من فقه أذكار الصلاة (1)

عمر بن عبد الله المقبل

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ أهمية حصن الأذكار الموظّفة في اليوم والليلة 2/ فضائل ذِكْر الله تعالى 3/ تأملات في أذكار الصلاة 4/ الحمد أعظم ثناء على الله 5/ كثرة مآسي المسلمين في الشام واليمن والعراق 6/ واجبنا نحو المشردين والمنكوبين من المسلمين.

اقتباس

لقد نال ذكرُ الله -تعالى- في نصوص الكتاب والسنة حظاً كبيراً، بياناً لفضله، وعظيم أثَرِه، ولا عجب! فهو قوتُ القلوب وقرة العيون، وسرور النفوس، وروحُ الحياة، وحياةُ الأرواح، فكل صدور خلت من هيبته وتقواه فهي ضيقة ليس لها انشراح، وكل نفوس أعرضت عن ذكره فهي مظلمة الأرجاء.. ومن هذه الأذكار التي تعبّدنا الله بها: الأذكار التي شرع لنا قولها في الصلاة، التي تبدأ بالتكبير وتختتم بالتسليم.. هذه الأذكار التي لو عقلناها حقًّا؛ لوجدنا لصلاتنا لذة، ولكنا أكثر تأثرًا بصلاتنا، ولخرجنا منها بحال غير الحال التي دخلنا بها في صلاتنا، ولقلّ سهونا.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرةُ إلا بعفوه، ولا طابت الجنةُ إلا برؤيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنَّ على من شاء مِن عباده فأعانهم على حسن عبادته وشكره وذِكره.

 

وأشهد أن نبينا وإمامنا وسيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وخيرته من خلقه وصفوته، صلى الله عليه وعلى وآله وصحابته، ما ذَكر اللهَ ذاكرٌ، أو بقي عَامِهٌ في غفلته، وسلّم تسليماً كثيراً.

 

 أما بعد: فإن الله -تعالى- حين ابتلى بني آدم بعداوة الشيطان؛ شرع لهم ما يتّقون به شرّه، ويستدفعون به كيدَه، وكان من أعظم هذه الحصون قوةً: حصنُ الأذكار الموظّفة في اليوم والليلة، وقد ورد في الترمذي تشبيهُ الذاكر لله في وصية يحيى بن زكريا -عليهما الصلاة والسلام- بقوله لبني إسرائيل: "وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله" (سنن الترمذي (2863)، وقال: حسن صحيح غريب).

 

أيها المسلمون: لقد نال ذكرُ الله -تعالى- في نصوص الكتاب والسنة حظاً كبيراً، بياناً لفضله، وعظيم أثَرِه، ولا عجب! فهو "قوتُ القلوب وقرة العيون، وسرور النفوس، وروحُ الحياة، وحياةُ الأرواح، فكل صدور خلت من هيبته وتقواه فهي ضيقة ليس لها انشراح، وكل نفوس أعرضت عن ذكره فهي مظلمة الأرجاء: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].

 

أيها المسلمون: ومن هذه الأذكار التي تعبّدنا الله بها: الأذكار التي شرع لنا قولها في الصلاة، التي تبدأ بالتكبير وتختتم بالتسليم.. هذه الأذكار التي لو عقلناها حقًّا؛ لوجدنا لصلاتنا لذة، ولكنا أكثر تأثرًا بصلاتنا، ولخرجنا منها بحال غير الحال التي دخلنا بها في صلاتنا، ولقلّ سهونا.

 

تأملوا - أيها المسلمون - تلكمُ الجملة العظيمة التي نفتتح بها صلاتنا: "الله أكبر" فالله -تعالى- أكبر مِن كلِّ شيء؛ أكبر من كل شيء في ذاتِه، وأكبر من كل شيء في وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ ما تحتمله هذه الكلمة مِن معنى، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ)[الزمر: 67]، (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الجاثية]، ومَنْ هذه عظمته فهو أكبر مِن كل شيء، وكلُّ معنى لهذه الكلمة مِن معاني الكبرياء فهو ثابتٌ لله -عز وجل-.

 

فكلما عرض للمصلي عارضٌ من الأفكار الدنيوية - التي لا يخلو منها ذهن مُصَلٍّ - تذكر بهذه الجملة أنه بين يدي الله، وأن الله -تعالى- أكبر منها، فالله أكبر من كل شيء؛ أكبر من همومنا، وأكبر من مشاغلنا، وأكبر من أعمالنا، فإذا عرضت له تلك العوارض طردها بقوله: «الله أكبر»!

 

ثم يركع فيقول: "سبحان ربي العظيم"، والتسبيح: التنزيه، فالعبد ينزِّه ربّه عن كل نقصٍ، في ذاته أو أسمائه أو صفاته، فلله -جل وعلا الكمال المطلقُ، وله العظمة من جميع الوجوه.

 

 تأملوا - يا عباد الله - قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء: 104]، وطَيُّ السِّجِلِّ للكُتُب سهل جدًّا، إذا كَتَبَ الإِنسانُ وثيقةً فإن طيّها عليه سهل، ولكن أن يكون طيّ السماوات بعظمتها كطي الورقة بالنسبة لأحدِنا بل هو أيسر؛ فهذه عظمة لا يمكن أن نتصور حقيقتها وكُنهها! إنما هي إشارة لذلك.

 

والمؤمن حين يستشعر معنى هذه الجملة (سبحان ربي العظيم) حين يقولها، تذكّر أنه حين يركع فإنه لا يركع إلا للعظيم الذي يستحق التعظيم كله، يقولها جامعًا لله -تعالى- بين التنزيه القولي والعملي، فهيئة الركوع هيئة تعظيمٍ لا تنبغي إلا بين يدي الله تعالى.

 

ولما كان القرآنُ أشرفَ الذِّكْرِ؛ لم يُناسبْ أن يقرأه الإِنسانُ وهو في هذا الانحناء، ولا في حال السجود، بل يُقرأ في حال القيام، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإنِّي نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرَّب -عز وجل-، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» (صحيح مسلم ح: 479).

 

وحين يفرغ المصلي من هذه الحال، ويتهيأ للرفع؛ فإنه يقول: «سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه»، أي: استجاب الله لمن حمده، والحامدُ لله هو الذي: وَصَف المحمود بالكمال مع المحبَّة والتَّعظيم.

 

ومَنْ حَمِدَ اللَّهَ فإنه قد دعا رَبَّه بلسان الحال؛ لأن الذي يحمَدُ اللهَ فإنما يرجو ثوابه، فإذا كان يرجو الثَّوابَ فإن الثناء على الله -عز وجل- بالحَمْد والذِّكر والتكبير متضمِّنٌ للدُّعاء، لأنه لم يَحمَدِ الله إلا رجاءَ الثَّوابِ.

 

ثم يقول المصلي بعدها: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَموات، ومِلْءَ الأَرْض، ومِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» وانظر - أخي المسلم - لم يؤمَر المصلي أن يقول: ربنا لك المدح، بل: لك الحمد؛ لأن الحمد أعظم في الثناء على الله؛ فالمدح لا يلزم منه أن يكون الممدوحُ محبوباً معظَّماً، إذ قد يمدحُ مِن أجل أن ينالَ غَرَضاً له، وقد يمدحُ مِن أجل أن يتَّقي شَرَّ من مدحه، لكن الحمدُ لا يكون إلا مع محبَّةٍ وتعظيمٍ.

 

وحين يقول المصلي: "مِلءَ السماوات والأرض" فهو يعلن ويستحضر أنَّ الله سبحانه وتعالى محمودٌ على كلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وعلى كُلِّ خَلْقٍ خَلَقَهُ، وحمْدُه هذا يملأ السماوات والأرض.

 

وحين يقول: «وملء ما شئت من شيء بعد» فالمصلي يحمد ربه حمداً يملأ العوالم الأخرى غير السماوات والأرض، مما لا يعلمها إلا الله جل جلاله.

 

فإذا سجد المصلّي وقال: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» فهو يجدد إعلانه مرة أخرى، بتنزيه ربّه -تعالى- عن كل نقص في أقواله وأفعاله، وفي أحكامه الكونية والشرعية.

 

وهو هنا في سجوده يقول: "رَبِّي الأعلى" ولا يقولَ كما في الركوع: رَبِّيَ العظيم، لأن ذِكْرَ العلوِ هنا أنسب من ذكر العظمة، فالإنسان في حال السجود أنزلَ ما يكون، لذا كان من الحكمة والمناسب أن يُثني على الله بعلوه:

فله العلوّ من الوجوه جميِعها *** ذاتًا وقهرًا معْ علو الشانِ

 

ثم إذا جلس بين السجدتين قال: "رَبِّ اغفرْ لي"، ويكررها، وهو حين يقولها فإنه يسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفرَ له الذُّنوبَ كلَّها - الصغائر والكبائر - فهل نحن - يا عباد الله - حينما نقول هذا الذكر وغيره من أذكار الصلاة نستشعر ما نقول؟ هل نحن حينما نقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" نستشعر أن لنا ذنوبًا صغارًا وكبارًا نرجو الله -عز وجل- مغفرتها؟ أم هي أذكار تجري على الألسنة دون استشعار ودون تذكر وتأمل؟!

 

بقي من أذكار الصلاة حديث عن أطول موضعٍ يستمر فيه المصلي ذاكراً لربه، مثنياً عليه به، مصلياً على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، داعياً ربَّه بما تيسر.. نتحدث عنه في خطبة قادمة إن شاء الله.

 

بارك الله لي ولكم.....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...........، أما بعد:

 

فالحديث عن الصلاة يعني الحديث عن الاجتماع والجماعة، الحديث عن الهمّ المشترك بين المسلمين، فالصلاة لا تعني العزلة عن مآسي المسلمين وأحوالهم، وإذا ذُكرت مآسي المسلمين اليوم.

 

 فلا أظنّ شيئاً يعلو على مآسي أهلنا في الشام - وجراحنا تنزف في فلسطين واليمن والعراق وبورما وغيرها من الأقطار - لكنّ مأساة المهاجرين واللاجئين السوريين، ومشاهد ركوبهم البحر، وبقائهم متسولين على حدود الدول الأوربية؛ مشاهد تتوقف معها الكلمات.. وتتعلثم عندها كل لغة البيان! أما صورة الطفل الذي لفظه البحر، وألقاه على الشاطئ، بثيابه المهترئة، ونعليه الباليتين ..! فهي صورة لا يمحوها الماء، ولن تنساها الأجيال..

 

إنها ليست مجرد صورة لجثة طفلٍ قد غرق، ولفظه البحر! كلا.. بل هي شهادة عار وهوان ضربَ الأمة.. وهو إعلان مقروء بكل لغة عن حجم الخزي والعار الذي لبس هذه الأمة بل لبسته هي، حتى لم يجد هذا الطفل الصغير الذي ولد والثورة قائمة، لم يجد هذا الطفل من يؤويه أو ينقذه!

 

إنها صورة تكشف في المقابل هشاشة دعاوى حقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب! فهي حقوق معلنة، لكنها تتوقف –بل تُلغى- إذا كان المظلوم مسلماً، ولن أقول عربياً.. بل مسلما من أيّ جنس كان، فالتعامل مع الدِّين - وإن زعموا غير ذلك - هو المقدم عندهم.

 

لذا أنطق الله رئيس أحد الدول الأوربية - معلقاً على لومهم على عدم استقبالهم للاجئين المسلمين: "تدفق المهاجرين - ومعظمهم من المسلمين - يهدد الهوية المسيحية لأوربا"!

 

هم لا يلامون على الحفاظ على هويتهم، لكن ماذا يقول منافقو عصرنا، الذين لم يتركوا مِدْحةً إلا وذكروها في الغرب، وأنهم يتعاملون بمبدأ الإنسانية قبل كل شيء!

 

وهم لا يلامون.. فهذا دينهم، وتلك بلادهم، بل الملوم نحن المسلمين، الذين لبسنا من ثياب الذل والهوان أوسع الثياب وأكبرها، حتى عجزنا عن إيواء مئات والآلاف من اللاجئين المسلمين، الذين لو وزّعوا على الدول العربية والإسلامية، لتفككت مشكلتهم بحلول غير معجزة، يمكن الوصول إليها وبأيسر الطرق، لكن إلى الله نشكو قلة حيلتنا، وهواننا على الناس، ونعوذ بالله أن نعاقب بتقصيرنا في حقهم.. اللهم إنا نسألك لهم ولجميع المسلمين المضطهدين في كل مكان فرجاً عاجلاً ..

 

إن من أقلّ حقوق هؤلاء المضطهدين علينا الدعاء لهم من قلوب تشعر بمعاناتهم حقاً.. ندعو وكأن أحد أقاربنا هناك معهم في كربهم.. فلعل الله أن يكشف الغمّة، ويفرّج الكربة.

 

 

المرفقات

فقه أذكار الصلاة (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات