منزلة الشهداء وصمود المرابطين الأحياء

الشيخ محمد سرندح

2023-01-20 - 1444/06/27 2023-01-29 - 1444/07/07
عناصر الخطبة
1/سلام على أرواح الشهداء والأسرى والمكلومين 2/منزلة الشهداء عند رب العالمين 3/الموقف السلبي لدول العالم من الاعتداءات على أبناء فلسطين 4/تأييد ومساندة الصامدين المرابطين في أرض فلسطين 5/بشائر ونسائم شهر رجب المحرم

اقتباس

بُشرى لكم أهل فلسطين، أهل الرباط، أهل الثبات، أرواح شهدائنا في عليين، وكأني بها مع الله كفاحًا تتمنَّى على الله أن يُحرَّر أقصانا، ولعل أرواح شهدائنا التي ارتفعت في شهر رجب المحرَّم تتمنى على الله أن يحرر الأقصى كما حرره صلاح الدين في رجب...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله؛ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غَافِرٍ: 51-52].

 

الحمد لله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200].

 

الحمد لله؛ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يُوسُفَ: 110].

يا مَنْ إليه جميعُ الخَلقِ يَبتَهِلُ *** وكلُّ حيٍّ على رُحماهُ يتَّكِلُ

 

يا مَنْ نأى ورأى ما في القلوب وما تحتَ الثَّرى وحجاب الليل منسدلُ، أنتَ المنادى في كل نائبة، أنتَ المنادى في كل مصيبة، أنتَ المنادى لكلِّ شهدائنا، أنتَ المنادى لأمهاتنا، أنتَ المنادى لأقصانا، أنتَ المنادى لقرآننا، أنتَ المنادى لجَرْحانا، أنتَ المنادى لمحاصَرينا، وأنتَ ملجأُ مَنْ ضلَّت به السُّبُلُ.

 

سلامٌ على أرواح شهدائنا في الأولينَ، سلامٌ على أرواح شهدائنا في الآخِرِينَ، سلامٌ على أرواحهم الطاهرة في الملأ الأعلى إلى يوم الدينِ، سلامٌ على شهدائنا في جِنِينَ، سلامٌ على شهدائنا في فلسطينَ، اللهم اجمَعْنا بهم مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ، اللهم اجمَعْنا بهم على حوض المصطفى -صلى الله عليه وسلم- واسقِنا من يده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدَها أبدًا.

 

وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، تفرَّد عزًّا وكمالًا، واختص بهاءً وجلالًا، بسم الله ما شاء الله، لا يسوق الخيرَ إلا اللهُ، بسم الله ما شاء اللهُ، لا يَصرِف السوءَ إلا اللهُ، بسم الله ما شاء اللهُ، ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاةً تكون لكَ رضاءً، ولنا أداء، صلاة تنور بها وجوهنا، وتشرح بها صدورنا، وتطهر بها قلوبنا، وتروح بها أرواحنا، صلاة تثقل بها ميزاننا، وترحم بها شهداءنا، وتثبت بها أسرانا، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين، والأئمة والفاتحين، وعلينا معهم أجمعين يا ربَّ العالمينَ.

 

عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا استُشهد أبي يوم أحد، لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا جابر، ألا أخبرك بما قال الله -عز وجل- لأبيك؟ قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ -سُبْحَانَهُ-: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 169]".

 

بُشرى لكم أهل فلسطين، أهل الرباط، أهل الثبات، أرواح شهدائنا في عليين، وكأني بها مع الله كفاحًا تتمنى على الله أن يُحرَّر أقصانا، ولعل أرواح شهدائنا التي ارتفعت في شهر رجب المحرَّم تتمنى على الله أن يحرر الأقصى كما حرره صلاح الدين في رجب، تتألق أرواح الشهداء وتعرج في عليين، ورأى -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج قومًا يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال جبريل: "هؤلاء المجاهدون في سبيل الله".

 

بينما تضيء أرواح الشهداء سماء فلسطين، يتغنَّى العالَمُ بالقلق، وتارةً يتغنَّى العالَمُ بالشجبِ والاستنكارِ، وِزاراتٌ ظالمةٌ تُظهِر الاستياء واتحادات دوليَّة تحذر، إلا أن الرقص على دمائنا لا ينطوي على المرابطين المحتسبين، فقد ألبَس اللهُ شهداءنا حللَ الكرامة والفَخَار، وقذَف في قلوب المؤمنين العزة والإباء، (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)[الْحَدِيدِ: 19]، (أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)[يُوسُفَ: 86]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غَافِرٍ: 51-52].

 

إلى كل مَنْ تركَنا: لن تقبل معذرتَكم، إلى كل مَنْ تواطأَ على فلسطين، إلى كل مَنْ خذَلَنا: لن تُقبَل معذرتُكم عند الله، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غَافِرٍ: 52]، وإلى كل من تآمر على الأقصى والمسرى: لن تقبل معذرتهم، وإلى كل من تآمر على آهل فلسطين لن تقبل معذرتهم، اللهم عليك بكل من أهمنا وغمنا وآذانًا وعادانا يا ربَّ العالمينَ.

 

أبشِروا أيها المرابطون، أيها الثابتون على الحق، إن الله ينصر من ينصره، وإن الله ناصرٌ أولياءَه في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، هذا رباطكم لن يضيع عند الله، "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَنْ خذَلَهم حتى يأتي أمرُ اللهِ وهم كذلك"، فأنتم أهل الحق وأهل الثبات، "لا يضرهم من خذلهم"، حيًّا الله هذه الوجوه الطيبة، التي تشد الرحال للأقصى فجرًا في كل يوم، فالصفوف في الفجر فوق التصوُّر والحمد لله، حيًّا الله هذه الوجوه المباركة التي سعت للجمعة والجماعة، حيًّا الله جميع الوافدين للأقصى من أقطار الأرض حبا للأقصى والمسرى.

 

يا أهل الرباط: إن القلاع الشامخة التي تساند وترابط في أرض الإسراء والمعراج تمثل الجسد الواحد، فالمؤسسات الطبيَّة هي درعٌ متينٌ في وطننا، كما نستهجن الاقتحاماتِ التي تطال المؤسَّسات الطبيَّة ضاربة بعرض الحائط كل الأعراف الدوليَّة والقوانين الإنسانية، فالدفاع عن الأقصى في محافل القانون رباط، وصبر أمهاتنا على مصابهن رباط، وقراءة القرآن في الأقصى رباط، وإكرام ضيوف الرحمن في الأقصى رباط.

 

إن الاستخفاف بالمسجد الأقصى واستباحته يُثير المسلمينَ عامةً، فكل الاقتحامات وما يتعبها من مسيرات استفزازيَّة تُؤجِّج مشاعرَ المرابطينَ والمسلمينَ عامةً، وإن ما جرى من اجتراء على قرآننا الكريم لهو بمثابة الاستخفاف بالمسلمين وبمشاعرهم وبدينهم، وإنَّنا نحذر كل من استخف بثوابتنا وقرآننا، أن عواقب هذه الأمور راجعة على من تسبب بها، وهم من يتحملون نتائجها، فمن السهل أن تشعل نارا، وليس بيدك إطفاؤها. فأين عقلاء العالم؟!

 

فبعدما حقَّق أعداءُ الإسلام أهدافَهم من تفريق الأمة الإسلاميَّة وجعلوها دولًا وأقاليمَ متشرذمةً، مزقتهم كل ممزق، إلى أن صرنا لمرحلة الغثاء، حب للدنيا وكراهية الموت؛ (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الْأَنْفَالِ: 46]، فمظاهر التآخي والتراحم التي سطرها شعبنا المرابط، من مبادرات للتبرع بالدماء، والمواقف المشرفة لإيواء الأسر التي هدمت منازلها، إن هذا التكاتف في تخفيف وقع المصائب على أسر الشهداء، ومواراة أجسادهم لهي داع من دواعي نبذ الفُرْقة والانقسام، وهو نداء عملي من شرائح المجتمع الفلسطيني بوقف هذه الفرصة، قال عليه الصلاة والسلام: "مَثَلُ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌فِي ‌تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ جَسَدٍ وَاحِدٍ، إِذَا اشْتَكَى الرَّأْسُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

 

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله القائل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرما فلا تظالموا، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "إن ‌الزمان ‌قد ‌استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان".

 

هلَّ على المسلمين ضيفٌ عزيزٌ، هو هذا الشهر المبارَك، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حرَّم اللهُ الظلمَ في جميع الأشهر، ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنَّ حُرُمًا، وعظَّم حرماتهنَّ، وجعَل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ جُرمًا، وجعَل العملَ الصالحَ والأجرَ فيهنَّ أعظمَ؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32]".

 

فالكَيِّسُ مَنْ يبتعد عن الظلم بأنواعه وأشكاله، (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، فلا تقترف أي ذنب أو أي ظلم كي تتهيأ للأشهر المباركة وأنت خلي الذنب وليس بينك وبين أحد مظلمة، ذلك تعظيم لشعائر الله، كما أن الظلم الذي حل بشعبنا الفلسطيني هو جرم عظيم يتحمل وزره كل من تغافل عن قضية المسرى، وتآمر على شعبنا، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[الْبَقَرَةِ: 124]، قال عليه الصلاة والسلام: "‌مَنْ ‌كَانَتْ ‌عِنْدَهُ ‌مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ"، فالله لا يحابي أحدًا.

 

أيها المرابط: أنتَ على ثغرة من ثغر الإسلام، فاحذر من يرتبص بك في هذا المسجد.

 

اللهم احفظ علينا ديننا، واحفظ علينا أقصانا.

 

أيها المكلوم ثِقْ بالله، أيها المظلوم أنتَ نزيلُ الديَّان، نادِ في الظلمات لتشكو له الهم والظلم معترفًا: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 87-88].

 

اللهم يا سابغ النعم، يا دافع النقم، يا فارج الغم، يا كاشف الظلم، يا أعدل من حكم، يا ولي من ظلم، يا حسيب من ظلم، يا أول بلا بداية، يا آخر بلا نهاية، اجعل لنا من همنا فرجا، واجعل للمسرى مخرجا، اللهم أنزل السكينة في قلوب المعتقلين، اللهم ارفع الحصار عن إخواننا المحاصرين، واكشف الظلم عن إخواننا المضطهَدِينَ.

 

اللهم ارحم شهداءنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اجز عَنَّا سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، واجز عَنَّا مشايخنا وعلماءنا خير الجزاء.

 

يا من جعلت الصلاة على النبي من القربات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

كما سنصلي صلاة الغائب على أرواح الشهداء الأبرار، وعلى سائر موتى المسلمين بعد الصلاة إن شاء الله -تعالى-.

 

وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ يرحمك الله.

المرفقات

منزلة الشهداء وصمود المرابطين الأحياء.pdf

منزلة الشهداء وصمود المرابطين الأحياء.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات