به بحسب فلسفته للنص، وفهمه لما في الكتاب المقدس، ثم بحثت في الهندوسية، ثم اليهودية، ثم البوذية، لكني لم أقبل أيا منها، وفي يوم: كنت أعدد الأديان التي بحثت فيها، وقابلت أتباعها لصديق مسيحي، أقول له: بحثت في الدين الفلاني، قابلت في الدين فلان، فلما انتهيت من تعدادها، قال لي طيب: ماذا عن الإسلام؟ فأجبت مستنكرا: الإسلام هل أنت مجنون إنه دين الإرهابيين، لا أريد أن أقترب منه، لكن الله ساقني إلى مسجد، وأعجبت باستقبال إمام المسجد لي، وشدني في هذا الدين أنني كلما سألت سؤالا: أجابوني بآية من القرآن، وأشاروا إلى الآية، فطلبت منهم نسخة منه، فأعطوني، وذهبت به إلى البيت، وأخذت أقرأ القرآن، وأقرأ، وأحسست أني قريب جدا من الدخول في هذا الدين، ولا ينقصني إلا علامة، أو آية، فتوقفت عن القراءة ذات يوم، ورفعت رأسي إلى السماء، وأخذت أناشد ربي: يا رب أرني آية أية آية؟ أي شيء يا رب؟ فانتظرت وانتظرت، فلم أرى شيئا مطلقا، وأحسست بخيبة، فكررت السؤال مرتين وثلاثة، ثم أخذت أتلفت هنا وهناك، لعل شيئا يحدث، آية آية آية، ورقة تسقط الكهرباء تنطفئ لكن أبدا لا شيء حصل إطلاقا، فخفضت رأسي مهموما يائسا، وأمسكت بالمصحف من جديد، ونظرت إلى آخر آية كنت أقرؤها قبل مناشدتي لربي، فإذا الآية التي تليها مباشرة تقول: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت: 50-51].

 

فقلت: سبحان الله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)[العنكبوت: 51].

 

ما أشد غطرستي إن الآية التي أبحث عنها بين يدي وأنا لا أشعر، إنه الكتاب الحق، إنه الدين الحق، ومن الغد ذهبت إلى المسجد، وتلفظت بشهادة التوحيد".

 

إن هذا القرآن -أيها الإخوة- نور فاعتصموا به، وأعطوه حقه، وجددوا به إيمانكم.

 

أسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.

 

اللهم اجعلنا ممن يتلون كتابك حق تلاوته.

 

 

 

 

المرفقات

القرآن (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات