عناصر الخطبة
1/أهمية الأمن للأوطان 2/عاقبة قوم سبأ لما كفروا بالله 3/أفضل ما يحفظ للناس أمنهم 4/الحث على الالتفات حول ولاة الأمر 5/أهمية الأمر بالمعروف في حفظ الأمناقتباس
أرسل الله على أصل السد الفار، وهو الجرذ، ويقال: الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير، فلم تغن شيئا؛ إذ قد حم القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر، فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار، فسلك الماء القرار...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا شيء يعدل الأمن في الأوطان بعد الهداية للعقيدة الصحيحة، فبدون الأمن لا يستطيع العبد أن يجد طريقا للسعادة؛ فالخوف ينغص على العبد كل وقت ولحظة، بل إنه يعطل الحياة، ولقد امتن الله على العبيد بالأمن، فقال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67]، ومصداق هذه الآية أن تنظر إلى ما حولك من الدول التي فقدت الأمن، كيف عيشها الآن؟!.
ولقد ضرب الله للناس مثلا بدولة كان لهم فيها آية، إنها دولة سبأ في الماضي حيث ذكر الله قصتهم في كتابه، فقال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 15 - 17].
وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس، التي ذكر الله قصتها مع نبي الله سليمان -عليه السلام-، وقد كانوا في غبطة عظيمة، وأرزاق دارة، وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار، قال وهب بن منبه: "أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا".
ثم إنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال، وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم، كما قال -تعالى-: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 16، 17].
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم: أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال: كان أول من بناه سبأ بن يعرب، وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكْملْ بناءه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ.
وكانوا في غبطة عظيمة، وعيش رغيد، وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره: أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته، وذكروا: أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث، ولا الدواب المؤذية؛ لصحة هوائهم، وطيب فنائهم، كما قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15]، وكما قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
فلما عبدوا غير الله، وبطروا نعمته، وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم، وطيب ما بينها من البساتين، وأمن الطرقات، سألوا أن يباعد بين أسفارهم، وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب، وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا، كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى: البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل؛ فسلبوا تلك النعمة العظيمة، والحسنة العميمة، بتخريب البلاد، والشتات على وجوه العباد، كما قال -تعالى-: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)[سبأ: 16].
قال غير واحد: أرسل الله على أصل السد الفار، وهو الجرذ، ويقال: الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير، فلم تغن شيئا؛ إذ قد حم القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر، فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار، فسلك الماء القرار، فقطعت تلك الجداول والأنهار، وانقطعت تلك الثمار، ومادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار، كما قال العزيز الجبار: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)[سبأ: 16].
هذه عقوبة من كفر النعمة كما قال -تعالى-: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 17]، أي: إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.
اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا شيء يحفظ للناس نعمة الأمن مثل تطبيق شرع الله -تعالى-، ومتى ما حادوا عنه سلط الله عليهم الخوف، وسلبوا الأمن بقدر ما تركوا من الشرع.
عباد الله: نحن في بلد آمن، ورزق دار، واتحاد في الكلمة بين الراعي والرعية، وهذا ما حدا بمن حولنا -ممن يحسدوننا- أن يتربصوا بنا الدوائر؛ لينزعوا هذا الخير الذي نعيشه، فكونوا على حذر، واعرفوا عدوكم الأول الذي يتربص بكم، ويتمنى لو تمكن منكم ومن خيراتكم، واعرفوا مكانة إخوانكم على الثغور في حدود اليمن الذين يذودون عنا وعن أهلينا وأموالنا بأرواحهم، فلا تنسوهم من الدعاء.
أيها المؤمنون: استمسكوا بشرع الله، ولا تحيدوا عنه، واحذروا من المعاصي صغيرها وكبيرها؛ فإن المعاصي تزيل النعم، واعلموا أن أعداء الدين يتربصون بكم بالليل والنهار، ولن يتغلبوا عليكم ما دمتم بشرع الله متمسكين، فإن الله ينصر من نصر الدين، ويخذل من خذل الدين، وما دمتم متمسكين ببيعة أمرائكم، تبذلون لهم النصح، وتدعون لهم بالهدى والصلاح، ولا تسمحون للمتربصين أن يفرقوا بينكم وبينهم، وكذلك الحذر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فنحن في هذا البلد -ولله الحمد- أهله رضعوا العفة والعفاف، وولدوا في بيئة متمسكة محافظة، فاحذروا من فتن الدنيا، فوالله إن للفتن إقبالا على الناس كالليل المظلم، التي يصبح المؤمن مسلما ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا -والعياذ بالله-، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، هذه هي الفتن إذا وقعت، أعاذنا الله وإياكم منها.
معاشر المؤمنين: لن تهلك الأمة طالما أنها تأمر المعروف وتنهى عن المنكر؛ فهو صمام الأمان، ولكن الخوف والحذر من أن يعمل المنكر ولا ينكر، حتى يكون كالمعروف، فتتبدل الحقائق، وعندئذ تحل العقوبة على الجميع والعياذ بالله، أخرج الترمذي في سننه من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم