نعمة العقل وواجب المسلم نحوها

بندر بليلة

2024-01-26 - 1445/07/14 2024-01-27 - 1445/07/15
التصنيفات: الفكر والثقافة
عناصر الخطبة
1/من فضائل العقل وخصائصه 2/العقل ينقص ويزيد 3/أمارات العقل وصفاته 4/تقديم العاقل للنقل على عقله 5/بعض صفات العاقل 6/التحذير من آفة الهوى

اقتباس

العقلُ نعمةٌ من الله كُبرى، ومِنحة عُظمى، حقيقةٌ بشُكرِ الله وحَمْده، ومِنْ شُكرِه -سبحانه- حفظُه ممَّا يُكدِّرُ صَفوَه وصَفاءَه، ويُعكِّرُ نورَه ونقاءَه، ومِنْ ذلك الهوى؛ فهو للعقلِ مُضادٌّ، وللخيرِ صادٌّ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المبدِع الخلَّاق، أظهَر آياتِه في الأنفُس والآفاق، أحمده -سبحانه- وأشكره، على سابغ النعم ووافر الأرزاق، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً أرجو بها الفوزَ يوم التلاق، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، طاهر الأعراق، وباهر الأخلاق، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان ما تتابع العشي وتوالى الإشراق.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله -رحمكم الله-، وبادِرُوا بالصالحات قبل ألا تُبادِرُوا، وأحسِنوا قبلَ ألَّا تُحسِنُوا، وغدا البرهان، واليوم السباق.

 

أيها المؤمنون: العقلُ أصلُ المعرفة، ومادةُ الفَهْم، ويَنبوعُ العِلمِ، ومَرقاةُ الأدبِ، به تَظهرُ الحقائقُ، وتَلُوحُ الخَفِيَّاتُ، وتُوزَنُ الأمورُ، وتُكتسَبُ الفضائلُ، وهو نعمةٌ يُنعِمُ اللهُ بها على مَن أراد كرامتَه مِن عباده، وقَضى له بحُسْن العاقبةِ في مَعادِه، قال تعالى: (إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)[طه: 54]، وقال تعالى: (إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الرَّعْدِ: 4] ، وقال تعالى: (هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)[الْفَجْرِ: 5]؛ أي: لذي العقل والنُّهى.

 

والعقلُ نورٌ في القلبِ كنورِ البصرِ في العينِ، يَنقُصُ ويزيد، ويذهبُ ويعود، يُدرِكُ به المرءُ الأشياءَ على ما هي عليه مِنْ ماهيةِ مَبانيها، وصحةِ مَعانيها، ويُصِيبُ الرأيَ الصوابَ، ويُدركُ البيانَ، ويمتنعُ عمَّا لا يَجْمُل؛ فهو في سَداد ورَشاد وإمداد، قال عمرُ -رضي الله عنه-: "أصلُ الرجلِ عقلُه"، وقيل لعبدِ الله بنِ المباركِ -رحمه الله-: "ما خيرُ ما أُعطيَ الرجلُ؟ قال: غريزةُ عقلٍ"، وقال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "ما تمَّ دينُ عبدٍ قطُّ حتى يَتِمَّ عقلُه".

 

مَعاشِرَ الفُضلاءِ: للعقلِ أماراتٌ على صاحبه، وصفاتٌ تدُلُّ عليه؛ فأولُ صفاتِ العاقلِ العقلُ عن الله -تعالى- في أمره ونهيه، والإيمانُ به، والاتباعُ لرُسُله، قال تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الرَّعْدِ: 19]، وقال تعالى عن أصحاب النار عِياذًا به منها: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الْمُلْكِ: 10].

 

والعاقلُ لا يُقدِّمُ عقلَه على النقل، ولا يُخضِعُ الشرعَ تبعًا لرأيه، فلا يَسلَمُ إسلامُ العبدِ إلا بالتسليمِ التامِّ لنصوص الوحيينِ الشريفينِ، والإذعانِ لهما، والعملِ بهما، قال الزُّهريُّ -رحمه الله-: "مِنَ اللهِ الرسالةُ، وعلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- البلاغُ، وعلينا التسليمُ"، وقال ابنُ القيم -رحمه الله-: "كلُّ مَنْ له مِسْكةٌ مِنْ عقلٍ يَعْلَمُ أن فسادَ العالَمِ وخرابَه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل".

 

والعاقلُ يتأمُّلُ في مُلك الله وملكوته، ويتدبرُ آياتِه ودلائلَ قُدرته، قال تعالى: (إِنَّ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 3-5].

 

والعاقلُ لا يُؤثِرُ اللذةَ العاجلة، ولا يُقدِّمُ المتعةَ الزائلةَ؛ لأنَّه يعلمُ أن الدنيا ظِلُّ غَمامٍ، وحُلُمُ مَنامٍ، لا تَبقى على حالة، ولا تخلُو من استحالة، السكونُ فيها خَطَرٌ، والثقةُ بها غَرَرٌ، والإخلادُ إليها مُحالٌ، والاعتمادُ عليها ضلالٌ، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْقَصَصِ: 60]، وقال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 32].

 

ومِنْ صفاتِ العاقلِ حُسْنُ السمتِ، وطولُ الصمتِ، وعدمُ الابتداءِ بالكلام إلا حينَ السؤالِ، وعدمُ الجوابِ إلا عندَ التثبُّتِ، والعاقلُ لا يَستحقرُ أحدًا، ولا يَخفى عليه عيبُ نفسِه؛ لأنَّ مَنْ خَفِي عليه عيبُه خَفِيت عليه محاسنُ غيرِه، والعاقلُ إذا عَلِمَ عَمِلَ، وإذا عَمِلَ تَواضَعَ، وإذا نظرَ اعتبرَ، وإذا صَمَتَ تفكَّر، وإذا تكلَّم ذَكَرَ، وإذا أُعطيَ شَكَرَ، وإذا ابتُليَ صَبَرَ، وإذا جُهِلَ عليه حَلُمَ، وإذا سُئِلَ بَذَلَ، وإذا نَطَقَ صَدَقَ.

 

أقول ما سمعتُم، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رفيع الدرجات، المستحِقِّ لجميع المحامد والكمالات، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم نشر المخلوقات.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله وأطيعوه، وعظِّمُوا أمرَه ولا تعصوه.

 

أيها المسلمون: العقلُ نعمةٌ من الله كُبرى، ومِنحة عُظمى، حقيقةٌ بشُكرِ الله وحَمْده، ومِنْ شُكرِه -سبحانه- حفظُه ممَّا يُكدِّرُ صَفوَه وصَفاءَه، ويُعكِّرُ نورَه ونقاءَه، ومِنْ ذلك الهوى؛ فهو للعقلِ مُضادٌّ، وللخيرِ صادٌّ، وهو مَرْكَبٌ ذميمٌ، يسيرُ بالإنسان إلى ظُلُماتِ الفتنِ، ومَرْتَعٌ وخيمٌ، يُقعِدُه في مَواطِنِ المحنِ، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[الْقَصَصِ: 50]، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أخاف عليكم اثنتين؛ اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة".

واعْلَمْ بأنكَ لن تفوزَ ولن تَرَى *** طُرُقَ الرَّشادِ إذا اتَّبَعْتَ هَواكَا

 

اللهُمَّ صل على محمد، وعلى آله محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آله إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.  

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهمَّ أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].

 

 

المرفقات

نعمة العقل وواجب المسلم نحوها.doc

نعمة العقل وواجب المسلم نحوها.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات