عناصر الخطبة
1/ سبب تسمية السورة بهذا الاسم 2/ المحور الذي دارت عليه السورة 3/ استعراض أحوال الناس في علاقاتهم بالله 4/ معنى التوسل وأنواعه 5/ مخاطبة السورة لأولي الألباب 6/ قيام السورة على إخلاص التوحيد لله 7/ الإسلام مجهول في العالم وبين أتباعهاقتباس
نلقي نظرات في سورة الزمر، والزمر جمع زمرة وهي الجماعة. والقارئ العادي لسورة الزمر يرى أن اسمها ربما أُخذ من آخر ما ورد في السورة من تقسيم الناس إلى قسمين: قسم يذهب إلى جهنم: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، وقسم يذهب إلى الجنة: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)، إلا أن القارئ المتدبر الذي ينم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فبعون الله نلقي نظرات في سورة الزمر، والزمر جمع زمرة وهي الجماعة. والقارئ العادي لسورة الزمر يرى أن اسمها ربما أُخذ من آخر ما ورد في السورة من تقسيم الناس إلى قسمين: قسم يذهب إلى جهنم: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، وقسم يذهب إلى الجنة: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)، إلا أن القارئ المتدبر الذي ينم النظر في السورة الكريمة يرى أن اختلاف الناس زمرًا وانقسامهم جماعات والمقارنة بين مبدأ كل جماعة وطريقها ونهايتها وبين الجماعات الأخرى المقابلة لها، يرى أن هذا التقابل موجود في السورة كلها.
قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
وقال تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
فهذه آيات في السورة ذكرت حال الحزبين أو الفريقين أو الزمرتين، وقد تكرر في السورة أمر المقابلة بين العمى والبصر، وبين الحق والباطل، وبين الشرك والإيمان، وسنقف -إن شاء الله- أمام هذه المقابلات وقفات متأنية نتدبر ما أودع الله فيها من عبرة، وما بث في ثناياها من حكمة ورحمة.
إلا أننا نريد الآن أن نعرف المحور الذي دارت عليه السورة كلها قبل أن نستعرض بتفصيل هذه المقابلات وما يعقبها من شروح، هذه السورة تقوم على: تصحيح المعتقد وتنقية الإيمان من الشوائب التي علقت به وإخلاص التوحيد الله.
قامت السورة كلها على هذا المعنى، وهي في وفائها بحقه ودورانها حوله ومجادلتها أصحاب الأوهام والنقائض والخرافات دونه، هي بهذا جزء من القرآن الكريم الذي أنزله الله ليحق الحق ويبطل الباطل في شؤون الناس جميعها.
القرآن الكريم كتاب إذا قورن بغيره -فرضًا- وجدناه أعمر الكتب بالأدلة التي تنافح عن وجود الله وكماله، وأحرَّ الكتب أسلوبًا في دفع الناس إلى حب الله واليقين فيه والاعتماد عليه.
القرآن الكريم كتاب الحقائق مصفاة منقاة لا شائبة فيها، ولو أن أي إنسان رزق الحياد المطلق ثم قيل له: اقرأ هذا الكتاب فإنه يتحدث عن رب العالمين، واقرأ غيره إن شئت وقارن، فإنه عندما يقرأ القرآن الكريم سيجد حديثًا عن الله مفصلاً معقولاً، ويجد براهين مستخلصة من مقدمات رتيبة، ويجد أن منهج القرآن في إثبات العقائد وفي غرسها وتجميع الناس عليها وفي مناقشات غيره ممن ذهبوا مذهبًا آخر غير ما شرح يجد أن القرآن الكريم في هذا كله بلغ مدى يستحيل أن يقترب منه غيره.
وهذا هو السر في أن الآية الأولى من هذه السورة نزلت تقرر هذه الحقيقة: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ).
لابد من استعراض لأحوال الناس في علاقاتهم بالله، وقد استعرضت الآيات هنا هذه الأحوال:
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
هناك ناس لا يؤمون بألوهية، يرون الكون مقطوعًا مبتورًا ليس له صاحب ولا مدبر ولا موجد، كان الإلحاد بهذا الوصف مرضًا يصيب بعض الأفراد قديمًا، ولكنه الآن أصبح مرضًا شائعًا قامت باسمه دول عظيمة -كما توصف- لها قوى ضخمة في البر والبحر والجو.
وهناك -في أمريكا وغرب أوروبا- ناس لا دين لهم، يؤمنون بالمادة وحدها، ويعيشون لأهوائهم فوق هذا التراب، وأكثرهم ينكر الألوهية ويغفلها ويبعدها من طريقه، فهو يرسم خطته في الحياة وفق دماغه.
وهناك من يؤمن بألوهية، لكن هذه الألوهية قد تكون نتاج عمل عقلي ناقص، وذلك كإيمان بعض الفلاسفة الإلهيين مثل أرسطو، فهو يتصور الإله الذي خلق السماوات والأرض مستغرقًا في تفكير ذاتي، مشغولاً بنفسه وآفاقه عما عداه، فهؤلاء لا يدرون شيئًا مما يقع في الأرض ولا يعرفون ما هنالك.
وهناك نوع من التدين الأرضي والسماوي، فمثلاً اليهود يرون أن الله الذي خلقهم خلق العالم من أجلهم أو خلقهم في العالم ليحتكروه ويكونوا سادته، ومن تبجحهم أنهم أثبتوا في العهد القديم أن أباهم يعقوب أخذ لقب إسرائيل بعد أن صارع الله طول الليل وكاد يغلبه، وإنما أنقذ الإله نفسه بأن أعطاه لقب إسرائيل.
وهناك من انتزع من ذات الله جزءًا، وزعم أن هذا الجزء ولد لله، واعتبر هذا الولد حينًا إلهًا وحينًا آخر ابن إله أو شبه إله أو ما إلى ذلك مما حير الأفهام واستحال أن يوجد له تفسير واضح معروف.
وهناك مشركو العرب الذين كانوا يعلمون أن الله موجود وأنه حق ولكنهم يقولون: إن الاتصال بهذا الإله مباشرة شيء صعب، وهناك أولاد لله يمكن الاتصال بهم فيقربوننا منه ويكونون شفعاء لنا عنده.
أما الإسلام فقد جاء بعد هذه الأوهام الكثيرة، والمزاعم المختلفة وقال: إن الله واحد لا شريك له، وقال: إن ما عدا الله من أشخاص أو أشياء عبيد له ليس لهم مع الله شيء، وأفضلهم قدرًا وأكثرهم أجرًا هو أشدهم إخلاصًا لله، تعبدًا له، واستغراقًا في طاعته، وابتعادًا عن مخالفته.
بيّن الإسلام أن قصة أن لله ولدًا قصة سخيفة: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
ليس لله ولد، ما عدا الله عبد له، خلقه من عدم ودبر أمره وأفقره إلى ذاته أبد الآبدين، فما يستغنى بذاته عبد أبدًا وإن كان نبيًّا أو ملكًا، من العرش إلى الفرش كل شيء ذليل في ساحته، مقهور له، مغلوب على أمره لأنه عبد، ولو كان الله يريد أن يكرم أحدًا لكرم من شاء، لكن ولادة وبنوة لا.
على هذا النحو بدأت سورة الزمر: (...فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
ولما كان المسلمون الآن تجري بينهم بعض الخلافات في دعاء الله فإني أحببت أن أذكر كلام العلماء في معنى التوسل، قال العلماء: تذكر كلمة الوسيلة وتقصد بها معانٍ خمسة:
أما المعنى الأول: فهو التوسل إلى الله بذاته وصفاته وأسمائه الحسنى.
وهذا النوع من التوسل لاشك في قبوله وصحته، ومنه هذا الدعاء: "اللهم إلى أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد".
ومنه هذا الدعاء أيضًا: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي".
أما المعنى الثاني: فهو التوسل إلى الله بالعمل الصالح، وهذا النوع من التوسل مقبول يقينًا، وهو مفهوم من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإن الوسيلة هنا تعني العمل الصالح. وقد جاء في السنة الصحيحة أن ثلاثة آواهم الغار وانسد فمه وهم في داخله، فلم يروا إلا أن يتوسل كل منهم إلى الله بأفضل ما قدّم من عمل، وفعلاً توسل الأول ببره بوالديه، وتوسل الثاني بعفافه، وتوسل الثالث بعدله، فكشف الله عنهم وخرجوا يمشون.
أما المعنى الثالث: فهو التوسل إلى الله بدعاء الصالحين، وهو أن تقول لمن شئت أو يقول لك من شاء: ادع الله لي، وهذا النوع من التوسل لا خلاف بين العلماء في صحته وقبوله، ونحن -جمهور المسلمين- ندعو الله لنبينا -عليه الصلاة والسلام- ولمن سبقنا من المؤمنين، وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه استأذن النبي في العمرة فقال: " أي أخي: أشركنا في دعائك ولا تنسنا"، وقد كان المسلمون عندما يقع لهم شيء من الضيق يطلبون من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله لهم، وحدث كما يقول أنس بن مالك أن أصابت الناس سنة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته -صلى الله عليه وسلم-، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال: يا رسول الله: تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة، سال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
وعن أنس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". قال: فيسقون.
أما النوع الرابع: فهو التوسل إلى الله تعالى بحق أو بجاه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو ممنوع عند جمهور العلماء؛ لأنه لم يقع من الصحابة -رضي الله عنهم- في الاستسقاء ونحوه، لا في حال حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بعد موته، ولم يثبت في دعاء من الأدعية الصحيحة، والدعاء عبادة أساسها التوقيف.
وقال الذين قبلوا هذا اللون من التوسل: بل وُجد في السنة أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إلى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ". وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أنه روي من نحو أربعة عشر طريقًا.
أما النوع الخامس: فهو دعاء غير الله، وقد اتفق العلماء على رفضه لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله.
على هذا النحو يمكن أن ندرك الحقائق في عقيدة التوحيد عندما نقرأ قوله تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ).
والكاذب الكَفَّار هنا من افترى على الله ما لم يقله، أو من افترى على الله آلهة ليست معه، فكل كذب على الله يعتبر صاحبه محرومًا من توفيق الله ومن فضله.
بعد أن بينت السورة أن الله هو رب العالمين، وأنه الخالق، وأن ما عداه مخلوق، وأن الأمر كله إليه، وأن الحكم كله منه، بعد أن بيّنت هذا حركت في كل إنسان عقله الذي يفهم به ويخاطب به ويرتفع أو ينخفض به، وقد لوحظ أن السورة ذكرت "أولي الألباب" ثلاث مرات في خلال خمسة عشر سطرًا منها.
قال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
وقال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
هذا الإيقاظ لأولي الألباب يعني أن التدين يوم يكون مناقضًا للعقل فإن هذا التدين يسقط، هذا الكلام المتكرر عن أولي الألباب يعني أن الإسلام عقد صلحًا بين العلم والدين؛ لأن العلم والدين في نظر الإسلام كل منهما يكمل الآخر ويترجم عن جانب من الحقيقة الكونية في الأزل والأبد.
معنى هذا أن السورة التي قامت على إخلاص التوحيد أو على تصحيح العقيدة أرادت أن تقول للإنسان: إنك -أيها الإنسان- مخلوق لك ناحيتان: ناحية مع الله سلبية، تقف بين يديه خاضعًا تسمع منه ولا تقترح عليه، تنتظر منه أن يوجهك هو بوحيه، تطلب منه لأنك فقير وهو غني، لأنك ضعيف وهو قادر.
هذه ناحية، وناحية أخرى إيجابية، فأنت عبد لله سيد للكون، ملك في العالم، العناصر تحت يديك، البر والبحر والجو من مملكتك، كرّمك الله في هذا الملك الواسع وجعلك سيد هذا الكون، على أن تكون عبدًا لرب الكون.
هذا المعنى هو ما قامت عليه سورة الزمر، صححت العقيدة، وبينت أن الله الفرد الصمد ليس له ند ولا ضد، وعلمتنا إذا عبدناه ودعوناه أن نلجأ إليه وحده ولا نلجأ إلى غيره، وعلمتنا في مجتمعنا أن نحل ما أحل، وأن نحرم ما حرم، وأن نحتكم إلى القوانين التي شرعها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزّ وجل-، واعلموا -أيها الناس- أن الإسلام لا يزال دينًا مجهولاً في العالم كله حينًا وبين أتباعه حينًا آخر.
أما في العالم فقد قال لي أحد القادمين من أوروبا: إنهم عندما كانوا يسمعون مني احترامًا لعيسى يندهشون ويقولون: هل الإسلام يحترم عيسى؟! إنهم لا يعلمون أن الإسلام يصف عيسى بأنه سيد وشريف ووجيه في الدنيا والآخرة، والسبب أن الأجهزة الصليبية الاستعمارية ناشطة في الكذب على الإسلام، وليتها وجّهت نشاطها في محاربة الانحلال والإلحاد الذي ملأ أوروبا وأمريكا، إنها تنسى هذا كله وتشمّر عن ساعديها لضرب الإسلام وحده.
لكن المشكلة أن المسلمين أنفسهم لا يعرفون دينهم معرفة صحيحة، وكثيرًا ما يجيء بعض إخواننا هنا لكي نجعل بعض الخلافات الفرعية مجالاً للحديث على هذا المنبر، وهذا مستحيل، فلله المنة على العبد الذي يتكلم بينكم أنني أوتيت رشدي، إنني لست مجنونًا حتى أتكلم في خلافات فرعية أو فقهية أو أمور جزئية ممكن أن تحل برفع المستوى العلمي للمسلمين.
إن أعداء الإسلام تميّزوا بالعلم الواسع في الدنيا، وبالبراعة الهائلة في الإنتاج وبالقدرة على رسم الخطط، ونظروا للمسلمين كما ينظر بعض الفلاسفة إلى جماعات من الصبية في الحارة، فهو يلعب بهم أو يسخر منهم أو يغري بعضهم بالبعض الآخر، أو يشغلهم بشيء من العبث يصرفهم عن مستقبلهم وعن حياتهم وعن غدهم القريب والبعيد.
نريد أن نعقل من نحن، وما رسالتنا، وأين نحن في دنيا الناس، ومن أعداؤنا، وما بيتوا لنا، وما يمكن أن نتجاوز عنه من خلافات فرعية حتى نستطيع أن ننقذ أنفسنا.
إن الشيوعية العالمية والصليبية العالمية والصهيونية العالمية؛ إن كل هذه القوى شحذت سكينها لتجهز على العرب والمسلمين، فإذا لم يستيقظ العرب الآن فمتى يستيقظون؟! بعد الذبح؟! بعد الذبح لا يقظة إلا في جهنم وبئس القرار.
يجب أن نكون كما وصف الله المؤمنين القدامى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، فإن وصف المسلمين الآن أنهم رحماء بالكفار أشداء بينهم.
نريد أن نعرف من نحن، وما مستقبلنا، فإن كل شيء يتجه على عجل لوأدنا والإجهاز علينا، فإلى متى تبقى غفلتنا؟!
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أقم الصلاة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم