نعمة العقل والإدراك

الشيخ د عبدالرحمن السديس

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الفكر والثقافة
عناصر الخطبة
1/ ترادف نعم الله عز وجل على بني البشر 2/ نعمةُ العقل والإدراك من أعظم النعم 3/ تفضيل الإنسان على غيره من المخلوقات بالعقل 4/ انقسام الناس حول العقل 5/ النهي النبوي عن كون الرجل إمعة 6/ مظاهر حفظ الإسلام للعقل

اقتباس

فالعقلُ جوهرُ الإنسان السَّطُوع، ومعدِنُه النَّفيسُ اللَّمُوع، بالعقل تفتَّقَت الملَكَاتُ عن روائِع الحضارات، والتقنية الدقيقة، وأبحرَ بها في أثبَاج الكُشُوفات والمجرَّات السحيقة. كلا، بل هو الذي هدَى الأفئدةَ والأبصار، للإيمان بالله الكبير المُتعال، وأرشدَها لمعاقِدِ الحقِّ والجَلال، وزمَّها عن مهاوِي الإلحاد والضلال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، سبحانه وبحمدِه لا نُحصِي عليه ثناءً، جلَّ إلهًا وتقدَّسَ ذاتًا وأسماءً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إيمانًا به واهتِداءً، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى من العالمين اجتِباءً، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين البالِغين من الحِجَى قِممًا شمَّاء، وصحبِه الأُلَى كانوا في معاقِد الحقِّ والرأي أقمارًا وِضاءً، والتابعين ومن تبِعهم إحسانًا واقتِداءً، وسلَّم تسليمًا زكيًّا مُبارَكًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: خيرُ ما يُوصَى به رخاءً وضِيقًا: تقوى الله -عز وجل- امتِثالاً وتحقيقًا؛ فتقواه -سبحانه- هي النورُ المُبينُ لمن رامَ فلاحًا وتوفيقًا، والعُروةُ الوُثقَى للرَّاجِين اعتِصامًا بالله وثيقًا، وبِها ينهَجُ أُولو الألبابِ بالأمجاد سبيلاً وطريقًا، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].

 

وما لبِسَ الإنسانُ أبهَى من التُّقَى *** وإن هو غالَى في حِسانِ الملابِسِ

وإن التُّـقَى للمـرءِ زادٌ ورفعةٌ *** وخيرُ ضِيـاءٍ في ظـلامِ الحنادِسِ

 

أيها المسلمون: من معاقِد القول المُؤكَّدة، وعزائِمه المُقرَّرة المُوطَّدة: أن مِنَن البارِي -سبحانه- على عباده عظيمةٌ مُترادِفة، هتَّانةٌ مُتوافِدة، ظاهرةً وخفيَّةً، جلِيَّةً وسنيَّة، في الإنسان والآفاق.

 

وإنها لدالَّةٌ على عظمة الحكيم الخلاَّق، امتنَّ بها -تبارك وتعالى- سبيلاً لقُرُباتِه، وبلاغًا لجِنانِه ومرضاتِه، وفق أحكَم شريعةٍ وأكملها، وأسناهَا وأفضلِها، وأزكاهَا وأجمَلِها، فلا استِغناءَ عن مُفصَّلِها بمُجمَلها: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34].

 

ومن فَيضِ تلك النِّعم: نعمةٌ نبوءُ بشُكرها وحمدِها، وننُوءُ بحصرِها وحدِّها، وماهيَتها وكُنهِها، تلكُم -يا رعاكم الله-: نعمةُ العقل والإدراك، والنُّهى وما أدراك؟! إحدى المِنَن الربَّانيَّة، والخصائص الإنسانية.

 

فالعقلُ جوهرُ الإنسان السَّطُوع، ومعدِنُه النَّفيسُ اللَّمُوع، بالعقل تفتَّقَت الملَكَاتُ عن روائِع الحضارات، والتقنية الدقيقة، وأبحرَ بها في أثبَاج الكُشُوفات والمجرَّات السحيقة.

 

كلا، بل هو الذي هدَى الأفئدةَ والأبصار، للإيمان بالله الكبير المُتعال، وأرشدَها لمعاقِدِ الحقِّ والجَلال، وزمَّها عن مهاوِي الإلحاد والضلال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].

 

يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "العقلُ هو أكبرُ المعاني، وأعظمُ الحواسِّ نفعًا، وبه يُدخَلُ في التَّكليف، وهو شرطٌ في صحَّة التصرُّفات، وأداء العبادات".

 

ويقول الإمام القُرطبيُّ -رحمه الله-: "والصحيحُ الذي يُعوَّلُ عليه: أن التفضيلَ إنما كان بالعقلِ الذي هو عُمدةُ التكليف، وبه يُعرَفُ الله، ويُفهَمُ كلامُه، ويُوصَلُ إلى نعيمه وتصديقِ رُسُله، إلا أنه لمَّا لم ينهَض بكلِّ المُراد من العبدِ بُعِثَت الرُّسُل، وأُنزِلَت الكُتب".

 

وفيه قيل: "ما أُعطِيَ أحدٌ شيئًا أفضلَ من عقلٍ يهدِيه إلى هُدى، ويصدُّه عن ردَى".

 

ويقول الإمام الشاطبيُّ -رحمه الله-: "وقد جاءَت الشريعةُ بحفظِ العقلِ من جهتَي الوجود والعدَم".

 

أيها المؤمنون: ولمكانةِ العقلِ السامِيَة خصَّه الله -سبحانه- بالتكريم والتشريف، والمقام العليِّ المنيف، وصانَه ووقاه بالشرع الحَنيف، عن الزَّيغ والجُنوح والتحريف، وتعظيم البارِي -سبحانه- عن التشبيهِ والتمثيلِ والتكييف.

 

ولذلك حرَّم الشرعُ كلَّ ما يُخِلُّ بالعقل ويُبدِّدُه، أو يُتلِفُه ويُفسِدُه، وإذا غابَ العقلُ سقطَ التكليفَ؛ لأن الله -سبحانه- إذا أخذَ ما أوهبَ أسقطَ ما أوجَبَ.

 

أثـنِ على ربِّ البشر *** على الذي أعطَى العِبَر

حسبُك من أولاكَ مِن *** عقلٍ وسمـعٍ وبصـَر

 

معاشر المسلمين: وقد انقسَمَ الناسُ في شأن العقلِ إلى قسمَين: غالٍ فيه مُعتقِد، وجافٍ عنه مُنتقِد.

 

فالأولُ: جعل العقلَ أصلاً كليًّا أوليًّا، يُستغنَى به عن الشرع.

 

والثاني: أعرضَ عن العقل وعابَه، وقطعَ أسبابَه.

 

وكلاهما انحرف وزلَّ، وما اهتدَى فيما به استدلَّ، وخيارُهم وسُعداؤُهم أهلُ السنة والجماعة، المُنصِفون المُتوسِّطون، المُعتدِلُون المُقسِطون، يستدِلُّون بالعقل بإطباق ولكن دون إطلاق؛ بل في منهجيَّةٍ تضبِطُ مِسبارَه، وتُحدِّدُ وفقَ الشرع مسارَه، تُحقِّقُ موافقةَ صريح المعقول لصحيح المنقول، قال تعالى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم: 28].

 

وأما الذين هجَروا عقولَهم وغيَّبُوها عن معرفة الحقِّ واستِبصار الهداية، فأُركِسُوا في بَيداءِ الغِواية، فقد نعَى المولَى عليهم حالَهم بقولِه -سبحانه-: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10].

 

من كان للعقـلِ سُلطانٌ عليه غدًا *** وما على نفسِه للحِـرصِ سُلطانُ

من مدَّ طرفًا لفَرطِ الجهلِ نحوَ هوًى *** أغضَى على الحقِّ يومًا وهو خَزيانُ

 

إخوة الإيمان: ولبناءِ العقلِ الراجِح الوقَّاد، والرأي الحَصيف النقَّاد، والمُجتمع الرَّصين المُتوادّ، نهَى -صلى الله عليه وسلم- أن يكون المُسلمُ إمَّعةً سبهللاً؛ فعن حُذيفة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تكونُوا إمَّعة، تقولون: إن أحسنَ الناسُ أحسنَّا، وإن ظلَموا ظلَمنا، ولكن وطِّنُوا أنفسَكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤُوا فلا تظلِموا". أخرجه الترمذي بإسنادٍ حسنٍ.

 

والإمَّعة: ضعيفُ الرأي الذي يقول لكلِّ أحدٍ: أنا معك.

 

ومرمَاهُ -صلى الله عليه وسلم- كلما كمُلَ عقلُ المرءِ وتمَّ، كان إحرازُه للفلاحِ أشملَ وأعمَّ.

 

وأفضلُ قَسم الله للمرءِ عقلُه *** فليس من الخيراتِ شيءٌ يُقارِبُه

إذا أكملَ الرحمنُ للمرءِ عقلَه *** فقـد كمُلَت أخلاقُه ومآرِبُه

 

فيا إخوة الإسلام: كيف بنا حِيالَ من أسلَسُوا أرسانَ عقولِهم لكل ناعِقٍ بالشَّائِعات عبر الشَّبَكات والتِّقانات، وأناخُوا مطايا أهوائِهم لأول نبْأةٍ من التغريدات، فهامُوا بها في مجاهِل الضلالات والتحليلات، ومضارِب التهوُّكات والافتِراءات، في قرصَنةٍ عقليَّةٍ عجيبةٍ، واختِطافٍ فكريٍّ رهيبٍ، يتولَّى كِبرَه ويُضرِمُ أُوارَه: الشبكاتُ العنكبوتيَّة، والمواقعُ الأخطبوطيَّة، وما وراءَها من الأجِندات المشبُوهة.

 

فوا أسفاه -عباد الله- على فِئامٍ حتى ممن يُظنُّ أنهم من أهل الخير والصلاح، ألغَوا عقولَهم دون الهرطَقات وتفنيدِها، ووأدُوا ألبابَهم دون نقدها وتبدِيدها.

 

يُلقِمون عقولَهم الغضَّة النظريات الفاسِدة، والأفكار الطائِشة، والآراء الهَزيلة، فآضُوا للباطل أجنادًا، وفي المُجتمعات -عياذًا بالله- كُسَّادًا، وللرُّموز الأطوادِ حُسَّادًا، وعلى البُرآء الأخيار ألسِنةً حِدادًا، وللفتن العَمياءِ إبرامًا وإيقادًا.

 

وآخَرون هرَعُوا لتعاطِي المُسكِرات والمُخدِّرات القاتِلة، التي تُبيدُ العقلَ والأموالَ الطائِلة.

 

وهنا نذكُرُ بالاعتِزاز والإشادة تلك الضربات الاستِباقيَّة المعهودة، والإنجازات والنجاحات الأمنيَّة المشهودة لرِجال أمنِنا الأشاوِس في القضاء على آفَة المُخدِّرات ومُروِّجيها، التي تستهدِفُ دينَنا وأمنَنا وشبابَنا وبلادَنا الشمَّاء -حرسَها الله-.

 

فيا أمة الإسلام: أين العقول والنُّهَى والأحلام؟! أين الحصافةُ والرَّزانةُ في الألباب والإحكام؟! حين تُبنَى على مُجرَّد التغريدات المواقِفُ والأحكام. حتَّامَ تُبرَى الأجيال على النَّزَق والرُّعونة شأن الطَّغام، وَيْح المُقلِّدين العَميم دون تفكيرٍ يهدِي ويُبين.

 

أيها المؤمنون: إن الحاجة مُلِحَّة إلى وضع مِيثاقِ شرفٍ قِيَميٍّ يضبِطُ مسارَ الإعلام الجديد قبل أن يقضِيَ على ما بقِيَ من دين الأمة وعقولِها، وأمنِها ووحدتها واستِقرارها، وتماسُكِها وأعراضِها.

 

وهنا يُذكَرُ فيُشكَر من سخَّر واستثمَرَ هذه المواقِع التواصُليَّة لما يُثبِّتُ على الدين، ويُعين على جمع الكلمة، ووحدة الصفِّ، ويُعزِّزُ الأمن، وينشرُ العلمَ والدعوةَ الصحيحةَ، ويُرسِّخُ مُحكمَات الشريعة وثوابِتَ المِلَّة، ويقضِي على الجَدَل والمِراء، وكل ما يدعُو للفتنة، ويُسبِّبُ للرأي العام الإثارةَ والبلبلَة، والله المستعان.

 

أصـالةُ الرأيِ صانَتني عن الخَطَلِ *** وحِلـيةُ الفضـلِ زانَتنِي لـدَى العَطَلِ

مجدِي أخيرًا ومجـدِي أولاً شرَعٌ *** والشمسُ رأدَ الضُّحَى كالشمسِ في الطَّفَلِ

 

وما الظُّلمُ والطُّغيان في فلسطين والأقصَى، وبلاد الشام، وأراكان، من الطُّغمة المُدمِّرة، وما مُروجُ الأحوال في بعض المُجتمعات المُتدمِّرة إلا نتيجةَ العقولِ الحائِرة، والحُجُونِ البائِرة. عقولٌ تُقدِّر فتزِلُّ وتُخطِئ، وتُدبِّر فتَمينُ وتُبطِئ.

 

وإنه لعجيبٌ جِدُّ عجيب -يا أمة الإسلام- أن يُغفِلَ مُسلمٌ شأنَ عقلِه كلَّ الإغفال، ويُهمِلَه غايةَ الإهمال، فلا ينشطُ لإيقاظِه ونُشدانِه، ولا يأسَى بتبعِيَّته وفُقدانه، فيما هو يغلُو في ملذَّات المال والجسد دون ارعِواءٍ أو رشَد.

 

إذا تمَّ عقلُ المرءِ تمَّت أمورُه *** وتمَّـت أيـادِيه وتمَّ بنـاؤُه

فإن لم يكُن عقلٌ تبيَّن نقصُه *** ولو كان ذا مالٍ كثير عطاؤُه

 

أمة الإسلام: ولن تخطُو الأُمم والمُجتمعات شطرَ العِزَّة والمجدِ ورفيع الدرجات، ولن تنعتِق مما هي فيه من الفِتن والمُعتكَرات، وزَرِيِّ الاحتِرابَات إلا بذَوِي الألباب الحَصِيفة السَّديدة، والنُّهَى المَكينة الرَّشيدة، الذين استوقَدوا لبناء دينِهم وأوطانِهم مواهِبَهم وأذهانَهم، واستنفَرُوا للتميُّز والإبداع حواسَّهم وأبدانَهم، وللإخلاصِ والطُّهرِ مشاعِرَهم ووِجدانَهم.

 

وحسبُنا -يا عباد الله- أن تسلَمَ لنا عقيدتُنا وعقولُنا، ونعوذُ بالله ثم نعوذُ بالله أن نتنازلَ عن شيءٍ من ثوابِت دينِنا، أو أن نُداهِنَ أحدًا من الناس كائِنًا مَن كان بما يُسخِطُ ربَّنا، أو أن تُختَطَف عقولُنا وفهومُنا إلى ما يُخالِفُ سنَّة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-.

 

همُ الرجالُ المصابيحُ الذين هُمُ *** كأنَّهم من نُجومٍ حيَّةٍ صُنِعوا

عقولُهم نورُهم من أي ناحِيةٍ *** أقبَلتَ تنظرُ في ألبابِهم سطَعوا

 

وبعدُ:

 

أيها المسلمون: فلله ثم لله كم يستبِيكَ العاقلُ الأحوَذيُّ، الحكيمُ اللَّوذَعيُّ؟! قد تُوِّج بالفهم والزَّكانة، وحُسن التدبير والفَطانة، حصُفَ عقلُه، وعذُبَ قولُه ونقلُه، وتنوَّرَ -ونِعمَّا هُو- بنُور الاستِقامة والدِّيانة.

 

فكشَفَ -بفضل الله- عوازِبَ المُعضِلات، وجلَّى مُستَّرات المُضلِعات، وألِيَّةٌ لا حِنثَ يعرُوها، أن الحُكم على مِقدار النُّبل، وجمال السلوك، وبَهاء التديُّن إنما يرجِعُ لمِسبارٍ مُنصِفٍ أمين، لا يُخطِئُ ولا يَمِين، ألا وهو جَزالةُ العقل، ومَتانةُ النُّهيَة، وأصالةُ الفِكر، ونُورُ الاعتِدال والحِكمة: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269].

 

وفَّق الله الجميعَ لبدائِع العقول، وتلقَّى أعمالَنا وأقوالَنا بالإخلاص والرِّضا والقبول، إنه خيرُ مسؤول وأكرمُ مأمول.

 

أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، ألا إن الله هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وليِّ التوفيق والقَبول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُؤمَّلُ المأمول، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا المُجتبَى من أكرم الأصول، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه زُكاة الأرواح والعقول، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ إشراقٌ وأُفول.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله-، واحذَروا زُور القول ودخَلَه، ومُنكرَ الرأي وخطَلَه، واتَّبِعوا صالحَ الفعلِ ومثَلَه؛ تُفلِحوا وتفوزوا، وللخيرات تحُوزوا.

 

إخوة الإسلام: ومن حِفظ الإسلام للعقل والسُّمُوّ به في أزكَى المعارِج: مُحاربَتُه للَّوثات العقدية والإلحادية، والشِّركيَّة والبِدعيَّة، ومُجانبَتُه للخُرافَة والأوهام التي التاثَت بعقول فِئام من الناس، فأوبَقَتهم أرِقَّاء الوَهم والحَذَر، وأُسارَى الخوف والضرر.

 

وتلك الظُّنون والتخرُّصات والمُحدثات، ونحوُها من السحر والشَّعوَذَات، أو أضغاث الأحلام والمنامات، التي استخفَّت بكثيرٍ من العقول في المُجتمعات، وتُروِّجُ لها اليوم بعضُ الفضائيَّات وشبكات المعلومات، متى انسلَّت للأمة أوهنَتها ووأدَتها، والله -سبحانه- يقول: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].

 

معاشر الأحِبَّة الأماثِل: ولبناءِ الأُمم على العقول الرواجِح، والأخلاق السواجِح، والمقاصِد النواجِح لزِمَ احتِضان الشباب والجِيل والناشِئة، والعنايةُ بمغارِسِها حتى يتِمَّ في غوارِبِ العقلِ رائِعُ اكتِهالِها، وفي مُتون الحِكمة بديعُ اكتِمالها، وأن نكون لذلك مُتطلِّعين، وفيه بحقٍّ مُتضلِّعين، ولا أنفعَ في ذلك ولا أكرَم، ولا أجدَى ولا أعظَم من الإكبابِ على هديِ الوَحيَيْن الشريفَيْن؛ فإنهما يُزكِّيان العقولَ والخواطِر، ويُدِرَّان من صوادِق الرأي ومُحكَم الفِكر الرِّهامَ والمواطِر، والتِزامُ حُسن الظنِّ بالمُسلمين، وإصلاحُ النوايا والسرائِر.

 

ذاك الرَّجاءُ والأمل، ومن الله نستلهِمُ التوفيقَ والسدادَ لأزكَى العمل، إنه سميعٌ مُجيب.

 

هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على إمام الرُّسُل خيرِ الأواخِر والأُوَل، كما أمرَكم المولَى -عزّ وجل-، فقال تعالى قولاً كريمًا بالحقِّ نزَل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا". خرَّجه مُسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصِ -رضي الله عنهما-.

 

عليـه صـلاةُ الله ثـم سـلامُه *** صلاةً وتسليمًا إلى آخـرِ الدَّهرِ

مع الآلِ والأصحابِ ما هبَّ الصَّبَا *** وما زمزمَ الحادِي وما غرَّد القُمرِي

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على مُحمدٍ وعلى آل مُحمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللهم عن الأئمة الخُلفاء والأربعة الخُلفاء، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابَة والتابعين، وعن الطاهرات أمهات المُؤمنين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائر بلاد المُسلمين.

 

 

 

 

المرفقات

العقل والإدراك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات