مكارم الأخلاق

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2024-08-23 - 1446/02/19 2024-09-02 - 1446/02/29
عناصر الخطبة
1/جولة في مكارم الأخلاق 2/نصوص الوحيين هما المصدران لمكارم الأخلاق 3/الآثار الجميلة للمجتمعات التي تمثلت مكارم الأخلاق 4/نماذج مشرقة لمن تمثل مكارم الأخلاق.

اقتباس

والكَمالُ في كُلِّ أَمْرٍ عَسِيْر، وحَسْبُ المُسْلِمِ أَنْ يَظَلَّ سَاعِياً لنَيْلِ أَكْرَمِ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَخلاقْ، يُحاسِبُ نَفْسَهُ ويُهذِّبُها، ويُقَوِّمُها ويُؤَدِبُها، ولا يَسْتَسْلِمُ أَمامَ مُعْضِلَةٍ؛ فَإِنْ أَخْفَقَ في كَرِيْمِ الخُلُقِ في مَوْقِفٍ، فَلْيَتَدَارَكْهُ في مَواقِفَ أُخْرَى...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

 

أَيُّها المُسْلِمُون: مُتَخَلِّقٌ بِأَخْلاقِ الكِرام، مُتَأَلِقٌ بَيْنَ الأَنامِ، يُعاشِرُ النَّاسَ بالمعَرُوفِ، ويُخالِطُهُم باحْتِرام، لا يَجْهَلُ ولا يَظْلِم، ولا يُؤْذِيْ ولا يَعْتَدِي، لَيِّنُ جانِبَهُ، آمِنٌ صَاحِبُه، لَطِيْفٌ مَعْشَرُه، يَبْتَدِئُ مَنْ يُقابِلُ بالسَلامِ، ويُقابِلُ مَنْ يُلاقِيْ بابْتِسام.

 

صَدْرُهُ رَحِيْبٌ، وكَفُّهُ خَصِيْبٌ، وخُلُقُهُ نَجِيْبٌ، وعَفْوُهُ قَرِيْبٌ، لا يُقابِلُ إٍساءَةً بِإِساءَة، ويُقابِلُ مَعْرُوفاً بِإِحسان.

 

يَتَغافَلُ عَنِ الزَّلات، ويَتَغَاضَى عَنْ العَثَرات، يُحْسِنُ الظَنَّ بالنَّاسِ، ولا يَسْتَجْلِبُ لِنَفْسِهِ العَداوات، لَيْسَ بالغَبِيِّ، لكِنُّه عَنْ هَفَواتِ الأَصْحَابِ يَتَغابَى، لَيْسَ بِالأَعْمَى، لَكِنَّهُ عَنْ سَقطَاتِ الأَحبابِ يَتَعامَى.

 

يَحْمِلُ النَّاسَ على أَحْسَنِ المَحامِل، لا يُؤَوِلُ مَقَاصِدَهُم على ما يُكْرَه، ولا يُفَسِّرُ مَواقِفَهُم على ما يَشِيْن، لا يَتَكَلَّمُ بِغِيْبَةٍ، ولا يَمْشِيْ بِنَمِيْمَةٍ، ولا يَسْمَعُ قَوْلَ قَتَّات، يُعامِلُ النَّاسَ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعامِلُوهُ بِه.

 

وُضِعَ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ مَحَبَّةٌ وقَبَول، شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الفَضْلِ بالفَضْلِ، وخَيْرُ النَّاسِ مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِالفَضْل، وأَنْتُمْ شُهداءُ اللهِ في الأَرْض؛ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْه- قَالَ: مَرُّوا بجَنَازَةٍ، فأثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا؛ فَقَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "وجَبَتْ" ثُمَّ مَرُّوا بأُخْرَى فأثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "وجَبَتْ"؛ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: ما وجَبَتْ؟ قَالَ: "هذا أثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا، فَوَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وهذا أثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا، فَوَجَبَتْ له النَّارُ، أنتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرْضِ"(متفق عليه).

 

شَهِدَ لَهُ أَهْلُهُ بالخَيْرِ و"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِه"، وشَهِدَ لَهُ أَصحابُهُ بالخَيْرِ و"خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه"، وشَهِدَ لَهُ جِيْرَانُهُ بالخَيْرِ؛ "وخَيْرُ الِجْيَرانِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِه"؛ فَنِعْمَ الجارُ ونِعْمُ الصَاحِبُ، ونِعْمَ المَرْءُ تَرَبَّعَ على مَكارِمِ الأَخْلاقِ، وما ذَاكَ علَى مَنْ سَعَى إِلى بُلُوغِهِ بِعَسِيْر؛ "وإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ".

 

لَيْسَتْ خِصالاً خَيالِيَّةً تَعْجَزُ عَنْ إِدْرَاكِها المَقاصِدُ، ولَيْسَتْ أَخْلاقاً مِثالِيَةً تَتَقاصَرُ عَنْ بُلُوغِها الغَايَات، و"إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ"

 

هِـيَ الْأَخْـلَاقُ تَـنْـبُـتُ كَـالـنَّـبَاتِ *** إِذَا سُـقِـيَـتْ بِـمَـاءِ الْـمَـكْـرُمَـاتِ

تَــقُــومُ إِذَا تَــعَـهَّـدَهَـا الْـمُـرَبِّـي *** عَـلَـى سَـاقِ الْـفَـضِـيلَةِ مُثْمِرَاتِ

وَتَــسْــمُــو لِـلْـمَـكَـارِمِ بِـاتِّـسَـاقٍ *** كَـمَـا اتَّـسَـقَـتْ أَنَـابِـيـبُ الْـقَـنَاةِ

 

وأَعَزُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ ما تَمَرَّدَتْ عَلَيْها النَّفْسُ، ونازَعَتْها فيها حُظُوْظَها، أَعَزُّ مَكارِمِ الأَخْلَاقِ ما تَعَسَّرَ عَلى النَّفْسِ قَبُولُها، حِلْمٌ في مُقَابَلَةِ جَهْلٍ، أَو إِحْسانٌ في مُقَابَلَةِ جُحُودٍ، أَو عَفْوٌ في مُقَابَلَةِ إِساءَة، قَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ"(رواه مسلم).

 

أَعَزُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ، صَفْحٌ عَمَّنْ أَساءَ، وَوَصْلٌ لِمَنْ قَطَع، وابْتِداءٌ بالسَّلامِ لِمَنْ هَجَر، أَعَزُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ، كَسْرٌ لِكِبْرِ النَّفْسِ حِيْنَ تَطْلُبُ شُحَّها، وتَأَبَى عَن الإِقْدامِ للمعرُوفِ؛ "لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلْتَقِيانِ: فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ"(متفق عليه).

 

أَعَزُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ، شَجاعَةُ صَابِرٍ قَادَ النَّفْسَ بِحِكْمَةٍ في مَوْاقِفِ بِها النَّفْسُ تُسْتَثار، إِذْ؛ "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"(رواه البخاري).

 

أَعَزُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ، بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ، الأَذَى، وَطَلاقَةُ الوَجْه، والتَجاوزُ عَمَّنْ أَساءَ، وقَدْ يَتَساوَى النَّاسُ في حُسْنِ الخُلُقِ في أَوْقَاتِ الرَّخاءَ، لَكِنَّما مَواقِفَ الشِّدَةِ تَكْشِفُ تَبايُنَهُم، وتُمَحِّصُ حَقائِقَهُم، وتَرْفَعُ مَنْ كانَ حَقّاً رَفِيْعاً.

 

يَتَبايَنُ النَّاسُ في أَخْلاقِهِم كَما يتَبَايَنُونَ في أَرْزَاقِهِم، ويَتَفاضَلُونَ في أَخلاقِهِم كَما يتَفاضَلُونَ في مَناصِبِهِم، لَكِنَّما الأَخْلاقُ كَسْبٌ لا يَحْجِبُ عَنْهُ حاجِبٌ، ولا يَحُولُ دُونَ بُلُوغِهِ حَائِل

 

إِذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ *** فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ

فَليسَ عَلى المَجْدِ وَالمَكْرُماتِ *** إِذا جِئِتَها حَاجِبٌ يَحْجِبُك

 

والكَمالُ في كُلِّ أَمْرٍ عَسِيْر، وحَسْبُ المُسْلِمِ أَنْ يَظَلَّ سَاعِياً لنَيْلِ أَكْرَمِ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَخلاقْ، يُحاسِبُ نَفْسَهُ ويُهذِّبُها، ويُقَوِّمُها ويُؤَدِبُها، ولا يَسْتَسْلِمُ أَمامَ مُعْضِلَةٍ؛ فَإِنْ أَخْفَقَ في كَرِيْمِ الخُلُقِ في مَوْقِفٍ، فَلْيَتَدَارَكْهُ في مَواقِفَ أُخْرَى.

 

وما كَمُلَ خُلُقٌ في بَشَرٍ، ما كَمُلَ في خُلُقِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- زَكَّاهُ رَبُهُ فَقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).

 

ومَنْ تَدَبَّرَ النُّصُوصَ الوارِدَةَ في فَضْلِ الخُلُقِ، قَوِيَتْ هِمَّتُهُ، وشُدَّتْ عَزِيْمَتُه، وتَحَقَّقَ مَطْلَبُه؛ (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

 

بارك الله لي ولكم،

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً؛ أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: ما ارْتَفَعَتْ لِلأَخْلاقِ رايَةٌ في مْجتَمَعٍ إِلا رُفِعُ، وما نُكِّسَتْ لَهُ فيهِ رايَةٌ إِلا وُضِع، جِيْلٌ يَنْهَلُ مِنْ مَنْهَلِ القُرآنِ لَنْ يَرْتَكِس، ونَشْءٌ يَرْتَوِيْ مِنْ حِياضِ الوَحِيِّ لَنْ يَنْحَطّ، فَمَنْ اسْتَمْسَكَ بِتعالِيمِ القُرآنِ سَمَا، ومَنْ تَأَدَبَ بآدَابِهِ شَرُف، سُئِلَتْ عائِشَةُ -رَضي الله عنها- عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَالَت : "إِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كَانَ القُرآنَ"(رواه مسلم)؛ أَيْ: يَأَتَمِرُ بأَمْرِهِ ويَنْتَهِيْ عَنْ نَهْيِه، ويَسْتَنِيْرُ بِنُورِهِ، ويَسْتَرْشِدُ بِهِداياتِه؛ (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

 

ولا يَزالُ المُسْلِمُ يَرْتَقِيِ بِمكَارِمِ الأَخلاقِ ما كانَ القُرآنُ لَهُ دَلِيْلا، فَلا يَغْتابُ ولا يَلْمِز، ولا يَسْخَرُ ولا يهْمِزْ، ولا يَكْذِبُ ولا يَظْلِم، ولا يُفْسِدُ ولا يَعْتَدِي.

 

مُتَأَدِبٌ بآدابِ القُرآنِ، يَحْفَظُ الحُقُوقَ ويَبْذُلُ الإِحْسان، يَفِيْ بالعَهْدِ ويصَدُقُ بالوَعْدِ، يَأَمُرُ بالمعروفِ ويَنْهَى عَنْ المُنْكَر، يَصِلُ الرَّحِمَ ويَبُرُّ الوَالِدَيْن، يُكْرِمُ مَنْ أَمَرَ القُرآنُ بإِكْرَامِهِ، ويَصِلُ مَنْ أَمَرَ القُرآنُ بِوَصْلِه، ويُحْسِنُ إِلى مَنْ أَمَر القُرآنُ بالإِحسانِ إِليه، لا يَزالُ المُسْلِمُ وَقَّافاً عِنْدَ كِتابِ اللهِ، حَتَى يَقِفَ مَوْقِفَ حَمْدٍ يَرْتَضِيْه؛ فَمِنْ هذا المَنْهَلِ، نَهَلَ كِرامُ هذهِ الأَمَةِ حَتَى كَرُمُوا.

 

غِضِبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- عَلى مِسْطَحٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ خاضَ في حادِثَةِ الإِفْكِ وتَكَلَّمَ في عِرْضِ عائِشَةَ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بنَافِعَةٍ أبَدًا، وكانَ أَبُوْ بَكْرٍ يُنْفِقُ على مِسْطَحٍ، وهُوَ مِنْ فُقَراءِ المُهاجِرِين؛ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ-: بَلَى واللَّهِ يا رَبَّنَا، إنَّا لَنُحِبُّ أنْ تَغْفِرَ لَنَا، وعَادَ لِمِسْطَحٍ بما كانَ يَصْنَعُ، وقَالَ: وَاللهِ لا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَداً، لَقَدْ هَذَّبَ القُرآنُ أَخلاقَهُم،.

 

ولَما دَخَلَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ على عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضْيَ اللهُ عنْه- وقالَ لَه: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ! فَوَاللَّهِ ما تُعْطِينَا الجَزْلَ، ولَا تَحْكُمُ بيْنَنَا بالعَدْلِ -قَالَها كاذِباً ظَالِماً- فَغَضِبَ عُمَرُ -رَضْيَ اللهُ عنْه- حتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ به، فَقالَ له الحُرُّ بْنُ قَيْسٍ -رَضْيَ اللهُ عنْه-: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قالَ لِنَبِيِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ ما جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عليه، وكانَ وقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ"(رواه البخاري) لَقَدْ هَذَّبَ القُرآنُ أَخلاقَهُم.

 

وسَيَبْقَى القُرآنُ مُهَذِّباً لَمَنْ اسْتَمْسَكَ بِه، ومَنْ بَقِيَ في شِقَاقٍ، مَعِ جَارٍ أَو صَاحِبٍ أَوْ قَرِيْب، ومَنْ بَقِيَ في هَجْرٍ لأَخٍ أَو لأُخْتٍ أَو نَسِيْب، فَلْيَعْرَضْ قَلْبَهُ عَلى قَوْلِ اللهِ -سُبحانَه-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، ثُمَّ لْيَنْظُرْ بِأَيْ جَوابِ سَيُجِيْب، فَإِن بادَرَ إِلى الوَصْلِ والإِصْلاحِ فَهْوَ المُؤْمِنُ التَّقِيُّ، المُوَفَقُّ الرَّضِيّ، وهو الأَقْرَبُ لأَخْلاقِ المرْسَلِيْن؛ (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

 

اللهم اهْدِنا لأَحْسَنِ الأخْلَاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ

 

المرفقات

مكارم الأخلاق.doc

مكارم الأخلاق.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات