من الشاكية؟

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2024-01-26 - 1445/07/14 2024-02-06 - 1445/07/25
عناصر الخطبة
1/قصة أول شكاية منذ خلق الله الخلق 2/أهمية صلة الرحم 3/التحذير من قطع الأرحام 4/عقوبات قطع الرحم 5/ثمرات صلة الأرحام 6/وسائل صلة الأرحام.

اقتباس

ألَا ما أعظَمَ الخسارَةَ لِمن قُطِعَ عن الله -عزَّ وجلَّ-! فأيُّ خيرٍ يرجوه؟ وأي سعد يؤمِّله؟ والرَّحمن الرحيم الذي وسعَت رحمتُه كلَّ شيء قد قطعَه؟ فحذارِ حذار من قطيعة الشَّاكية. أمَّا الذي يصِلها، ويؤدِّي حقَّها، ويحفظ حُرمَتَها؛ فإن الله يصِلُه، ويفيض عليه من الكَرامات والعطايا والهِبات، فمَا أعظم ما يجنيه الواصِلُ

الخطبةُ الأولَى:

 

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: ما هي أول شكاية منذ خلق الله الخلق؟ ومن الشاكية؟ ومن المُشْتَكى؟ وما هي شكايتها؟ وإلى مَن بثَّت الشكاية؟ 

 

جاءت تبث شكاية من أهلها *** لله تضرع والمدامع باكية

وتمسكت بالعرش ترجو نصرة *** يا رب نصرك إنني لك شاكية

قطعوا أواصر وُدّنا وتصرمت *** أيام وصل بالمحبة زاكية

غضب الإله لحزنها وبكائها *** فأحل سخطته فأين الشاكية؟

يا ويحهم فازوا بسخطة ربهم  *** هذي الليالي للفجيعة حاكية

 

من هي الشاكية؟

وعَدَ الله مَن أحسَن إليها وأدَّى حقَّها بأن يصِلَه بالخيرات والمسرَّات، ويُنزِل به الرَّحمات، وتوعَّد مَن جار عليها وضيَّع حقَّها بأن يقطَع عنه الرَّحمات والخيرات، ويُوقعَه في النَّدامة والحسرات، فلا السَّعد يجاوره والهناء يحل بداره، بل تحلُّ عليه السخطةُ وتنزل به المَثُلات.

 

من هي الشاكية؟

الشَّاكية شجْنَةٌ من الرحمن، اشتقَّ لها من اسمه، الشَّاكية هي الرَّحِم، حدَّثَنا عنها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "للرَّحِم حُجْنَة متمسِّكة بالعرش، تكلَّمُ بلِسان ذَلِقٍ: اللهمَّ صِلْ مَن وصَلَني، واقطَع مَن قطَعني، فيقول الله -تبارك وتعالى-: أنا الرَّحمن الرَّحيم، وإنِّي شققتُ للرَّحِم من اسمي؛ فمَن وصلها وصلتُه، ومَن بتكها بتكتُه"(رواه البزار، وحسنه الألباني).

 

وفي رواية: "إنَّ الرَّحِم شِجْنَة من الرَّحمن تقول: يا رب، إنِّي قُطِعتُ، يا رب، إنِّي أُسيءَ إليَّ، يا رب، إنِّي ظُلِمتُ، يا رب، يا رب! فيُجيبها: ألا ترضَينَ أن أصِلَ مَن وصلَكِ، وأقطع مَن قطعك؟!"(رواه الإمام أحمد وصحَّحه الألباني). وفي رواية البخاري تقول: "هذا مقامُ العائذِ بك مِن القطيعة".

 

الشَّاكية هي الرَّحِم، والرَّحِم هم: الوالِدان ووالدوهم وإن علَوا، والأولاد وأولادهم وإن نزَلوا، والإخوة وأولادهم، والأخوات وأولادهنَّ، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات.

 

وقيل: إنَّ الرَّحِم عامٌّ في كلِّ ما يشمله الرَّحِم؛ فكلُّ قريبٍ لك هم من الرَّحِم الذين تجِب صلَتُهم؛ فيدخُلُ فيهم أولاد العمِّ وأولاد العمَّة، وأولادُ الخال وأولاد الخالة وأولادهم، كلُّ هؤلاء يدخلون تحت مسمَّى الرَّحِم.

 

إنَّها الشَّاكية، فحذارِ حذارِ من شكايتها، وحذارِ حذار من قطيعتها والتفريطِ في حقِّها؛ فقد توعَّد الله قاطِعَها بعقوباتٍ عظيمة، منها:

أولاً: حلولُ لعنة الله بالقاطِع؛ قال الله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [سورة محمد: 22-23]، قال عليُّ بن الحسين لولده: "يا بني، لا تصحبنَّ قاطِعَ رحِم؛ فإنِّي وجدتُه ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواطن".

 

 

ثانياً: الخسارة والبوار؛ قال الله -تعالى- (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 26- 27].

 

 

ثالثاً: تُعَجَّل له العقوبة في الدنيا؛ فعن أبي بكرٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِن ذنبٍ أجدَر أن يُعجِّل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخِر له في الآخِرة، مِن البَغي وقطيعةِ الرَّحِم"(رواه أبو داود والترمذي).

 

رابعاً: ردُّ الأعمال وعدم قبولها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ أعمال بني آدم تُعرَض على الله -تبارك وتعالى- عشيَّةَ كل خميس ليلة الجُمُعة، فلا يقبل عمَل قاطِع رحِم"(رواه أحمد وحسنه الألباني).

 

خامساً: قَطْع صِلَة الله به، فيُحرَم من الخيرات والبرَكات، وتحلُّ به النِّقَم والعقوبات؛ فعن عائشة -رضي الله عنه- قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّحِم معلَّقةٌ بالعرش تقول: مَن وصَلَني وصلَه اللهُ، ومَن قطَعَني قطَعَه الله"(رواه البخاري ومسلم).

 

 

ألَا ما أعظَمَ الخسارَةَ لِمن قُطِعَ عن الله -عزَّ وجلَّ-! فأيُّ خيرٍ يرجوه، وأي سعد يؤمِّله، والرَّحمن الرحيم الذي وسعَت رحمتُه كلَّ شيء قد قطعَه؟! فحذارِ حذار من قطيعة الشَّاكية!

 

 

 

سادساً: الحِرمان من دخول الجنَّة ابتداءً؛ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَدخل الجنَّةَ قاطِعُ رَحِم"(رواه الترمذي).

 

 

 ألَا ما أعظم الحِرمان!، ألَا ما أعظم الحِرمان! أعاذنا الله وإياكم من قطيعة الرحم، وجعلنا من الواصلين بمنّه وكرمه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: عباد الله: إنَّها الشَّاكية؛ وتلك بعض عقوبات قاطِعها، أمَّا الذي يصِلها، ويؤدِّي حقَّها، ويحفظ حُرمَتَها، فإن الله يصِلُه، ويفيض عليه من الكَرامات والعطايا والهِبات ما لا يَعلمه إلَّا هو -سبحانه-، فمَا أعظم ما يجنيه الواصِلُ من الثَّمرات؛ ومنها:

 

أولاً: أنَّها سبب لزيادة العُمر وبسط الرِّزق؛ فعن أنس بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحبَّ أن يُبسط له في رِزقه، ويُنسأ له في أثَره، فلْيصِل رحِمَه"(رواه البخاري ومسلم).

 ومعنى "يُنسأ له في أثَره"؛ أي: يُزاد في عمره؛ أي يبارك فيه.

 

ثانياً: أنَّها تعجِّل الثَّواب للواصِل في الدنيا، فيَنعَم بالهناء والسَّعادة وقرَّةِ العين؛ فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس شيء أُطِيع الله فيه أعجَل ثوابًا من صِلَةِ الرَّحِم، وليس شيء أعجَل عقابًا من البَغي وقطيعَةِ الرَّحِم"(رواه البيهقي وصححه الألباني).

 

 

ثالثاً: أنَّها سبب في حُسن الخاتِمة ودفع ميتة السُّوء؛ فعن عليٍّ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سرَّه أن يمدَّ له في عمره، ويوسَّع له في رِزقه، ويُدفع عنه ميتة السُّوء، فليتَّقِ اللهَ وليصِل رحِمَه"(رواه عبدالله بن أحمد في زوائده على المسند بسند صحيح، وصحَّحه أحمد شاكر، وقوى إسناده الأرناؤوط).

 

 

 رابعاً: أنَّها تنمِّي الأموالَ، وتعمر الدِّيار؛ فعند أحمد ورجالُه ثِقات عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "صِلَة الرَّحِم وحُسن الجوار وحُسن الخُلُق يَعمُران الدِّيار، ويزيدان في الأعمار"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

 

خامساً: أنَّها سبب محبَّة الأهل للواصِل، والثَّراء في المال؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ صلَة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، مَثْراة في المال، مَنْسأة في الأثَر"(رواه الإمام أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني).

 

 

 

سادساً: أنَّها من أحبِّ الأعمال إلى الله؛ سأل رجلٌ من خثعم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمال أحَبُّ إلى الله؟ قال: "الإيمانُ بالله"، قال: ثمَّ مه؟ قال: "ثمَّ صِلَة الرَّحِم"(رواه أبو يعلى، وصحَّحه الألباني).

 

 

سابعاً: الرَّحِم تَشهد للواصِل بالوصْل يومَ القيامة؛ فعن ابن عباس قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "وكلُّ رحِمٍ آتيةٌ يوم القيامة أمام صاحِبها تشهد له بصِلةٍ إن كان وصَلَها، وعليه بقطيعةٍ إن كان قطَعَها"(رواه البخاري في الأدب المفرد، وصحَّحه الألباني).

 

ثامناً: أنَّها سبَب لدخول الجنَّة؛ فعن أبي أيوب الأنصاري، أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن عمَلٍ يُدخِلُه الجنَّة ويباعِده من النَّار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تعبدُ اللهَ لا تُشرِك به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاة، وتصِل الرَّحِم"(رواه البخاري ومسلم).

 

 ولكن ماذا لو أنَّ العبد ابتُلِيَ برَحِمٍ قابلوا وصْلَه بالقطيعة، وإحسانَه بالإساءة، وحِلمَه بالجهالة؟

 يجيبُنا الحبيبُ -صلى الله عليه وسلم- حين سأله رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عنهم ويَجهلون عليَّ، فقال: "لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك"(رواه مسلم).

 

كيف تكون صلة الشاكية؟

 

صِلتها تكون بأن يحرِص العبدُ على إيصال كلِّ ما أمكَن من الخير إلى رحِمه، ودفْع كل ما أمكَن عنهم من الشرِّ، ويَدخل في ذلك:

1- الدُّعاء والاستِغفار لهم.

 

 2- دعوتُهم إلى الخير ودلالاتهم عليه، ومناصحتُهم.

3- زيارتُهم، واستضافتُهم.عيادةُ مرضاهم، واتِّباع جنائزهم مشاركتهم في أفراحهم بتهنئتهم، ومواساتُهم في أحزانهم.

 

4- تفقُّدُ أحوالهم، والسؤال عنهم، والاتصال بهم؛ فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام"(رواه البيهقي وحسنه الألباني). معنى "بلوا": أي ندوها بصلتها.

 

5- الإنفاق على فقيرهم، والسَّعيُ في سدِّ حاجته؛ فعن سَلمان بن عامر عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصَّدَقة على المسكين صدَقةٌ، وهي على ذي الرَّحِم اثنتان: صدَقة وصِلَة"(رواه النسائي وحسَّنه الألباني).

 

 

إذا وفِّق العبد لذلك، سلم من شكاية الرَّحِم وعقوباتِ قطعها، وفاز بثِمار وصْلِها.

 

جعلَني اللهُ وإياكم من أهل البرِّ والصِّلة، ونجَّانا من شكاية الشاكية.

 

المرفقات

من الشاكية؟.doc

من الشاكية؟.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات