نور الله تعالى

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/ الله نور وحجابه النور 2/ حيرة العقل أمام هذا الجمال والجلال 3/ من مشاهد النور يوم القيامة 4/ الإيمان والقرآن نور معنوي

اقتباس

وَاللهُ – تَعَالَى - نُورٌ، وَالنُّورُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهِيَ صِفَةُ ذَاتٍ لاَزِمَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى-: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور:35 ]، قَالَ السُّدِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فَبِنُورِهِ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ". وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "النَّصُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللَّهَ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، وَاتَّصَفَ بِصِفَاتِ الجَلاَلِ وَالجَمَالِ وَالكَمَالِ؛ تَمَّ نُورُهُ فَهَدَى فَلَهُ الحَمْدُ، وَعَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا فَلَهُ الحَمْدُ، وَبَسَطَ يَدَهُ فَأَعْطَى فَلَهُ الحَمْدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَجْهُهُ أَكْرَمُ الوُجُوهِ، وَجَاهُهُ أَعْظَمُ الجَاهِ، وَعَطِيَّتُهُ أَفْضَلُ العَطِيَّةِ وَأَهْنَؤُهَا، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، وَيُجِيبُ المُضْطَرَّ، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ، وَيَشْفِي السَّقِيمَ، وَيَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَلاَ يَجْزِي بِآلاَئِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ قَوْلُ قَائِلٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لاَ يَبْدَأُ أَمْرًا ذَا بَالٍ إِلاَّ أَثْنَى عَلَى الله -تَعَالَى- بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَخِرُّ تَحْتَ العَرْشِ فَيَفْتَحُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِمَحَامِدَ يَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِهَا لَمْ تُفْتَحْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تَعْبُدُونَ رَبًّا عَظِيمًا، خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَكَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزُّمر:67].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: كُلُّ حَدِيثٍ عَنِ اللهِ -تَعَالَى- فَهُوَ حَدِيثُ عَبْدٍ مَخْلُوقٍ عَنِ الرَّبِّ المَعْبُودِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَا كَانَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يَعْلَمَهُ لَوْلاَ أَنَّ الخَالِقَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَهُ؛ فَمَعْرِفَتُنَا بِاللهِ -تَعَالَى- هِيَ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، عَلَّمَنَا أَنَّهُ رَبُّنَا وَخَالِقُنَا وَمَعْبُودُنَا، وَأَرَانَا شَيْئًا مِنْ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَعَرَّفَنَا بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَهْمَا عَظَّمْنَا اللهَ -تَعَالَى- فِي قُلُوبِنَا، وَحَمِدْنَاهُ بِأَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا، وَوَصَفْنَاهُ بِأَلْسُنِنَا وَأَقْلَامِنَا؛ فَاللهُ -تَعَالَى- أَعْظَمُ مِمَّا قُلْنَا وَكَتَبْنَا، وَأَجَلُّ مِمَّا عَلِمْنَا وَظَنَنَّا، وَأَعْلَى مِمَّا نَعَتْنَا  وَوَصَفْنَا، وَلَنْ يَبْلُغَ كَمَالَ حَمْدِهِ وَنَعْتِهِ وَمَدْحِهِ مَخْلُوقٌ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحِيطُ نَعْتًا وَوَصْفًا بِمَنْ لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الأَرْضِ كُلُّهُ أَقْلاَمًا لِكِتَابَةِ كَلِمَاتِهِ، وَجُعِلَتْ بِحَارُ الأَرْضِ مِدَادًا لِتِلْكَ الأَقْلاَمِ لَنَفِدَتِ البِحَارُ وَالأَقْلاَمُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؟! وَمَنْ يُحِيطُ وَصْفًا بِمَنِ اسْتَأْثَرَ بِأَسْمَاءٍ لَهُ وَأَوْصَافٍ لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، فَلَمْ يَعْلَمْهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَمَنْ يُحِيطُ وَصْفًا بِمَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، فَلَهُ الحَمْدُ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى هُوَ عَلَى نَفْسِهِ.

 

وَاللهُ -تَعَالَى- نُورٌ، وَالنُّورُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهِيَ صِفَةُ ذَاتٍ لاَزِمَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى-: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور:35 ]، قَالَ السُّدِّيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فَبِنُورِهِ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ". وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "النَّصُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللَّهَ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ".

 

وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا جَاءَ بِهِ القُرْآنُ فِي نُورِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ دُعَاءً طَوِيلًا يَفْتَتِحُهُ بِقَولِهِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

 

وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ".

 

فَهُوَ سُبْحَانَهُ نُورٌ، وَحِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ نُورُهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ شَيْءٍ، صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: "احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ بِأَرْبَعٍ: بِنَارٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

 

وَسَأَلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- رَبَّهُ أَنْ يُكْرِمَهُ بِرُؤْيَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْطَاهُ دَلِيلاً عَمَلِيًّا عَلَى ذَلِكَ: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].

 

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ يَقُمْ لِنُورِهِ شَيْءٌ"، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟! قَالَ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "رَأَيْتُ نُورًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَاهُ: حِجَابُهُ النُّورُ فَكَيْفَ أَرَاهُ؟!

 

وَرَوَى أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ -وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ-، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

فَظَاهِرُ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ حِجَابَهُ النُّورُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ نُورٌ، وَأَنَّ نُورَ وَجْهِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَعْنَى سُبُحَاتِ وَجْهِهِ أَيْ: نُورُهُ وَبَهَاؤُهُ وَجَلاَلُهُ، كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ.

 

وَالعَقْلُ يَقِفُ حَائِرًا أَمَامَ هَذَا الجَلاَلِ وَالنُّورِ وَالعَظَمَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَصِفُ أَشْيَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِقَدْرِ مَا تَتَحَمَّلُهُ عُقُولُ البَشَرِ؛ لِأَنَّ الوَصْفَ يُقَرِّبُ الصُّورَةَ، وَإِلاَّ فَهِيَ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفَ، كَمَا قَدْ وَصَفَ لَنَا الجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالجَنَّةُ أَعْظَمُ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ وَصْفِهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلهِ سُبْحَانَهُ فِي الحديث القدسي: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: "بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ". وَمَعْنَاهُ: دَعْ عَنْكَ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ؛ فَالَّذِي لَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَكَأَنَّهُ أَضْرَبَ عَنْهُ اسْتِقْلاَلاً لَهُ فِي جَنْبِ مَا لَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَتْ عُقُولُ البَشَرِ لَمْ تُحِطْ إِلاَّ بِشَيْءٍ مِنَ الجَنَّةِ لِمَا وُصِفَ لَهَا، وَمَا خَفِيَ أَعْظَمُ مِمَّا ظَهَرَ، فَكَيْفَ بِوَصْفِ نُورِ اللهِ -تَعَالَى-، وَنُورُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَاتِهِ.

 

وَسِدْرَةُ المُنْتَهَى فِي أَعْلَى الجَنَّةِ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ المَلائِكَةِ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ-، وَهِيَ مِنْ خَلْقِ اللهِ -تَعَالَى-، وَرَآهَا النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-؛ كَرَامَةً مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ بَهَرَتْهُ لمَّا رَآهَا فَقَالَ فِي وَصْفِهَا: "ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: "ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى فَرَأَيْتُ عِنْدَهَا نُورًا عَظِيمًا".

 

بَلْ أَخْبَرَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- أَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَسْتَطِيعُ وَصْفَ حُسْنِهَا فَقَالَ: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَجَاءَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي غَشِيَهَا فَغَيَّرَهَا: نُورُ اللهِ -تَعَالَى-.

 

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "قِيلَ: غَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ -جَلَّ جَلاَلُهُ-، وَقِيلَ: غَشِيَهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبْ، وَقِيلَ: غَشِيَهَا أَلْوَانٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَقِيلَ: غَشِيَهَا المَلاَئِكَةُ مِثْلَ الغِرْبَانِ، وَقِيلَ: غَشِيَهَا مِنْ نُورِ اللهِ -تَعَالَى- فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْعَتَهَا، أَيْ: مِنْ حُسْنِهَا وَبَهَائِهَا. وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الأَقْوَالِ؛ إِذِ الجَمِيعُ مُمْكِنٌ حُصُولُهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ".

 

فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ العَظَمَةُ وَالنُّورُ وَالجَلاَلُ وَالبَهَاءُ فِي سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَهِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ -تَعَالَى-، قَدْ غَشِيَهَا نُورُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى وَصْفِهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَكَيْفَ بِنُورِ اللهِ -تَعَالَى-، وَكَيْفَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ؟! نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُكْرِمَنَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى-.

 

وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ حِينَ يُخْسَفُ القَمَرُ، وَتُكَوَّرُ الشَّمْسُ، وَتَنْفَطِرُ السَّمَاءُ، وَتَنْتَثِرُ الكَوَاكِبُ؛ يَنْعَدِمُ النُّورُ فَلاَ نُورَ، بَلْ ظُلُمَاتٌ حَتَّى تُشْرِقَ الأَرْضُ بِنُورِ اللهِ -تَعَالَى- حِينَمَا يَجِيءُ لِفَصْلِ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر:22]، (وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) [الزُّمر:69]، قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فَمَا يَتَضَارُونَ فِي نُورِهِ إِلاَّ كَمَا يَتَضَارُونَ فِي الشَّمْسِ فِي اليَوْمِ الصَّحْوِ الَّذِي لاَ دَخَنَ فِيهِ".

 

وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَجْعَلُ اللهُ لِلْخَلْقِ قُوَّةً، وَيُنْشِئُهُمْ نَشْأَةً يَقْوَوْنَ عَلَى ألاَّ يَحْرِقَهُمْ نُورُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

 

أَيُّهَا الإِخْوَةُ: ذَلِكُمْ مَا وَرَدَ مِمَّا صَحَّ فِي نُورِ الله -تَعَالَى-، ذَلِكُمُ النُّورُ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَرَاهُ أَهْلُ الجَنَّةِ حِينَ تُكْشَفُ لَهُمُ الحُجُبُ، عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قال: يقول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شيئًا أَزِيدُكُمْ؟! فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِينَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فما أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) [القيامة: 22- 25].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فيه كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَمَّا كَانَ اللهُ -تَعَالَى- مُتَّصِفًا بِالنُّورِ كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدَهُ نُورًا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة:44]، وَفِي القُرْآنِ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) [النساء:174]. فَمَنْ تَخَلَّلَ قَلْبَهُ ذَلِكَ النُّورُ المَعْنَوِيُّ: نُورُ الإِيمَانِ وَالقُرْآنِ، اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى- فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَأَنْ يَغْشَاهُ مِنْ نُورِهِ مَا يَزِيدُهُ حُسْنًا وَبَهَاءً.

 

وَهَذَا النُّورُ المَعْنَوِيُّ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ صَلاَحِيَةَ قُلُوبِهِمْ لاسْتِقْبَالِهِ وَالامْتِلاَءِ بِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ...". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

 

"فَهَذَا هُوَ نُورُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى عِبَادِهِ فَأَحْيَاهُمْ بِهِ، وَجَعَلَهُمْ يَمْشُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَصْلُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ تَقْوَى مَادَّتُهُ فَتَتَزَايَدُ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ... فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَرَزَ ذَلِكَ النُّورُ وَصَارَ بِإِيمَانِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ الجِسْرِ حَتَّى يَقْطَعُوهُ، وَهُمْ فِيهِ عَلَى حَسْبِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فِي قُلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا... وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِ نُورٌ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا بَلْ كَانَ نُورُهُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا أُعْطِيَ نُورًا ظَاهِرًا مَآلُهُ إِلَى الظُّلْمَةِ وَالذَّهَابِ... فَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- نُورَهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَنُورَهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، النُّورُ المَعْقُولُ المَشْهُودُ بِالبَصَائِرِ وَالقُلُوبِ، وَالنُّورُ المَحْسُوسُ المَشْهُودُ بِالأَبْصَارِ الَّذِي اسْتَنَارَتْ بِهِ أَقْطَارُ العَالَمِ كُلِّهِ، فَهُمَا نُورَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ، وَكَمَا أَنَّهُ إِذَا فُقِدَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَكَانٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَمْ يَعِشْ فِيهِ آدَمِيٌّ وَلاَ غَيْرُهُ... فَكَذَلِكَ أُمَّةٌ فُقِدَ فِيهَا نُورُ الوَحْيِ وَالإِيمَانِ مَيِّتَةٌ، وَقَلْبٌ فُقِدَ مِنْهُ هَذَا النُّورُ مَيِّتٌ وَلاَ بُدَّ، لاَ حَيَاةَ لَهُ الْبَتَّةَ، كَمَا لاَ حَيَاةَ لِلْحَيَوَانِ فِي مَكَانٍ لاَ نُورَ فِيهِ...، وَضَرَبَ مَثَلاً لِلْمُنَافِقِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ) [البقرة: 17]... فالمُنَافِقُونَ ذَهَبَ نُورُ إِيمَانِهِمْ بِالنِّفَاقِ، وَبَقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ حَرَارَةُ الكُفْرِ وَالشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ تَغْلِي فِي قُلُوبِهِمْ. قُلُوبُهُمْ قَدْ صُلِيَتْ بِحَرِّهَا وَأَذَاهَا وَسُمُومِهَا وَوَهَجِهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَصْلاَهَا اللهُ -تَعَالَى- يَوْمَ القِيَامَةِ نَارًا مُوقَدَةً تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ. فَهَذَا مَثَلُ مَنْ لَمْ يَصْحَبْهُ نُورُ الإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا بَلْ خَرَجَ مِنْهُ وَفَارَقَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ. وَهُوَ حَالُ المُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَقَرَّ ثُمَّ جَحَدَ، فَهُوَ فِي ظُلُمَاتٍ أَصَمُّ أَبْكَمُ أَعْمَى".

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

 

المرفقات

الله تعالى1

الله تعالى - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
16-01-2021

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم معالي الدكتور