عناصر الخطبة
1/ حكم النقد العام 2/ تعيُّن نقد النفس 3/ ما يُتَقَوَّى به على نقد النفس 4/ ما تكشفه محاسبة النفس من الطبائع 5/ الصدِّيقية نتاجٌ لمقْت النفس 6/ ضوابط إنكار المنكراقتباس
الرِّضا عن النفس حالة خطيرة تخدِّر مشاعرَ الطُموح، وتمنع التغييرَ والإصلاح، وتجعل المرء في يأس من تغيير حاله؛ الرضا عن النفس شعور سيء لا خير فيه، لا في أمور الدين، ولا في أمور الدنيا؛ إلا في مقاومة اليأس والتشاؤم والإحباط؛ وإلا فإن أصحابَ الانجازات والبطولات ما كانوا ليكونوا كذلك لولا شعورُهم بعدم الرضا عن أنفسهم، ولو أنهم رضوا عن أنفسهم رضا المغرور بنفسه والمعجب بعمله، لما ترقّوا في درجات سلم البطولات والانجازات..
أيها الأحبة الكرام: ممارسة النقد حق من حقوق الإنسان، وحرمانه منه مصادرةٌ لحريته، وامتهان لكرامته، والشرع لم يقر للإنسان هذا الحق فحسب؛ ولكنه جعله واجباً وجوباً كفائياً على مجموع الأمة، إذا لم يقم به من تحصُل بهم الكفاية أثِم المسلمون جميعاً.
وقد وجدنا ذلك ظاهراً في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تعني الاحتسابَ على منكرات المجتمع كلها بلا استثناء، سواءً أكانت في شؤون العبادة والأخلاق، أم في شؤون الاقتصاد والمعاملات. فما الأمر بالمعروف وما النهي عن المنكر إلا ممارسة مشروعة لهذا الحق الإنساني الشريف: حق النقد والمحاسبة، والإصلاح والتغيير.
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة تكليف فيها تشريف؛ لأنها منَحت لكل مسلم حق النقد والمحاسبة والإصلاح والتغيير، وفي ذلك تقدير لكرامته، وحماية لحريته أن يمارسها بقيودها الشرعية.
وإذا كان من حَقِّ الإنسان في شريعة الإسلام أن يمارس نقدَ الآخرين، فإن من الواجب عليه شرعاً أن يقبل من الآخرين أن يمارسوا معه الدور نفسه؛ بل أمرت الشريعة بما هو أبعدُ من ذلك وأجلّ، فأمَرَت بما لم يأمر به غيرُها، وعُنيت بما لم يُعنَ به قانون ولا دستور، أمَرت المسلم أن يمارس النقد مع نفسه، وأن يشتغل بعيوب نفسه كاشتغاله بعيوب غيره، وألا يشغله نقده للآخرين عن نقد نفسه.
تُعلمنا شريعة الإسلام أن النفس ضعيفة أمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وأن الشيطان قد قعد لها كل مرصد؛ ليصرفها عن طريق الخير إلى الشر، وليحْرفها من درجة الفضيلة إلى درْك الرذيلة.
إن المسلم في صراع دائم مع الشيطان، وهذا يقتضيه أن يعالج ضعفَ نفسه وكسلها بالمحاسبة كل حين، يتفقد تقصيرها، ويستدرك خطأها، ويُصحح مسارها.
إن الالتزامَ بمحاسبة النفس كل حين ليس بالأمر الهين الذي يأتي من غير مجاهدة ومصابرة، ولا بالعمل الذي تنشأ نيته فيقع بعدها تباعاً.
إن المواظبة على محاسبة النفس كل حين لا تأتي من فراغ، وإنما تتيسر بزاد التقوى، وأن يتقوى المسلم على ذلك بالإكثار من صنوف العبادات، وبكثرة خلوته بربه، يناجيه، ويستعينه، ويستهديه، ويستغفره؛ يستمد منه العون والتوفيق، ويملأ قلبه من مهابته –جل جلاله-، ومن تعظيم أمره وشرعه.
مَن مِنا أيها الأحبة من تزوّد بهذا الزاد الرباني؟! من منا جعل من أسبوعه ساعةً يخلو فيها بربه –جل جلاله-؟! من منا جعل لنفسه من أسبوعه ساعة أو سُوَيْعَةً للتفكُّر في ملكوت السموات والأرض؛ ليزداد تعظيماً لربه وتوقيراً؟!.
إن إلزام النفس وزمها بزمام المحاسبة عبادةٌ يحتاج فيها المرء إلى أن يتقوى عليها بما يتقوى به على محافظته على صلاته وصومه وزكاته، وإنما مشقة التكليف في بدايته، فإذا اعتادت عليه النفس وارتاضت تذلّل لها وتيسر بتيسير الله –جل جلاله-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]. هذه الآية أصل عظيم في المحاسبة، إذ أمرت أن ينظر الإنسان فيما قدم من الأعمال الصالحة ليوم الحساب، وسماه الله غداً لشدة اقترابه، وإشعاراً بقصر العمر في هذه الحياة، فما المحاسبة إلا نظر النفس فيما قدمت لغد، والتجرد لهذه المحاسبة الدقيقة يكشف طبائع النفس، من الكِبر والغرور والعُجب، وسوء الظن، وسوءِ الخلق، وقسوة القلب.
ودوام المحاسبة يجعل القلب يقِظاً حسَّاساً، شاعراً بعظمة الله ومهابته وجلاله في جميع أحواله، إنه يجعل النفس متحرِّجةً أن يراها الله في حالة يكرهها؛ فتتحرّج من أن يراها ربها قد نازعته في كبريائه، أو أن يراها متطبعة بالطبائع السيئة مع الناس، أو أن يراها متشبعة من المعاصي، مقفرةً من الطاعات.
إن مجرد أن يخطر في قلب المرءِ نظرُه فيما قدّم لغد يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته كلِّها، وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع تقصيره، وبواطن عيوبه؛ وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-: "الكيِّسُ مَن دَان نَفسه، وعمل لما بعد الموت؛ والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيَّ".
وقال عمر -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وَزِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم". وقال الحسن -رحمه الله-: "المؤمن قَوَّامٌ على نفسه، يحاسِب نفسه، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
وجاء عن بعضهم: "مكتوب في حكمة آل داود: حقّ على العاقل أن لا يغفل عن ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، فإن في هذه الساعة إجماماً للقلوب". وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد نقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالِك".
وفي شأن محاسبة النفس ينبغي أن يغلب على صاحبها سوءُ الظن بها، فمن أساء الظن بنفسه كان أشدَّ لها مقتاً ومحاسبة، وإنما تثقل المحاسبة وتتعسَّر على من غلب على طبعِه الكِبر والعُجبُ بالنفس؛ لأنه إذا تكبر وتعاظم في نفسه أحسن الظن بها، وصار مغروراً معجباً بنفسه لا يسمع فيها نقداً، لا من غيره ولا من نفسه.
الرِّضا عن النفس حالة خطيرة تخدِّر مشاعرَ الطُموح، وتمنع التغييرَ والإصلاح، وتجعل المرء في يأس من تغيير حاله؛ الرضا عن النفس شعور سيء لا خير فيه، لا في أمور الدين، ولا في أمور الدنيا؛ إلا في مقاومة اليأس والتشاؤم والإحباط؛ وإلا فإن أصحابَ الانجازات والبطولات ما كانوا ليكونوا كذلك لولا شعورُهم بعدم الرضا عن أنفسهم، ولو أنهم رضوا عن أنفسهم رضا المغرور بنفسه والمعجب بعمله، لما ترقّوا في درجات سلم البطولات والانجازات، ولرضُوا لأنفسهم أدنى درجات ذلك. لا خير في الرضا عن النفس وحسن الظن بها في أمور الدين؛ لأن حسن الظن يمنع من كمال التفتيش، وتدقيق المحاسبة والنقد، ويُري المساوئ محاسن، والعيوب كمالاً.
لا يسيء الظن بنفسه إلا مَن عرفها، ومن أحسن الظن بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه، والمحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانبِ حقِّ الله عليه، وهكذا كان حال سلف الأمة، كانوا يمقتون أنفسهم في جانب حق الله عليهم. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومقت النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبدُ به من ربه في لحظة واحدة أضعاف مايدنو بالعمل". قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "من مقت نفسه في ذات الله آمَنَهُ الله من مقته".
بارك الله ...
الخطبة الثانية:
أما بعد: يُروى في الأثر: "طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس"، وهذا الأثر جعله بعض الناس ترساً يتترَّسون به عن سهام النقد والمحاسبة والإنكار، وقد عهدناهم يحاولون جهدهم إسقاطَ مبدأ المحاسبة والنقد والإنكار بكل سبيل، وما أكثر ما تسمعهم يرددون هذا الأثر المشهور! كأنما يريدون أن يقولوا لمن يطالب بمحاسبتهم، أو ينكرُ عليهم قبائحَهم ومعاصيهم: اشتغل بإصلاح نفسك وتفقد عيوبك، ودعْ عنك الاشتغالَ بعيوب الناس.
وهذا الأثر لا تصح نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو أثر يُروى عن بعض التابعين، وله معناه الخاص الذي يجب أن يُحمل عليه إحساناً للظن بقائله.
وما هذا التحجّج إلا مغالطة جاهل لا يصح أن تورد على شرع الله، فإن شرعَه قد قضى بوجوب إنكار المنكَر على كل مستطيع، ولم يجعل وجوبَ ذلك خاصاً بمن انتهى من إصلاح نفسه وبلغ درجة الكمال، ولم يقل بذلك عالِم ولا عاقل؛ لأن مؤدَّى هذا القول أن تتعطل شعيرة إنكار المنكر ومحاسبة المقصِّرين والمتلاعبين بمقدرات الأمة وحقوقها.
وخير ما يجاب به عن هذه الشبهة الداحضة قوله تعالى عن سبب استحقاق كفَرةِ بني إسرائيل للعنته -سبحانه-: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة:79]، فلم يجعل فعلهم للمنكر عذراً في عدم الإنكار على شركائهم في ذلك المنكر.
إن هذا الأثر الذي يتحجَّج به أولئك الذين يريدون أن يجعلوا أنفسهم في حَصَانةٍ من النقد والمحاسبة والإنكار، له معناه الواضح الذي يجب ألا يُحمل على غيره، وهو أنَّ مَن ابتُلي بالاشتغال بتتبُّع عيوب الناس، وكشف عوراتهم، وتلقّط زلاتهم، فخيرٌ له أن يشتغل بتتبُّع عيوب نفسه، وكشف مساوئها؛ محاولةً في استصلاحها وتقويمها.
ونقول بكُلِّ وضوح: إن تتبُّع عورات الناس المستتِرين بستر الله، ومحاولةَ كشفِ عيوبهم وفضحِهم، مذمومٌ كلُّه؛ حتى ولو بدافع الغيرة وإنكار المنكر؛ فإنكار المنكر لا يكون بالتشهير، وتتبع العورات، وفضح المستور؛ وحسبك في الإنكار أن تنكر المنكرَ المعلَن، وما تعدَّى شرُّه، وبان خطره.
ومع ذلك نقول: يجب ألا تشغلنا محاسبةُ الآخَرين ونقدِهم والإنكار عليهم عَن محاسبة أنفسنا، وعن العمل في إصلاحها.
اللهم طهِّر قلوبنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم