نظرات في سورة النساء (4) الدولة في الإسلام

محمد الغزالي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: بناء المجتمع
عناصر الخطبة
1/ شارات تتميز بها الدولة الإسلامية 2/ اضطراب اجتماعي يسود بلاد الإسلام 3/ وظائف الدولة في الإسلام 4/ خمسة استفهامات في السورة عن مواقف المعارضين 5/ بناء الأخلاق من صميم عمل الفرد ونشاط المجتمع

اقتباس

الدولة في الإسلام تقوم على التوحيد لا على الشرك، تقوم على الإيمان لا على الإلحاد، وتبني مجتمعًا متقيدًا بتوجيهات الله، مستمدًا من شرائعه. الدولة في الإسلام ليست تسليم السلطة لبشر مصاب بجنون العظمة أو مدَّعٍ للألوهية، الدولة في الإسلام دولة تشرف بقواها الخاصة والعامة على قيام المجتمع بأمر الله. توجد الآن دول تقوم...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

فإن دولة الإسلام التي قامت في أعقاب الهجرة الشريفة لها شارات تتميز بها ومعالم تؤثر عنها.

 

ليست هذه الشارات أو المعالم مراسم جوفاء، بل هي حقيقة قائمة، فالدولة في الإسلام تقوم على التوحيد لا على الشرك، تقوم على الإيمان لا على الإلحاد، وتبني مجتمعًا متقيدًا بتوجيهات الله، مستمدًا من شرائعه.

 

الدولة في الإسلام ليست تسليم السلطة لبشر مصاب بجنون العظمة أو مدَّعٍ للألوهية، الدولة في الإسلام دولة تشرف بقواها الخاصة والعامة على قيام المجتمع بأمر الله.

 

توجد الآن دول تقوم على فكرة أو على مذهب اجتماعي، فإذا كانت الدولة مثلاً تقوم على الشيوعية فإن سيطرتها على التعليم تجعلها تبني مناهجه على الإلحاد، وسيطرتها على الإذاعة والإعلام تجعلها تبني برامجها على التحلل والإباحة والبعد عن أمر الله.

 

أما الدولة في الإسلام فمعنى قيامها على الإيمان والتوحيد أنها تحتضن برامج التعليم والتربية والإعلام، وتجعل من ذلك كله محاضن ومؤشرات وموجهات لجعل الأمة كلها تستقيم على سواء السبيل.

 

لقد جربنا أن ينبت الشباب في بيئات لا دين لها، فماذا كانت النتيجة؟! إن الأولاد الذين ينبتون في محاضن لا ترتبط بالإيمان ولا ترتبط بتقاليده ينشؤون نشأة لا شرف لها ولا خلق فيها.

 

إن الاضطراب الاجتماعي الذي يسود العالم الإسلامي الآن سببه أن الأجيال الشابة أو الأخلاف الناشئين لا يجدون التغذية الروحية ولا التقويم المعنوي الذي يربطهم بالإسلام ربطًا محكمًا.

 

للدولة في الإسلام وظائف: منها أنها تقوم على الشورى، ومعنى قيامها على الشورى أنها ترفض الاستبداد، الشورى ليست اختراعًا إسلاميًّا، فالشورى فضيلة يعرفها كل إنسان بفطرته، وكما تعرف البشرية كلها أن العلم خير من الجهل وأن العدل خير من الظلم تعرف البشرية أن الشورى أفضل من الاستبداد، وهذا ما أوحى إلى رجل مثل ابن تيمية أن يقول: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة".

 

إن الطبيعة البشرية تعرف الحسن والقبيح والخير والشر، ثم يجيء الدين فيصحح أخطاء الفطرة وشرود المجتمع ويمنع التلفيق الذي قد يقع لخداع الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية عن الصواب.

 

ولذلك ما جاء الإسلام بجديد عندما قال: إن العدل حق، وإن العلم حق، وإن الشورى حق، إنما جاء بجديد عندما جعل من هذه المعاني عبادات يُتقرب بها إلى الله.

 

جاء الإسلام بجديد عندما جاء إلى هذه المعاني فخلطها بالكيان الإسلامي، وجعل المجتمع يقوم على العلم لا على الجهل، وعلى الشورى لا على الاستبداد، وعلى العدالة لا على الجور والمظالم.

 

يقوم المجتمع في الإسلام على سيادة الحق، وتكون للأمة كرامتها ومكانتها بقدر ما تؤمن فيها الحقوق، فإذا ضاعت الحقوق ضاعت كرامة الأمة وحرمت من عناية الله وضمانات السماء، وهذا معنى الحديث الشريف: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

 

الدولة في الإسلام تقوم على تحكيم القانون الإلهي فيما يقع بين الناس من أخطاء، ومعنى ذلك أن القاتل يقتل، ولا معنى لما استحدثه الجاهليون من أن القاتل لا يقتل إلا إذا كان هناك تربص وسبق إصرار.

 

ضمانات السماء في تشريع الله أن العقوبات تقع سواء كانت حقًّا للبشر أو حقًّا لله، تقع ردعًا للمجرم وتأمينًا للأمة.

 

لقد رأيت لمحة من هذا المعنى عندما رفضت رئيسة حكومة إنجلترا أن تعطي المضربين عن الطعام الحق في معيشة حسنة، قالت: لا، إن هذا يهدد حياة آمنين كثيرين في الخارج.

 

هذا الكلام فيه رائحة من تفسير قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).

 

المجرم عندما يُقتص منه، يدفع ثمن ذنبه الذي ارتكبه، وفي الوقت نفسه نحصن المجتمع بضمانات كثيرة عندما نشعر كل من تحدثه نفسه بالجريمة أنه سيرد المورد وينتهي إلى هذا المصير ويقتل كما قتل أو يعاقب كما أساء.

 

الشرائع الإسلامية التي تحتضنها الدولة كثيرة فيما يتصل بالأفراد، فيما يتصل بالولاء العام -ولاء المسلمين لدولتهم لأنها تقوم على الإيمان- وولاء المسلمين لإخوانهم على ظهر الأرض لأن أخوة الإسلام تناصر: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، وإذا وجده في مكان ما محتاجًا إلى العون متطلعًا إلى الغوث عرض عليه عونه وقدم له غوثه، وبيّن له أن الدين تناصر بين المؤمنين.

 

على هذا الأساس قامت دولة الإسلام في المدينة المنورة، قامت على الإسلام لا على الكفر، قامت على التوحيد لا على الشرك، قامت على مبدأ السمع والطاعة لله فيما أمر ونهى، فإذا أقامت مجتمعًا فهذا المجتمع يتلاقى أفراده بالصلوات الجامعة، وتصطبغ أرجاء المجتمع بالربانية التي تهتف باسم الله خمس مرات كل يوم، فالمجتمع كله كبيره وصغيره متعاون على أن يتصل بالله، يتلاقى في الصلوات، ويتراحم بالزكوات، ويحسن الحسن، ويقبح القبيح، ويعلي راية المعروف، وينكس راية المنكر تحقيقًا لقوله -جل شأنه-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).

 

الدولة في الإسلام تقوم على تناصر الإيمان، ولقد رأينا هذا التناصر في خلال الدولة الأولى واضحًا، لأن أعداء الإسلام اعتبروا هذا الدين خروجًا على التقاليد والعرف والسلطة، فقاوموه بكل ما لديهم من قوة، فليس بغريب أن تقوم الدولة في الإسلام على أن أخوة الدين تناصر وتلاحم وتماسك، وأن المسلم أخو المسلم حيث كان.

 

رأينا بعد قرنين من الزمن تقريبًا امرأة تؤسر في دولة الروم، فلما أسرت وأهينت صرخت: وامعتصماه، تقصد الخليفة العباسي القائم في بغداد، فلما رويت القصة للمعتصم جمع المسلمين وهو يقول: يا لبيكاه.

 

لبى النداء واقتحم بجيش كثيف أرض الروم وطوى أبعادًا شاسعة ودخل في حرب مدمرة، حتى استنقذ المرأة الأسيرة بأخوة الإسلام.

 

إن الوضع الآن تغير كما قال قائل:

 

رُبّ "وامعتصماه" انطلقت *** لم تصادف نخوة المعتصم

 

الوضع تغير لأن أكثر حكام المسلمين إما عميل للشرق وإما عميل للغرب، ولقد رأينا عملاء لإحدى الجبهتين لا يرون حرجًا أبدًا في أن يلعبوا في موسكو بينما الجيش الشيوع يقتل إخوانهم في أفغانستان، وذلك لأن أخوة الإسلام تبددت أو تلاشت أو اختفت مع نزعات القومية العربية والبعث العربي والوطنيات الضيقة والأنساب المزورة التي اخترعت للأمة الإسلامية كي تذهب بها وتبدد قواها وتهد كيانها.

 

الدولة في الإسلام ليست طبلاً أجوف، إنما هي ممثلة لتعاليم هذا الدين عبادة ومعاملة، أخلاقًا وقوانين.

 

الدولة في الإسلام هي الحزام الذي يشد شُعب الإيمان السبعين والإطار الذي يحكم تجمع هذه التعاليم، ويشرف على مصالح الأمة، ويسوقها إلى الغاية التي يرتضيها رب العالمين.

 

هذه هي الدولة كما رسمها ديننا، عندما بدأت في المدينة كان بديهيًّا أن تقوم أمامها العوائق وأن يوجد لها أعداء ومعارضون.

 

لقد نظرت في القرآن الكريم الذي نزل في المدينة المنورة فوجدت فيه نماذج كثيرة لوظيفة الدولة تجاه الأعداء والمعارضين الذين يشغبون عليها ويعملون ضدها.

 

واليوم نقدم نموذجًا واحدًا من سورة النساء، ولعلنا في خطب أخرى -إن شاء الله- نقدم نماذج من القرآن المدني يزيد ما قلناه وضوحًا، ويبين له حدوده التي لابد منها.

 

عندما قامت دولة الإسلام على التوحيد لا على الشرك، على الإيمان لا على الكفر، على إحياء شرائع الله الخاصة بالدولة والأسرة والمجتمع التي تتصل بالسياسة والاقتصاد والأسرة والأخلاق الفردية، عندما قامت الدولة على هذا كله كان طبيعيًّا أن ينبري لها أعداء، وأن يقوم ضدها معارضون.

 

ولذلك وجدت سورة النساء تحدثت عن مواقف للمعارضين في خمسة مواضع، كان التعريض بأولئك المعارضين يبدأ بهذا الاستفهام (أَلَمْ تَرَ). خمسة استفهامات نقولها إجمالاً ثم نشرحها بشيء من التعجل.

 

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا).

 

استفهام آخر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا).

 

استفهام ثالث: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).

 

استفهام رابع: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا).

 

استفهام خامس: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). 

 

هذه الاستفهامات الخمسة نستعرضها واحدًا واحدًا كي نقف وقفة تأمل أمامها.

 

الاستفهام الأول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ' من هم؟ هم اليهود ' أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ)، لأن ما بين أيديهم من صحائف الوحي ليس الوحي كله، وليس الوحي الحق، هو أولاً: ناقص، وثانيًا: مغشوش، فيه أخطاء وجهالات كثيرة، وأهم من ذلك كله أن مسالكهم ضد الموحدين مريبة ومرفوضة، لماذا؟! لأن أحقادهم طفحت من أفئدتهم، فهم يودون للمسلمين أن يرجعوا كفارًا بعد أن هداهم الله إلى الإيمان، وقد تكرر هذا المعنى واتضح في سور أخرى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، وقال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).

 

هذه الودادة في نفوسهم جعلتهم -بتعبير القرآن-: (يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).

 

هذا الحقد توارثته الدول الاستعمارية كلها ومن ينتسبون للأسف إلى السماء زورًا، ولقد سئل أحد المبشرين أمام رؤسائه: كم مسلمًا نصرته؟! فقال الرجل: لا تسألوني كم مسلمًا نصرته، ولكن سلوني: كم مسلمًا أفسدته على دينه؟! أو أفسدت عليه دينه؟!

 

هذا هو الذي يتجه إليه أعداء الإسلام: كيف يفسدون علاقتنا بكتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

 

الاستفهام الثاني: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ)، أي يعتبرون أنفسهم قمة الخليقة، ويرون أنهم شعب الله المختار، ويقولون في ضلالاتهم: إنهم أبناء الأنبياء، وإنهم أجدر الناس بالسيادة على كلتا الجبهتين في الشرق أو في الغرب لعبقريتهم ولحلمهم ولغناهم ولقدرتهم السياسية والاقتصادية.

 

وهذا كلام يحتاج إلى تأمل، فالقول بأن اليهود أو بني إسرائيل هم أبناء يعقوب كلام غير صحيح، فإن هؤلاء اليهود من عشرات الأجناس والدماء والألوان، ولو فرضنا كذبًا أنهم أولاد إبراهيم ما يجديهم هذا شيئًا، فإن الله -جل جلاله- يقول عن إبراهيم ونوح: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).

 

فالانتساب وحده للأنبياء لا يعطى وجاهة ولا يكون شرفًا ولو كانوا أبناء محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فإن نبينا -عليه الصلاة والسلام- قال: "يا فاطمة بنت محمد: سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا"، وقال: "ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".

 

فتزكية النفس والقول بأن لله شعبًا مختارًا كلام لا أصل له، إنما يزكي الإنسانَ عملُه وخلقُه وشرفُ نفسه وما يقدمه للآخرين من فضل ونبل، أما ما عدا ذلك فلا قيمة له.

 

الاستفهام الثالث: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا).

 

سئل زعماء يهود -يوم ضريت الحرب بين الوثنية تقودها قريش وبين التوحيد يقوده خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم- قال لهم رجال قريش: أنتم خبراء بالوحي، أنتم أهل الذكر وأهل الكتاب، احكموا بيننا وبين محمد، أنحن على الحق أم هو؟! فكان جواب أحبار اليهود وسدنة العهد القديم: أنتم على الحق ومحمد على الباطل.

 

الشرك عند هؤلاء حق والتوحيد باطل!! هذا هو الهوى الجامح والحكم القبيح، وسبب هذا الحكم الحقد والحسد والبغي في الأرض والاستطالة على الناس ورب الناس. 

 

الاستفهامات الثلاثة في أهل الكتاب وفي طليعتهم اليهود، أما الاستفهام الرابع فهو في المنافقين الذين وجدوا في المجتمع المدني ولهم باطن سيئ ومظهر خادع، هؤلاء تكشفهم دائمًا أمور:

 

أول ما يكشفهم أنهم يكرهون الدولة الإسلامية، ويكرهون التشريع السماوي، ويكرهون الأحكام التي أنزلها الله لتطهر المجتمع من أوساخه، وفي الحديث الشريف: "حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا". هذا الحديث معناه أن البركة ليست في أن تمطر السماء الأرض، هناك بلاد تكاد تموت جوعًا من الجفاف، والغريب أن هؤلاء طمس الله على أفئدتهم فلا يعرفون استسقاءً، هم بهائم ليس لهم رب يدعونه، إنهم ينتظرون نجدات من الشرق أو من الغرب.

 

هناك الآن خوف من أزمات الجوع ومن أزمات الضيق، والسبب ليس في أن الأرض لم تمطر، إنها أمطرت، ولكن السلوك البشرى فوق ظهر الأرض سلوك طائش معوج محروم من عناية السماء ومن مباركة الله، فلو أن مجتمعًا أقام حدود الله بحقها لتوفرت البركات هنا وهناك، وكما قال -جل شأنه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

 

الاستفهام الرابع: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). زعم: مطية الكذب، أي أن كلامهم غير صحيح، هم كذبة في زعمهم للإيمان، ليس تدينهم حقيقيًّا، إنما هو تدين صوري، ولو كان تدينهم حقيقيًّا لصدعوا بأمر الله ولنفذوا أحكام الله ولما اخترعوا عقوبات لا صلة لها بدين الله، هي عقوبات يريدون بها محاربة الجريمة في المجتمع، ولكن هذه العقوبات ما حمت المجتمع من عدوان المعتدين وسرقات السارقين وغش الغاشين وضلال الضالين، وهيهات!! وقد يحلفون أنهم يريدون بهذه العقوبات الإحسان إلى الأمة أو التوفيق بين ما يحب الله وبين ما ينبغي إيقاعه بين الناس من مصلحة، ويكذبهم القرآن في هذا كله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا).

 

هؤلاء بيّن القرآن الرأي فيهم والحكم الفذ في شؤونهم عندما قال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 

أما الاستفهام الخامس فهو في ضعفاء الإيمان الذين لا يعرفون حقيقة القدر ولا يحيطون علمًا بالأسماء الحسنى والصفات العلى، فيظنون أن الهروب يطيل الأجل، وأن النكوص يكثر الأرزاق، وأن الإنسان يستطع أن يعيش آمنًا في سربه مطمئنًا بين أهله إذا لم يقل كلمة حق وإذا لم يجاهد في سبيل ربه، وإذا لم يلبِّ نداء الشرف عندما يطلب لمعركة الشرف، هؤلاء يظنون أن نكوصهم وجبنهم يطيلان الآجال ويكثران الأرزاق، وهذا كله خطأ، فإن الأرزاق والآجال لا يمكن أن تطول بالجبن ولا أن تضعف أو تقل بالتضحية، هيهات!!

 

لقد سبق لرب العالمين أن حدد للناس أرزاقهم وآجالهم، فضعف الإيمان هو الذي يجعل بعض الناس يتملق ويجبن وتخور قواه في موقف شرف، وتضطرب أقدامه إذا دعي إلى الدفاع عن دينه وعن أمته وعن يومه وغده، كل هذا سببه ضعف الإيمان، ولو كان قوي الإيمان لعلم أن الطائرة تسقط وهي محلقة في الجو -ما يدفع أحد عن نفسه وهي ساقطة- ثم يبين القدر عما كتب، فإذا طفل أو شيخ ضعيف يبقى حيًّا، وإذا شاب عارم القوة مضرج بدمه، هذه آجال ما للبشر فيها دخل.

 

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). إن الإيمان الحق يفرض على المسلمين أن يستسلموا لله في هذه النواحي كلها.

 

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله موفق العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين. وأشهد أن محمدًا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

فإن الأمة الإسلامية في مفترق طرق، وأعداؤها يتناولونها من كل جانب، وأسباب الضعف التي تلاقت في مجتمعها كثيرة، ولكنها تستطيع على مر الأيام أن تمحو هذه الأسباب سببًا سببًا، وأن تأخذ طريقها إلى الله خطوة خطوة، وأن تبدأ فترسخ الإيمان في القلوب وتقوي التقاليد النافعة وتذهب التقاليد الضارة وتقيم البناء الخلقي متينًا في أمتنا.

 

إن بناء الأخلاق شيء من صميم عمل الفرد ومن صميم نشاط المجتمع، وللدولة دخل فيه، ولكنه دخل جانبي أو محدود، أو على الأقل عامل مساعد، ولكن العامل الأساسي هو في نشاط الفرد ونشاط الأسرة ويقظة الجميع، في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والترفع عن الشهوات وبناء فضائل الإيمان والوفاء والتراحم واحترام الحق واحتقار الباطل، وما إلى ذلك من معانٍ مجتمعُنا إليها فقير.

 

إنني أشعر بأن الأمريكيين كانوا علماءً كبارًا عندما وضعوا أقدامهم على القمر، وأن تفوقهم الحضاري بلغ حدًّا يثير الإعجاب، ولكني أقول وبصراحة: إن هناك مجالاً آخر ربما كان عندي أعظم من هذا التفوق وأدل على الحضارة من هذا الغزو للفضاء، أعنى أن رئيس دولتهم يدخل مع رجل الشارع في انتخابات فينهزم، يستعرضان معًا في الإذاعة فيُعطَى هذا خمس دقائق وهذا خمس دقائق، ليس لأحد تفوق على الآخر.

 

هذا نوع من الخلق أو نوع من الكرامة الإنسانية يحتاج المسلمون إليه، ولا يحتاجون إلى قنبلة ذرية ولا إلى تفوق صناعي.

 

وليس بعامر بنيان قوم *** إذا أخلاقهم كانت خرابًا

 

فلنبنِ الأخلاق والتقاليد الحسنة في أمتنا حتى يمكن أن نكون أهلاً للانتساب إلى الإسلام وإلى نبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام-.

 

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

 

أقم الصلاة.

 

 

نظرات في سورة النساء (1) العناصر الخمسة التي تتكون منها سورة النساء

 

نظرات في سورة النساء (2) المحور الذي تدور عليه السورة - إرساء قواعد المجتمع وتبيين معالمه

 

نظرات في سورة النساء (3) بناء المجتمع الإسلامي

 

 

 

 

المرفقات

في سورة النساء (4) الدولة في الإسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات