عناصر الخطبة
1/انتشار ظاهرة التشبه 2/آثار التشبه على الفرد والمجتمع 3/التشبه في الظاهر دليل على الحب الباطن 4/التلازم بين التشبه بالغير والولاء 5/التشبه المذموم وأنواعه 6/كيفية معرفة الشعائر الخاصة بغير المسلمين 7/أقسام التشبه بحسب الزمان والمكان والحال 8/أقسام المخالفين في العقيدة 9/المخالفة في أصل الخلقة 10/خطر التشبه بغير المسلمين وتقليدهماقتباس
أيها المسلمون: التشبه بالغير حالة تطرأ على النفس البشرية، تنبئ عن ولع هذا المتشبِه بمن تشبه به، ولذلك فإنها في كثير من أحيانها تعتبر ظاهرة غير صحية، إذ إنها تدل على رغبة صاحبها في الخروج عن طبيعته إلى طبيعة غيره الذي يختلف عنه في الخُلُق والخَلْق، ثم يمتد أثرها ليشمل مظهر الفرد والأمة، ثم تبعيتها للغالب. لهذا ولغيره أولت الشريعة هذه القضية اهتماماً بالغاً، وحرصت على محاصرتها في مبادئ نشوئها قبل أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: التشبه بالغير حالة تطرأ على النفس البشرية، تنبئ عن ولع هذا المتشبِه بمن تشبه به، ولذلك فإنها في كثير من أحيانها تعتبر ظاهرة غير صحية، إذ إنها تدل على رغبة صاحبها في الخروج عن طبيعته إلى طبيعة غيره الذي يختلف عنه في الخُلُق والخَلْق، ثم يمتد أثرها ليشمل مظهر الفرد والأمة، ثم تبعيتها للغالب.
لهذا ولغيره أولت الشريعة هذه القضية اهتماماً بالغاً، وحرصت على محاصرتها في مبادئ نشوئها قبل أن تستفحل لتصبح ظاهرة مرَضِيّة على مستوى الأمة بأسرها.
التشبه مرض خطير ذو آثار سيئة على الفرد والأمة ينوء بإحصائها خطبة جمعة، لكن لا بد من الإشارة ولو بالقليل لأخذ الحيطة والحذر، وتجنب الوقوع في الكثير.
أيها المسلمون: التشبه بالغير في أصله نابع من تفضيل الإنسان هيئة غيره على هيئة نفسه، وقد يكون محموداً، وكثيراً ما يكون مذموماً لا سيما إذا كان تشبُهاً بالمخالف في أصل الخِلقة أو الديانة، إذ ربما اقتضى عدم رضا الفرد أو المجتمع بالهيئة التي خلقها الله عليها، وهو الأمر الذي يتضمن شيئاً من كفران النعمة التي اختص بها الله -عز وجل- ذلك الفرد أو المجتمع، فالرجل المتشبه بالمرأة، غير راض عن هيئته التي كرمه الله عليها، لينتقل إلى هيئة مغايرة إلى إنسان آخر اختصه الله بخصائص أخرى، وكذلك حينما تتشبه الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، فكأنها بذلك تعلن بصراحة أن هيئة تلك الأمة الكافرة خير لها من هيئتها التي كرمها الله -جل وعلا- بها.
التشبه بالغير دليل قوي على الضعف النفسي الداخلي للفرد أو الأمة، وهو دليل على هزيمة نفسية بالغة، والشريعة لا تقبل من المسلمين أن يعلنوا تلك الهزيمة الشنيعة، وأن يعترفوا بها حتى وإن كانت واقعاً.
إنّ الاعتراف بالهزيمة وإعلانها على الملأ يزيد الضعيف ضعفاً، ويزيد القوي قوة، ويُمكّن القوي من رقبة الضعيف، بل يتجاوز ذلك إلى الإعلان الصريح بالخضوع والتعظيم لهذا المتشبَه به، فلذا حرصت الشريعة على دفعه بكل شكل.
إن العزيز لا يمكن أن يحاكي غيره، فضلاً عن أن يتشبه به، بل إنه ينتظر من غيره أن يحاكيه ويقلده.
فالتشبه بالغير ينبعث من نفسية محطمة ذليلة، هذه النفسية أكبر عائق لنهوض صاحبها مادياً ومعنوياً.
ولهذا فإن العقلاء من أي أمة من الأمم يأبون أن تُقلِّد شعوبهم عدوهم، بل إنهم يحرصون على تميزهم بتراثهم وتقاليدهم وأزيائهم، حتى ولو رأوا أن العدو له تراث وتقاليد وأزياء خير مما هم عليه، وما ذلك إلا لأنهم يدركون الأبعاد النفسية والاجتماعية، بل والسياسية للتبعية الشكلية للعدو.
أيها المسلمون: التشبه في المظهر الخارجي يبعث الباطن على الميل والمحبة، وهذا أصل مقرر من طبائع النفس البشرية، وأصله أن الإنسان كلٌ بطبيعته، لا ينفصم جزء منه عن الآخر، فكما أنه إذا مرض منه عضو تأثرت له باقي الأعضاء، فكذلك باطنه وظاهره بينهما ارتباط وثيق، فأعمال الطاعات الظاهرة تزيد في الإيمان القلبي، وأعمال القلوب الباطنة تحرك الجوارح للعمل، وهكذا.
وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تقرير هذا الأصل وبيانه؛ لأن المشابهة في الزي الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن كما دل عليه الشرع والعقل والحس، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب.
وقديما قيل: "الطيور على أشكالها تقع" وهذا مثل صحيح، يوافق سنة الله في خلقه، وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم" [رواه الإمام أحمد وأبو داود وهو صحيح].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51].
وقال رحمه الله أيضاً: "وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام".
عباد الله: التشبه بالغير والولاء، لا سيما القلبي أمران متلازمان، والمسلمون مطالبون بالبراءة من الكفار بشتى أنواعهم، قال الله -جل وعلا-: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 28].
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله -عز وجل-" [رواه الطبراني وهو صحيح].
ومن المشاهَد في القديم والحديث: أنه ما قصد فرد أو طائفة مشابهة قوم آخرين إلا أصبح له نوع ولاء لهم، وحتى لو لم تقصد المشابهة، فإذا أصبحت ظاهرة متفشية، أورثت هذا الولاء.
ومما يُستَملح ذكره في هذا المقام أن دولاً مثل ألمانيا وفرنسا والصين حاربت تفشي الظاهرة الأمريكية بين أبنائها من لغة وهيئات وأشكال درءاً لخطر الولاء لأمريكا، وذوبان شخصية أبنائها.
ومن المؤسف أن بعض دول الغرب الكافرة أحست بهذا الخطر، وعملت على مقاومته أكثر مما عملت دول إسلامية كثيرة.
أيها المسلمون: إنّ التشبه الذي ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة، والذي ورد في كلام العلماء يحصل بإحدى طريقتين:
الأولى: قصد التشبه بطوائف معينة، بمعنى أنه ينوي التشبه بهم، والأصل فيه حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم".
وضابط هذا النوع، أن يقصد فاعله مشابهة طائفة من أولئك، فمدار المنع النية والقصد، وعليه فإن هذا النوع يحصل بقصد المسلم مشابهة فئة من الذين نُهي عن مشابهتهم، حتى لو تشبه في فعل أو قول ليس من خصائصهم، بل حتى لو كان مما يشتركون فيه مع غيرهم ممن لم يمنع المكلف من مشابهتهم. من أمثلة ذلك ما لو لبس الإنسان لباساً مباحاً أصلاً، ولو كان مشتركاً بين المسلمين والكفار، كالبنطال، لكنه لبسه بقصد أن يشابه الكفار، فقد ارتكب محرماً في أقل أحواله.
وهذا يظهر حينما يكون للإنسان هيئة وزي معين اعتاد عليه في بلده وبين قومه، ثم عمد إلى تغييره بغير سبب شرعي.
ومثله لو سمى الإنسان أحد أولاده باسم مشترك بين المسلمين والكفار، لكنه قصد مشابهة الكفار في هذا الاسم فقد ارتكب محرماً كذلك، ومن هذه الأسماء المشتركة سارة وسوزان وآدم ونحوها.
ولو نظّم الإنسان أثاث منزله بأثاث مباح في الأصل لكنه قصد ونوى التشبه بالكفار في منازلهم فقد ارتكب مخالفة ووقع في المحذور.
ولو لبست المرأة لباساً مشتركاً بين الرجال والنساء لكنها قصدت به مشابهة الرجال حرم عليها، بل تعرضت للعن والطرد من رحمة الله، وكذا الأمر بالنسبة للرجل. وكذا لو قصد الرجل إلانة صوته واستعمال بعض الكلمات قاصداً بذلك مشابهة النساء دخل في الذم، بل في اللعن.
وإذا سنت الدولة أنظمة أو خططت مدنها أو مبانيها قاصدة بذلك التشبه بالدول الكافرة، حرم هذا القصد في أقل أحواله، ونُظر في ذات الفعل، فإن كان فيه مصلحة راجحة ولا بديل عنه وهو خارج عن المشابهة، فلا بأس وإلا وجب تغييره.
وهذا النوع أعني التشبه بقصد ونية هو أشد أنواع التشبه تحريماً، بل قد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه قد يكون في بعض الأحوال كفراً مخرجاً من الملة -نسأل الله السلامة-.
أما الطريق الثاني: فهو مشابهة أحد تلك الطوائف فيما هو من خصائصهم، كألبستهم وأعيادهم ونحوه، والأصل فيه كل حديث أمر بمخالفتهم، أو نهى عن مشابهتهم في أمر من الأمور معللاً إياه بأنه من فعل الذين كفروا، أو اليهود أو النصارى؛ مثل حديث يعلى بن شداد بن أوس الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" [رواه أبو داود بإسناد حسن].
وحديث عمرو بن العاص مرفوعاً: "فَصلُ ما بين صيامنا وصيام اليهود أكلة السَّحَر" [رواه مسلم].
فضابط هذا النوع هو المشابهة فيما هو من خصائصهم، أي مما يختصون به ويكون شعاراً لهم وعلامة يتميزون بها عن غيرهم.
فالشرع أُمِرَ المسلمون على وجه العموم أن يتميزوا عن اليهود والنصارى والمشركين في الأمور التي تعتبر من شعارات هؤلاء القوم.
يأتي السؤال: كيف نعرف أن هذا الأمر من خصائصهم؟.
الجواب: يُعرف أنه من خصائصهم أنه إذا رئي هذا الفاعل لذلك الفعل لقيل عنه إنه من تلك الطائفة التي منع من مشابهتها، وهذا واضح في الفعل الذي لا يفعله إلا المخالفون من يهود ونصارى وغيرهم، أما الفعل المشترك بين المسلمين وغيرهم، أو بين طائفة وغيرها، لكن أغلب من يفعله هم الطائفة التي نهي عن التشبه بها، لم تعد تلك المشابهة من القسم الممنوع؛ لأن الفعل ليس من خصائصهم التي يتميزون بها عن غيرهم.
ولهذا فقد أسلم الصحابة، ومنهم من كان مشركاً، ومنهم من كان نصرانياً أو يهودياً، ولم يؤمر أحد فيما نقل أن يغيّر من لباسه، أو من أموره الأخرى لمجرد مخالفة قومه السابقين والتميز عنهم.
أيها المسلمون: ويختلف التشبه باختلاف العرف، أي بحسب الزمان والمكان والأحوال، فقد يكون هناك ثمت فعل من خصائص طائفة في وقت ما أو زمان ما، لكنها أصبحت مشتركة بينهم وبين غيرهم في زمان آخر أو مكان آخر، فلا يكون عندئذ هذا الفعل من خصائصهم، إلا إذا ورد نص يفيد النهي عنها لذاتها وجعلها بذاتها تشبهاً، فعندئذ يكون فعلها نفسه محرماً، ويكون كذلك من التشبه بصرف النظر عن الزمان والمكان.
وأوضح مثال على اختلاف الحكم بحسب عرف الزمان والمكان، بعض الألبسة؛ فمثلاً لو أن بلداً من البلاد لا يعرفون البنطال إلا أنه لباس للنصارى، فعندئذ يكون لبسه في حق أولئك القوم محرماً؛ لأنه من خصائص النصارى، ويكون جائزاً لغيرهم لأنهم اشتركوا معهم فيه.
اللهم علمنا ما ينفعنا...
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: التشبه بالغير حالة مرضية تطرأ على النفس البشرية تجعلها تميل إلى محاكاة غيرها والتشبه به، فلذا قد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في العقيدة، وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في أصل الخلقة، وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في وصف الخلقة.
ولذلك فقد نهى الشارعُ المسلمَ أن يحاكي أصنافاً معينة تدل الرغبة في محاكاتهم على تذمر الإنسان من الهيئة التي أختارها الله له، أو رغبته في محاكاة من أهم أنقص رتبة منه في الاعتقاد أو في الخلقة.
فهناك المخالفون في العقيدة، وهؤلاء بدورهم أقسام:
فأول المخالفين في أصل العقيدة هو: الشيطان الرجيم، ولذا فقد ورد النهي عن التشبه به فيما هو من خصائصه مثل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عمر: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" [رواه مسلم].
ومنهم: المخالف مخالفة كلية في أصل الدين فلا يَنسِب نفسه للإسلام أصلاً، كاليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين والسيخ والهندوس والبوذيين ونحوهم.
ومنهم: من ينتمي إلى اسم الإسلام، لكنه خارج منه بالكلية، كالقاديانية والبهائية والإسماعيلية الباطنية والنصيرية وأضرابهم.
ومنهم: من ينتمي للإسلام وعدّه العلماء من أهل القبلة، لكنه أتى ببدعة أخرجته من الملة ومن الإسلام بالكلية، كالروافض وبعض الخوارج.
ومنهم: من ينتمي للإسلام لكنه صاحب بدعة من البدع الكبار، قد يكفر بها وقد لا يكفر، كبعض أهل الاعتزال وبعض الإباضية ونحوهم.
ومنهم: من ينتمي للإسلام، ولم يأت ببدعة من البدع الكبار، لكنه اشتهر ببدعة معينة أصبحت عَلَماً عليه كبعض أهل التصوف.
ومنهم: من ينتمي للإسلام لكنه مقترف مصرٌّ على كبائر الذنوب -والعياذ بالله-.
ومنهم: من ينتمي للإسلام لكنه مجاهر بالمعاصي والذنوب.
فكل طائفة من هؤلاء، إن كان لهم ما يميزهم عن غيرهم من الطوائف من هيئة أو لباس أو فعل، فلا يجوز تشبه أهل الاستقامة بهم بحال من الأحوال.
أيها المسلمون: وهناك المخالف في أصل الخلقة؛ كالحيوانات والبهائم، فلا يجوز للإنسان وقد خلقه الله -جل وعلا- وكرمه على سائر المخلوقات أن يتشبه بالحيوان الذي هو مخلوق مسخر للإنسان لا يعقِل، ولا يُكلف.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على المنع من التشبه بالحيوانات.
فلا يجوز للإنسان أن يتشبه في هيئته بهيئة الحيوان، كأن يقص شعره مثلاً مقلداً شكل حيوان، ولا أن يلبس لباساً يظهره على أنه حيوان، ونحو ذلك.
وهناك المخالف في وصف الخلقة، وهذا فيما كان بين الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل التشبه بالمرأة، والمرأة يحرم عليها التشبه بالرجل، قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال" [أخرجه البخاري].
أيها المسلمون: إن التشبه بأهل الكفر والشرك في أزيائهم وعاداتهم وأحكامهم وسياساتهم واقتصادهم قد جرى في كثير من أوساط المسلمين جريان الدم في العروق، وسرى سريان النار في يابس الحطب، بل ولربما صار المتفرنج المحاكي موضع إجلال الدهماء وإكبارهم، يحتذيه المنهزمون فكرياً وأغرارهم، حتى يساير ذلك كله الغوغاء من أبناء هذه الأيام، مترفهم ومثقفهم.
بِأس للتقليد والتبعية! ما أثقل أغلالهما! وما أشد ظلمة مسالكهما!.
بِأس للتقليد ومسايرات الغرب! فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة من التبعية الماحقة، وحجبت عنهم أنواع التفكر والتبصر والعِزّة، وأغلقت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس.
إن الأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، ويجب ألا تغتر بما تراه من زخرف الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عراها: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 131].
وإن حضارة الغرب كالسراب، الذي يُرى في القيعان من الأرض عن بعد، كأنه بحر وهو لا شيء: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النــور: 39].
ألا فليعلم المخدوعون والمغفلون منا، الذين يحاولون في تبعيتهم أن يؤلفوا الأمة على خَلْقٍ جديدٍ ينتزعونه من المدنية الغربية.
ألا فليعلموا أن الخَلْق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لا بد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، أعظم ما يصلح لنا من التغير: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد: 11].
وأما أن نأخذ من الغرب الكافر عادات وطبائع أجنبية عن ديننا، فلنتذكر أن الإسلام إسلام، وأن الكفر كفر، وأن القوم في نصف الأرض، ونحن في نصفها الآخر، وأن الصراع بيننا قائم إلى قيام الساعة.
ولقد كنّا سادة قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا فيها، ومن أثرها في المجتمعات المسلمة الحرة ما أفسد رجولة بعض رجالها، وأنوثة بعض نسائها؛ لأنهم اندفعوا اندفاعاً محموماً وراء المجهول، في حلبة التقليد الأعمى، لقد راعهم من الغرب بريق مصانعه، وطرافة منتجاته.
أيها المسلمون: إن القيود التي يفرضها الدين على الإنسان، لا يريد بها عذابه ولا حرمانه، إنما يريد بها أن يرتفع بها من الحيوانية الهابطة، إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على التبعية التحررية، ويتغلب الإيمان والتقوى على الشهوة البَهَيميَّة، وإن كل مجتمع يخرج على هذه القيود، أو يهون من شأنها، فإنه يعرض نفسه للخطر ويقرب بها من حافة الهاوية: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229].
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50].
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم