نعم ذي الجلال بين الإمهال والإهمال

الحسين أشقرا

2024-03-29 - 1445/09/19 2024-03-31 - 1445/09/21
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/عظم نعمة الإمهال 2/صور إمهال الخالق للعباد 3/قصة في إمهال الله وعدم إهماله سبحانه

اقتباس

أشرق رمضان ومعه دوحات الإيمان، القرآن، والغفران، والعتق من النيران، وقرب الرحمن، انطلقت صلاة القيام (التراويح)، إنها منافذ الإيمان التي تنقي شوائب النفس بجمال القناعة...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين.... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

 

أيها المسلمين والمسلمات: الدنيا مزرعة الأعمال، ولا يتم الحصاد إلا بعد انتهاء الآجال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 8]، والمغرور من جذبته الآمال، فأضاع فرص الصحة والمال، إلى حين التعرض للسؤال، فلا جواب؛ بل حسرة وندامة يوم الجدال؛ فمنذ أن خلق الله تعالى الإنسان مفضلا على سائر الكائنات، ونعم الله عليه تترى، وفضل منه سبحانه لا ينتهي.

 

فلا حصر لعدد النعم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[النحل: 18]. منها الظاهرة ومنها الباطنة (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20].

 

فيتقلب العبد في نعم الله بين مصيبة دفعت، ونقمة ردت و (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ).

 

ومن عظيم نعم الله وأخفاها: نعمة الإمهال التي لا يلتفت إليها كثر من الناس، إما غفلة أو تكبرا أو نكرانا ونسيانا.

 

وليقف كل واحد منا وقفة تأمل وتفكر في الأحوال والمواقف التي مرت بنا في حياتنا ورحلة عمرنا الدنيوي، لنجد أننا في خير كثير، وأن الله -تعالى- قد أمهلنا وستر علينا ما يفزعنا، محبة منه -عز وجل- لنا، ورفقا ورحمة منه تعالى بنا. وهو إمهال خير لعباده المتقين، فيصفح ويعفو عن مذنب، ويستر هفوات عن آخر، ثم يمهلنا أياما عديدة في عام آخر لطفا منه، ويدعونا لنتقرب منه، ولنستغفره ونعمل صالحا في مواسم مضاعفة الأجور والحسنات، ونعلن توبة فيفرح بنا، ونشكر النعم بصرف ما أنعم به علينا من صحة ومال وعلم ومكانة في ما يحبه ويرضاه.

 

فكم من غني أطغاه غناه فلم يصن النعمة، ولم يتصدق على فقير محتاج، وقد يغيب عنه التفكير في زكاة ماله! وكم من قوي معافى في جسده، معجب بصحته ليغتنمها في ارتكاب الآثام والأذى بخلق الله، ويتباهى كأنه المنعم على نفسه بنفسه! وأمام هذا، فإن الله تعالى يمهل كل كافر نعمة، ويفتح له باب توبة... أو باب عقاب لتربيته وتأديبه. ولو أن الله تعالى لم ينعم علينا بالإمهال وعجل لنا العقوبات عن كل ذنب أذنبناه، كيف سيكون حالنا؟

 

ولو لم يمن الله تعالى علينا بما أسبغ من نعمة الاستغفار وتكفير السيئات، فإلى ماذا تؤول أمورنا؟. إنما هي نعم محجوبة بين الإهمال والإمهال، والله تعالى يمهل ولا يهمل؛ فسبحان من قال: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل: 61]؛ فكم من شيء تمنينا الوصول إليه فلم نحصل عليه؟ صرفه الله عنا، أو صرفنا عنه ليختار لنا ما فيه خير لنا والخير -دائما- في ما اختاره الله.

 

إنه سبحانه يمهل ليقضي أمرا كان مفعولا، وليجود ويعطي عطاء مدهشا... فشكرا لربنا على نعمة الإمهال، وإن كان من طبعنا الاستعجال.

 

وإن صور إمهال الخالق للعباد متعددة:

نجدها في إمهال رزق بوظيفة بعد انتظار، أو بعلم نافع، أو بزواج صالح، أو بذرية بارة...ونحن في خضم تفاصيل حياتنا اليومية -ننسى- أخطاءنا وذنوبنا، ونمضي مع مجريات الحياة لنعود إلى ما اقترفنا، ويمهلنا الرقيب الحليم، ويسترنا ليسمع استغفارنا ومناجاتنا، ويرى دموع الندم في الأسحار ومفارقة المضاجع للصلاة بالليل والناس نيام...فيثمر إمهال الله أفعالا صالحة تقربنا إليه ليمتعنا متاعا حسنا...قال تعالى: ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[هود: 4-3].

 

وكم منح الله بحكمته وحلمه من مهلة لعباده بين الذنب والعفو؛ فهل من متعظ؟ قال عز وجل: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون)[البقرة: 52].

 

ومع ذلك تجد في واقع الناس من يصر على مخالفة الأمر الإلهي، وإذا سمع نصحا أخدته العزة بالإثم مستكبرا، غير عالم بأن الله يراه، ويستره إمهالا لا إهمالا لأنه رحمن رحيم. وأنه يمهل ولا يهمل.

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبكلام الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين ويغفر الله لي ولكم ولمن قال: آمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويتجاوز عنهم بحلمه الكثير من الزلل...ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

عباد الله: إن كل شيء في هذا الكون يتحرك ويسكن بحكمة الله وقدرته وإرادته وتدبيره (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَاب) [الرعد: 41]. ونحن العباد الضعفاء لا ندرك ولا نرى من الأقدار إلا ما تسمح به حواسنا القاصرة مما هو من عالم الشهادة، أما الغيب المستور، فقد استأثر الله به لنفسه.. ولهذا فإن رحمته بالعباد افتضت أن يمهلهم ولا يهملهم، وهو على كل شيء قدير.

 

واسمعوا واتعظوا من هذه القصة:

كان هناك جزاراً في أحد المناطق، يأخذ شاة ليقوم بذبحها ليبيعها للناس، وفي أحد الأيام، بينما هذا الرجل يسير إلى عمله وجد امرأة في الشارع مطعونة بسكين في بطنها، فهرع الرجل الجزار إليها على الفور وقام بمساعدتها وإخراج السكين منها حتى تأتي سيارة الإسعاف وتنقلها للمستشفى، ولكن قبل أن يأتي الإسعاف اجتمع الناس حولهما واتهموه بقتل هذه المرأة وأبلغوا الشرطة، أخذ الرجل يقسم لهم أنه ليس الفاعل ولكنهم لم يصدقوه، وأخذت النيابة تحقق معه لمدة شهرين وحكم عليه بالإعدام بعد ذلك، ويوم تنفيذ حكم الإعدام.

 

قال الرجل: أريدكم أن تسمعوا هذا كلامي الأخير قبل أن تعدموني:

وبدأ الرجل يحكي بأنه كان يعمل في البحر والقوارب قبل أن يصبح جزاراً، وفي يوم ركبت معه امرأة شابة جميلة أعجبته بشدة وقرر التقدم لخطبتها، وفعلاً ذهب إلى بيتها ولكنها رفضت الزواج منه.. وظل الحقد داخل قلبه تجاهها، وبعد مرور سنة ركبت هذه المرأة الشابة معه وكان معها طفلها الصغير ولم تتذكره، ولكنه تذكرها وعرفها، فحاول الرجل أن يعتدي عليها ولكنها قاومته ورفضت فهددها بطفلها حتى أخذت تبكي وترجوه ألا يؤذي طفلها وازدادت تمسكاً بالمقاومة، فوضع الرجل رأس الطفل في الماء وهو يصرخ حتى انقطع صوته ومات فرمى به في البحر، وبعد ذلك قام بقتل المرأة وباع القارب واتجه للعمل بالجزارة.

 

يقول الرجل: ها أنا ذا ألقى جزائي ولكن القاتل الحقيقي هذه المرة ابحثوا عنه، وسيلقى جزاءه أيضاً ذات يوم فالله -عز وجل- يمهل ولا يهمل.

المرفقات

نعم ذي الجلال بين الإمهال والإهمال.pdf

نعم ذي الجلال بين الإمهال والإهمال.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات